بين المراجعة والتراجع: الإسلامويون السودانيون
تندرج قضية المراجعات
تحت مفهوم النقد الذاتي المعروف في العمل السياسي العام، ولكن ممارسة النقد بمختلف
صفاته من أصعب أنواع السلوك في المجتمعات التقليدية مثل المجتمع السوداني. وسبَّب
تجنب النقد والنقد الذاتي كثيراً من الانتكاسات، فقد ظل الجميع-الكيانات والأفراد-
يتهربون من مواجهة الأخطاء وبالتالي تصحيحها. ورغم أن هذه الظاهرة عامة في الساحة،
ولكن جماعات الإسلام السياسي في السودان، غالباً ما تكون الأكثر حرجاً حين تطالب
بالنقد، أو المراجعة، أو الاعتذار. ويعود ذلك، في المقام الأول، للقدسية التي
تنسبها لأفكارها، باعتبارها هب الإسلام، وليس مجرد فهم فصيل أو فرقة معينة. وهذا
التصور بادعاء آخر، هو ظنها امتلاك الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الباطل من أي
جهة. ولذلك، كان النقد الذاتي من أصعب الخيارات علي حركة الإسلام السياسي بسبب
إسلامويتها وسودانيتها معاً؛ الأولي، لأن أيديولوجيتها وصلت حد الوثوقية أو
الدوقمائية. والثانية، لأن المجتمع السوداني ذكوري الميول لا يحترم كثيراً التخلي
عن أفكار سابقة عٌرف بها المرء أمام الناس.
كانت النتيجة
ولوج الإسلامويين منطقة المكابرة، والإصرار علي الأخطاء والاستمرار فيها؛ لذلك، ظل
التبرير وليس التسبيب، والدخول في المغالطات؛ هي الآليات المفضلة في التعامل مع
حوار الآخر. وصرنا أمام حركة زئبقية يصعب الإمساك بمواقفها ومناقشتها بطريقة
عقلانية وموضوعية. والهروب من النقد الذاتي وعدم جدية المراجعات، ساهم بقدر كبير
في تعميق الأزمة السياسية الحالية التي يعيشها حكم الإسلامويين. وذلك لأن أي
محاولة صادقة للخروج من المأزق، يبدأ بالإقرار بوجود الأزمة والرغبة في الخروج
منها. ومن هنا كان تجاهل القوى السياسية لدعوة الحوار التي أطلقها الرئيس (البشير)
في خطابه بتاريخ 27 يناير 2004.
أولا: بدايات الاختلاف والمراجعة
عرفت الحركة الإسلامية
عموماً، ورغم انتشارها الجماهيري وقدمها النسبي، ممارسة النقد الذاتي في وقت قريب.
فقد قامت مجموعة من الإسلاميين ينتمون إلى تيارات وتنظيمات متعددة وإلى
أقطار مختلفة، في عام 1989 بكتابة أوراق في النقد الذاتي صدرت في مؤلَف عنوانه: (الحركة
الإسلامية: رؤية مستقبلية). وكانت تجربة جديدة، وظاهرة مثيرة للجدل والتخوف بين الإسلاميين.
واضطر محرر الكتاب (عبدالله النفيسي) للإسهاب في مقدمة طويلة تقوم بمهمة الدفاع، والتبرير،
والتوضيح. وحاول فيها تأكيد ضرورة النقد الذاتي، وتطمين البعض بأن هذا النقد يمارسه
إسلاميون وبالتالي فهو نقد حميد وليس خبيثا.
(ص12) . ويرجع الكثيرون هذا الخلل إلي البعد عن الحوار والعصف الذهني.
يتكرر النقد كثيراً للحركة الإسلامية بسبب الضعف الفكري،
ويبدو هذا النقد غريباً حين يُوجه لحركة لها هذا الانتشار والجماهيرية. وقد يكون هذا
أحد وجوه أزمة الأمة الشاملة، حين تتدفق جماهير بمئات الألوف إلى تنظيم يفتقد الأسس
الفكرية. افتقاد التجديد والاجتهاد والانفتاح علي جموع المسلمين العريضة وواقعهم، وعلي
العالم الواسع المعاصر بثقافاته وممارساته، وافتقاد الحوار الجاد البناء مع النفس ومع
العصر.
يمكن القول إن ظروف ميلاد الحركة
الإسلامية السودانية، واختيار الشكل التنظيمي الجبهوي، كان له أثره المباشر في
الانقسامات والمراجعات المستقبلية . إذ يرجع دخول أول رافد للحركة من مصر لعام
1944م عقب زيارة إخوان مصريين، حيث تكونت أول لجنة للإخوان المسلمين وبعض الأسر الإخوانية.
وافتتحت أول دار للإخوان المسلمين عام 1953 وعٌرفت لاحقاً بالمركز العام للإخوان
المسلمين. وقد قاد نشاط هذه المجموعة الطلبة الدارسون في مصر. وفي هذا الوقت كان
هناك رافد إسلامي آخر محلي متأثر بأفكار التحرر، والاستقلال، والمساواة التي سادت
بعد الحرب العالمية الثانية. فقد تشكلت (حركة التحرير الإسلامي) عام 1949. وحددت
خطها السياسي والفكري حيث وصف المجتمعون أنفسهم بأنهم: "حركة تحرير وليسوا
إخوان مسلمين، ومنحازون للعمال والطلاب والفلاحين". وهكذا بدأت الحركة
الإسلامية السودانية في شكل مجموعتين: الأولى محلية، والأخرى متأثرة بالتيار
المصري.
عٌقد مؤتمر جامع لكل
المجموعات في أغسطس 1954 انتهي بتبني اسم (الإخوان المسلمين) وفوز التيار المحلي
مع غلبة الاتجاه الحركي والمحافظ. تشكل التنظيم الجبهوي الفضفاض الذي اعتبرته
الأغلبية هو الشكل المناسب للمرحلة. وتقرر تأسيس (جبهة الميثاق الإسلامي) وانتخاب
الشيخ (حسن الترابي) أميناً عاماً. وجاء بيان 25/11/1964م معلناً انتصار التوجه
السياسي على الدعوي في نشاط الإخوان. ورأت القيادة الجديدة بزعامة (الترابي) أن
العمل الجبهوي هو أفضل صيغة للعمل السياسي تختفي خلفه جماعة الإخوان المسلمين
لمواجهة الأحزاب الطائفية والطرق الصوفية من جانب، والشيوعيين والقوميين
والعلمانيين من جانب آخر.
ويري المتابعون في هذا
التطور انتصاراً للتيار السياسي-الحركي والبراجماتي علي حساب التوجه
التربوي-الفكري. والذي كان يرى الدعوة والتربية أولاً، ثم يأتي الصراع حول السلطة
السياسية، وقيام الدولة الإسلامية عقب هذا الخيار، ظهر تياران داخل الحركة
الإسلامية، كانا خلف كل الاختلافات والمراجعات: التربية والدعوة مقابل السياسة
وصراع السياسي. فقد ولج (الترابي) وتياره في لحركة الإسلامية السودانية، العمل
السياسي مبكراً وبقوة. يفتح (الترابي) الباب واسعاً أمام البراجماتية واللجوء إلى
التجربة والخطأ، والابتعاد عن التنظير والتقعيد والتفكير. فهو يستهجن دعوات
الاجتهاد والدراسة والبحث، حين يكتب:-". . . كذلك لا مجال في سياق دين
التوحيد للمراء البعيد في خيار تقديم التربية الأخلاقية الاجتماعية بسياسة الإصلاح
التنفيذي المباشر بقوة السلطان، متى تمكنت حركة الإسلام. أما أكثر الذين ينادون
بالتربية دون القانون بحجة التمهيد والتوفيق فإنما يريدون تجريد حافز القرآن من
الاستنفار بوازع السلطان وعزل الدين عن الحكم، ولا خير في تربية مزعومة تعطل الحكم
بما أنزل الله. " (نظرات في الفقه السياسي، ص56) وكان (الترابي) يرى ضرورة
التطبيق الكامل للإسلام أي عدم تعطيل الشرع حتى تكتمل بعض جوانب النقص في أخلاق
وتربية المجتمع.
ثانيا: اتجاهات المراجعة
شهدت فترة ما قبل الاستيلاء علي السلطة
في 30 يونيو 1989، صراعات واستقطابات حادة. ولم تعرف الحركة الإسلامية بعد ذلك
التاريخ، فقد ابتعدت قيادات تاريخية عن التيار الغالب، وتمسكت شخصيات مثل (الصادق
عبدالله عبد الماجد) باسم (الإخوان المسلمين)، وظلت مناوئة لسياسات (الترابي) .
وقد استخدم الأخير ما أسماه (فقه الضرورة) حسب قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات، في
تبرير كل مواقفه السياسية المثيرة للجدل. ويمثل هذا الفكر، تأصيلاً إسلاموياً
للبراجماتية والميكافيلية، فقد كانت قيمة الفعل تأتي من نجاحه فقط بغض النظر عن
الوسائل. وقد كان الدخول في المصالحة الوطنية مع الرئيس (النميري) عام 1977، من
أخطر القرارات في الحركة، فقد قبل (الترابي) بفكرة الحزب الواحد (الاتحاد
الاشتراكي) ودخل مكتبه السياسي بعد أن أدى قسم احترام لوائحه. وهو يري التجربة من
نجاحات الحركة الإسلامية لأنها أتاحت لهم فرصة للعمل السياسي والاقتصادي، وهي سبب
الانجازات التي حققها الإسلامويون في انتخابات عام 1986م وكانت هذه الخطوة الاولي
في التمكين والاستيلاء علي السلطة. وقد قاموا بتحقيق خطة وأد الديمقراطية بوسائل
ديمقراطية أي من خلال إفشال الأداء البرلماني بالإضافة لاستغلال الحريات في تزييف
الوعي والدعوة للعنف.
عاش السودان عشر سنوات من 1989 حتي 1999م تحت حكم شمولي مطلق للحركة الاسلامية. فقد قاموا بالتحالف مع كل المنادين بقيام نظام إسلامي، بدعوى أن الحكم الآن في يد الإسلاميين. فقد حلت (الجبهة الإسلامية القومية) مثل جميع الأحزاب الأخرى، فأسست (المؤتمر الوطني) وهو الحزب الحاكم الآن. وهو امتداد للشكل الجبهوي الذي يفضله الإسلامويون السودانيون، وقد ضم صوفيين وسلفيين ومنشقين من أحزاب تقليدية. وفي بحث النظام عن الشرعية والجماهيرية قبِل في داخله كثيراً من التناقضات الفكرية والسياسية، وكان لا بد من أن تنفجر. ورغم هذه التحالفات الفضفاضة، اعتمد النظام علي الأجهزة الأمنية أكثر من العمل الجماهيري. وتفاقمت الأزمات المختلفة، إذ لم تعد المسألة نظرية بل واقع يومي ملموس يحتاج للحلول الإسلامية التي وٌعد بها الشعب السوداني.
بدأ التململ بين صفوف المثقفين الإسلامويين الذين استشعروا الفشل والأخطاء مبكراً قبل العامة. وخرج الحديث من داخل الأبواب المغلقة إلي الكتابة والنقاش. وقد كان (عبدالوهاب الأفندي) الملحق الصحفي للنظام في السنوات الأولي بلندن، أول من فتح ملف المراجعة والنقد الذاتي. فقد أصدر كتابه "الثورة والإصلاح السياسي" عام 1995، داعياً إلى ضرورة "نقد الذات، واكتشاف عيوب النفس، وتحري الحق والاعتراف به وإن كان مراً" (ص8). وقد كان بالفعل سباقاً في إضاءة التجربة الإسلامية من الداخل، والأهم من ذلك أنه ظل يعمل بدأب، لكي يتسق مع قناعاته الجديدة كـ "إسلامي ديمقراطي" يمكن أن ينسب لمرحلة: ما بعد الإسلاموية. فهو يُكثر من الدعوة للحريات وحقوق الإنسان، ولا يركز كثيراً على مطلب تطبيق الشريعة الإسلامية.
ومن الملاحظ أن (الأفندي) كان مهتماً بقضيتين محورتين؛ هما: التحديث والديمقراطية، وبينهما ارتباط وثيق، ولذلك كان عليه مثل سائر الإسلامويين، أن يبحث عن مبرر لانقلاب الحركة الإسلامية. فالإسلامويون جميعاً ينطلقون من مبرر "فشل التجربة الديمقراطية السودانية"، ويشطح بعضهم بعيداً ليتحدث عن فشل الديمقراطية نفسها أو علي الأقل الغربية. ومثل هذا المدخل عند (الأفندي) يكلفه جهداً فكرياً بعد تحوله الراهن نحو الديمقراطية. إذ يواجه السؤال: هل يستوجب أي إخفاق في تطبيق الديمقراطية، وأدها عن طريق الانقلاب؟ فالديمقراطية، هي التي ينطبق عليها القول: داوني بالتي كانت هي الداء، أو بمزيد من الديمقراطية. لذلك تحتاج مراجعة الإسلاموي السابق من الجهد لتأصيلها في الفكر الإسلامي.
ويطرح الكاتب التحدي الخالد الذي يواجه المشروع الحضاري الإسلاموي، وهو: "كيفية خلق هذا التوازن الضروري بين التحديث الحتمي والديمقراطية التي لا غنى عنها، وبين تقاليد المجتمع ومؤسساته التي يحرص عليها". (ص102) . وهذا هو نفس التساؤل المتكرر: الأصالة والمعاصرة، أو تناقض التحديث مع الحفاظ علي تقاليد المجتمع. وفي الدولة الدينية، رغم رفض الإسلامويين للوصف، فهي كذلك لأنها تتميز عن بقية النظم السياسية بجعلها الدين مرجعيتها. واستغرب كثيراً لهذه المغالطة، إذ بينما يؤكدون عدم الاستحياء من تطبيق الحدود من قطع وجلد، فما الذي يجعلهم يرفضون صفة الدولة الدينية؟ هذه مراجعة خرجت من الأسوار الضيقة للإسلام السياسي، ولكنها لم تقدم بديلاً مقنعاً.
ركزت مراجعة (الأفندي) على سيطرة ما أسماه: السيوبر تنظيما بدلاً من الحركة وقاد إلى الدور الأمني المهيمن علي كل شيء. وقد أكمل (التيجاني عبدالقادر) الصورة بنقد دور "الإسلاميين الرأسماليين" ويرجع الظاهرة إلي قناعة قديمة تقول بأن التنظيم لن يكون قوياً إلا إذا كان غنياً. وهذه القاعدة تقوم على فرضية خاطئة تقول: ". . ولن يكون التنظيم غنياً في ذاته وإنما يكون كذلك إذا استطاع أن يأخذ بعض المنتسبين إليه فيصنع منهم أغنياء، بأن يضعهم علي قمة المؤسسات الاقتصادية: مدراء للبنوك، ورؤساء لمجالس الإدارات والشركات، ومستشارين قانونيين، وفقهاء شرعيين ملحقين بالبنوك". (كتاب: نزاع الإسلاميين، ص137) وسادت هذه الرؤية، حتي ولو كانت خاطئة؛ لأنها الأريح والأسهل والأكثر جاذبية. والدليل على هذا أن تولد في الحركة "مكتب التجار" ليكون بمثابة الأصابع التنظيمية في السوق. (ص137) . ومع مجيء الإنقاذ وقع التلاحم الكامل بين الشريحة التجارية والمؤسسات الاقتصادية في لبنك فيصل الدولة: "فمن كان مديراً لبنك البركة صار وزيراً للمالية والاقتصاد، ومن كان مديراً صار محافظاً لبنك السودان". ويقول الكاتب أن جميع هؤلاء – حسب المؤلف- لم يعرف لأحدهم إسهام أصيل في الدراسات الاقتصادية، أو رؤية عميقة للتنمية الإسلامية"؛ وقد جمعتهم المعرفة الشخصية والذكريات المشتركة في الدراسة والتنظيم. كونوا جماعة أو نخبة اقتصادية مغلقة أدارت الاقتصاد السوداني " كأنما هو شركاتهم الخاصة". (ص138) وقامت هذه الفئة الاجتماعية الجديدة أو النخبة الإقتصادية رسملة الاقتصاد السوداني أو بلغة أدق استتبعته بالرأسمالية العالمية تحت غطاء إسلاموي. ويكثر الكاتب من الإدانة الأخلاقية لهذه الفئة، رغم أنه لا يعترض علي الغنى، فالمال الصالح للعبد الصالح، ولكنه يعترض علي الكيفية أو الطريقة التي اغتني بها هؤلاء. ولكن في هذا البلد الفقير والمتخلف، هل توجد طريقة أخري غير فاسدة؟
ضمن تصاعد أصوات المراجعة، أصدرت مجموعة من الإسلاميين المستقلين والناقدين، على رأسهم: الطيب زين العابدين، و خالد التجاني النور، د. التجاني عبد القادر حامد ، والأفندي، وغيرهم؛ بياناً في أكتوبر2013. وقد عرّفوا أنفسهم بأنهم جماعة فكرية وحركة سياسية سودانية تدعو للتضامن الوطني والعمل المشترك من أجل إصلاح الوطن وإعادة بنائه وتعزيز قدراته، سعيا نحو الاستقرار السياسي، والسلم الاجتماعي، والتنمية الاقتصادية. وهي حركة تتسع عضويتها للتيارات والعناصر الوطنية المستنيرة التي لم تتمرغ في فساد، أو تقترف جريمة، وترفض الأيديولوجيات الشمولية التسلطية التي تسير على نهج الانقلاب العسكري أو الانغلاق العرقي أو الطائفي. وقد جاء في الأخبار:" أعلنت قيادات محسوبة على التيار الإسلامي في الخرطوم تشكيل حزب جديد باسم (الحركة الوطنية للتغيير) في خطوة تمثل انشقاقا جديداً في صفوف الإسلاميين بالسودان". (29/10/2013) ولكنها سارعت بنفي (29/10/2013) الخبر وأنها (29/10/2013) ليست حزباً مما يثير الجدل حتي اليوم حول طبيعة الكيان الجديد.
لخَّص (غازي العتباني) سلبيات الحركة الإسلامية في عدد من القضايا والمواقف، فقد أدان الانشقاق الذي تم في 1999، واعتبره "وصمة في جبين المشروع خاصة وما تبعه من أحداث وملاحقات وملاسنات أذهبت بريق ما تم من جهود". ومن أبرز الأخطاء: العقلية الأمنية، التعامل بروح الوصاية والإقصاء وعدم استصحاب الآخر، ظهور النعرات القبلية والجهوية، تهم الفساد، الفقر وسياسات التحرير الاقتصادي، مشكلات ثورة التعليم العالي. وركز علي وجود تناقض في أدائهم. وقد كان (غازي) الذي يسميه البعض (هاملت الحركة الإسلامية) بسبب تردده وتغيير مواقفه، من ركائز النظام حتي قبل شهور قليلة. فقد كتب عقب الانتخابات الماضية، والتي يدرون هم قبل غيرهم حقيقة نزاهتها، يقول: "بالنسبة للمؤتمر الوطني فقد أثبت أهليته لأن يكون حركة سياسية حديثة ومعاصرة، لا هي طائفية ولا قبلية ولا جهوية، بل حركة سياسية واجتماعية مفتوحة لجميع السودانيين الراغبين في الالتحاق بها والعمل من خلالها". (الشرق الأوسط 20 أبريل2010) .
يبدو أن (غازي) حاول تجاوز تردده هذه المرة، واستفاد كثيرًا من المساحة الفارغة بين الكيان الرسمي للحركة الإسلامية وتيار (السائحون)المتمرد علي التنظيم. فقد شكلت مجموعة (السائحون) تياراً إسلاميًا واسعًا شبه عسكري يتمدد داخل الحركة الإسلامية. وقد طرح تيار الإصلاح الشبابي داخل الحركة الإسلامية في السودان ما أسماه (نداء الإصلاح والنهضة) وهو الذي يحث قيادات العمل الإسلامي في البلاد "الحكم والمعارضة" إلى التوحد لما فيه خير البلاد والعباد، ونبذ الفرقة والشتات، وإعادة بناء وإصلاح الصف الوطني بما يعود بالنهضة والتنمية على سائر الوطن. وقد تزامن هذا النداء مع مرور الذكرى الأولى لميلاد هذه التيارات الشبابية الإصلاحية والتي انطلقت شراراتها للعلن بما بات يُعرف بـ"مذكرة الألف للإصلاح" والتي قدمها ووقع عليها ألف شاب من الجيل الجديد من عضوية الحركة، والتي مثلت نقطة انطلاقة لبداية جريان تيار الإصلاح الشبابي الذي بلغ ذروته في المدافعة مع جيل الحرس القديم في مؤتمر الحركة الإسلامية الثامن. ووفقًا لأحد شباب المجموعة «فإن السائحين هم المجاهدون من شباب الحركة الإسلامية بشقيها «الشعبي والوطني» الذين حافظوا على تواصلهم بعد مفاصلة الإسلاميين الشهيرة وظلت علاقاتهم متواصلة وربطتهم الكثير من العلائق. (25/12/2012 – الإنتباهة).
من الواضح أن حزب (المؤتمر الوطني) صار يخشي أي نقد، ورأي التعامل مع أي تململ بحسم، درءًا لتكرار مفاصلة عام1999م. فقد قاد(غازي) المجموعة التي تقدمت بالمذكرة الإصلاحية ، وتٌعرف بمجموعة الـ 31. وهي متواضعة المطالب ولم تتعد نقد حزمة الإجراءات الاقتصادية التي طبقتها الحكومة في سبتمبر2013. ورأت المذكرة أن الإجراءات أحدثت آثاراً قاسية على المواطنين دون مبررات مقنعة، كما أنها لم تجز من قِبل المجلس الوطني، رغم اشتمالها على تعديلات أساسية في بند إيرادات الحكومة. وأضافت المذكرة أنه قُدمت بدائل من أفراد وخبراء وقوى سياسية لكن البدائل لم تنل اعتباراً وأصرّت الحكومة على تطبيق الإجراءات كما هي غير مبالية بآثارها ومدى قدرة المواطنين على احتمالها. وترى المذكرة أن: "خطاب الحكومة عند تقديم حزمة الإجراءات عبر وسائل الإعلام كان مستفزاً للمواطن ولم تبد الحكومة الاكتراث اللائق لمشاعر المواطنين".
رغم أن المذكرة عادية، وكان يمكن مناقشتها داخل المؤسسة الحزبية والتعامل معها حسب اللوائح، ولكن يظهر أن المتربصين بـ (غازي) ومجموعته، وجدوا فيها فرصة لا تعوض لتصفية الحسابات معهم. وسرعان ما شُكلت لجنة محاسبة أوصت بفصل كل من غازي صلاح الدين العتباني، ودكتور حسن عثمان رزق، وفضل الله أحمد عبدالله، وتجميد نشاطهم إلى حين انعقاد مجلس الشورى للنظر في الفصل. (الصحف24/10/2013). ورفضت المجموعة تقديم استئناف، وصرح (غازي ) لـ(الجزيرة نت): "هذا قرار باطل لأنه لم ينشأ بتكليف من المكتب القيادي، ولم تثبت أي لائحة اتهام ضدنا، والعقوبات كانت انتقائية وشخصية وهذه اللجنة غير مؤتمنة على العدالة واعترضتُ عليها كتابة، واثنان من أعضائها صرحا قبل التحقيق بأننا يجب أن نعاقب".(26/10/2013)
وأضاف أن الانسداد المزمن الذي يعيشه الحزب لا يتيح أي فرصة لانفراجة، مما جعلهم يتوصلون لضرورة إنشاء حزب جديد يقوم على تجربتهم ويحقق ما يتطلع إليه السودانيون، ويشهد ميلاده قطاع واسع من السودانيين، وتتنادى إليه شخصيات وطنية للنظر في شكل تكوينه. ويعتبر الانشقاق السياسي أعلى مراحل الاختلاف، وهي اللا عودة أو على الأقل عدم القدرة علي العمل جماعياً.
ثالثا: أي مستقبل للحركة.. ما بعد
الإسلاموية؟
اتسمت مرحلة ما بعد
الإسلاموية الراهنة بالفقر الفكري، والانصراف عن الحوار والمعرفة تماماً، إن أزمة
الإسلامويين السودانيين الآن ، تكمن في إصرارهم، رغم تناقضاتهم وخلافاتهم، علي رفع
شعار: الإسلام هو الحل. وتتكرر الدعوة إلي: "ضرورة التوافق علي ثوابت
الشريعة الإسلامية والوصول للحكم عبر الانتخابات وألا تكون هذه الثوابت محل مساومة
ويمكن الاختلاف فيما سوى ذلك". (خطاب مساعد رئيس الجمهورية في
16/10/2013) . وتؤكد كل التطورات سابقة الذكر والصراعات الحادة، علي أنهم لم
يتفقوا هم أنفسهم، بعد علي ثوابت الشريعة. بل يصرح الرئيس البشير بأن ما كان مطبقا
قبل انفصال الجنوب لم يكن الشريعة المستقيمة، ويعدنا أن هذه المرة سيطبق شريعة "أصلية".
ومن ناحية أخرى، يتحدث الصوت الغالب في لجان الدستور المقترح عن تضمين تطبيق
الشريعة. لا مانع في ذلك، ولكن أن يقدم الإسلامويون الشريعة في شكل برنامج مفصل
قابل للتطبيق وليس مجرد شعار لإثارة العواطف الدينية. وهذا يعني من البداية اتفاقهم حول أي شريعة يريدون؟ وهنا
يختلف السودانيون عن الشعوب العربية الأخرى، كونهم جربوا وما يزالون يعيشون شريعة
الإسلام السياسي والتي لم تتوقف عند الإفقار والإذلال بل فصلت جزءا غالياً من
الوطن.
ومن
الملاحظ أن العناصر الإسلاموية التي عرفت باهتمام ما بالفكر والنقاش، تمثل الآن
تياراً ناقداً صريحا للنظام وتعتبر خارجه وضده. وكان التعويض الأسهل للإسلامويين
هو تطوير القمع والأمنوقراطية، بعد أن استعصي عليهم الفكر. فكل الشخصيات التي سبق
ذكرها في رصد المراجعات، لم تعد داخل الحركة التي يسيطر عليها متوسطو القدرات
والانتهازيون. وهذا ما يجعلنا أمام حركة إسلامية بلا مستقبل، فقد تركت مستقبلها
خلفها وتعيش علي الماضي.
شكَّل بعض الطلاب وشباب الحركة في الجامعات السودانية (مجموعة
أشواق) التي ترفض واقع الانقسامات التي ضربت الحركة، ووقفت علي الحياد. ويتساءل أحد
الباحثين: هل تكفي الأشواق؟ ويجيب: "في ظل العدوان علي البلاد، يجد داعي الوحدة
سامعا دائماً، وقد تجد هذه الحركة نجاحاً كبيراً إذا وجهت خطابها لقواعد الحركة الإسلامية
وسعت، عملياً، في تنظيم المستجيبين للنداء حركياً، في تنظيم ثالث مواز للكيانين القائمين،
حزب الترابي وحزب السلطة، وهي محاولة لن يتسامح معها الطرفان، ولكنها الطريق الوحيد
الذي لم تجربه المبادرات السابقة". (وليد الطيب، في كتاب مراجعات. . . ،
2010:188) .
أخيرا وفي الختام ، مازلنا ننتظر أن
يقدم الإسلامويون السودانيون نقداً يطال الفكرة والمنهج وليس الأشخاص سواء الترابي
أو العسكريين، هنا تأتي الحاجة إلى اجتهاد ديني جديد وليس اجتهاد سياسوي متدين، نطمع
في لاهوت تحرير إسلامي. فقد عشنا في السودان حالة ابتلاع السياسة والأيديولوجيا
للدين كاملاً. وحدثت الأزمة الكبرى، إذ أتي الطغيان والفساد في رداء ديني، وتختلط
الأمور التي تُظهر المعركة مع الطغيان وكأنها معركة مع الدين. فلابد من نزول
الصراع إلي الأرض، فلا توجد مصلحة أو منطق في معركة مع السماء.
المراجع
·
التيجاني
عبدالقادر حامد، نزاع الإسلاميين في السودان، الجزء الأول (بلا معلومات
بيبلوغرافيا).
·
حسن الترابي، الحركة الإسلامية في السودان، الخرطوم،
معهد البحوث والدراسات الاجتماعية، 1989.
·
حيدر
إبراهيم علي، مراجعات الإسلاميين السودانيين – كسب الدنيا وخسارة الدين. االقاهرة،
مركز الدراسات السودانية، 2011.
·
المحبوب
عبد السلام، الحركة الإسلامية السودانية. القاهرة، دار مدارك، 2010 .
·
عبدالله
النفيسي (تحرير)، الحركة الإسلامية:
رؤية مستقبلية، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1989.
·
عبدالوهاب
الافندي، الثورة والإصلاح السياسي في السودان، لندن، منتدي ابن رشد، 1995.
·
وليد الطيب (إعداد)، مراجعات الحركة الإسلامية
السودانية. القاهرة، مكتبة مدبولي ، 2010.