صناعة الأساطير في تاريخ الإخوان المسلمين
-1-
تحليل نقدي لخطاب يوسف ندا
يستقبل القارئ كتابة الدكتور محمد السعيد إدريس،
باحترام وتقدير كبيرين، وأخيرًا أدلى الكاتب بشهادة بالغة الأهمية، نُشرت في
مقالين بالأهرام اليومي (1 إبريل2014)، وصحيفة الخليج (11 إبريل2014). تتعلق
الشهادة بما نشره الإخوان عن أهوال التعذيب في السجون المصرية خلال العهد الناصري.
يكشف الدكتور إدريس في شهادته، المفاجأة للغالبية، أن كتاب "أيام من
حياتي" ليس من تأليف السيدة زينب الغزالي، وأن مؤلفه الحقيقي، هو القيادي الإخواني
يوسف ندا. وكما هو معلوم أن الكتاب
المذكور، نشر في مصر عام 1999، وتحكي فيه السيدة زينب الغزالي، سيرتها الذاتية
فترة حكم عبد الناصر، وتصف صور التعذيب الوحشي الذي تعرضت له داخل السجون المصرية.
بل وصل الأمر بحسب الشهادة، إلى قيام ندا بصناعة وثيقة مزيفة، ونسبتها للأجهزة
الأمنية، الوثيقة التي تتضمن تفاصيل مخطط عبد الناصر، لإبادة جماعة الإخوان، ثم
يكتمل التضليل، بإدراج الوثيقة في محتوى كتاب
"قذائف الحق" للشيخ محمد الغزالي.
من بعد الدهشة، تندفع الأسئلة: هل يمكن أن
يحدث مثل هذا التضليل والتزييف؟ وما الذي يجبر الجماعة على صناعة تاريخ مفبرك؟ ولماذا
يوسف ندا بالتحديد؟ وما المهارات التي يمتلكها لكي يوكل إليه التنظيم، نسج
الأساطير المكرسة للمظلومية وتراث المحنة؟ وهل يمكن كشف نوع خطابيٍّ في ثنايا ما
قدمه يوسف ندا في كتابه الأخير - من داخل الإخوان المسلمين؟
وهذا المقال محاولة لتحليل عينة من الكتاب،
ترتبط بالشهادة التي أدلى بها الدكتور إدريس أخيرًا، ونأمل في استكمال تحليل بقية
الكتاب في مقالات تالية.
مختصر عن حياة يوسف ندا
يوسف ندا من مواليد عام 1931، ينتمي إلى أسرة ميسورة من الطبقة
الوسطى، التحق بتنظيم الإخوان في الإسكندرية عام 1947، كان طالبًا في كلية
الزراعة، حين تم اعتقاله، عام 1954، ضمن عشرات المعتقلين من جماعة الإخوان في
أعقاب محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر، والمعروفة بحادث المنشية
بالإسكندرية، وقضى في السجن ثمانية عشر شهرًا، إلى أن أُفرِج عنه في ابريل 1956 مع
آخرين. ثم يستكمل دراسته الجامعية، ويهاجر في عام 1960 إلى ليبيا، مشتغلا
بالتجارة، مكونًا ثروة مليونية، رأسمالها المبدئي غير معلوم، ثم يهرب منها إلى
أوروبا في أعقاب اندلاع ثورة الفاتح من سبتمبر عام 1969. وفي أوروبا تطورت أعماله
التجارية، وتضخمت ثروته، في مناخ يسمح للإخوان – المعادين لنظام ناصر في مصر-
بالعمل بحرية، وقد تشابكت علاقات ندا في أوروبا، يوصف برجل الإخوان الغامض،
ويعتبره الإخوان مهندس العلاقات الدولية في تنظيم الإخوان.
يمثل كتاب "
من داخل الإخوان المسلمين – حقيقة أقوى
الجماعات الإسلامية السياسية في العالم"
القصة الموثّقة لحياة يوسف ندا، جمع مادته وصاغه الكاتب الإنجليزي، دوجلاس تمبسون،
في ثلاث سنوات، قضاها في تحقيقات ومقابلات مع يوسف ندا. يذكر يوسف ندا في المقدمة،
أن تمبسون اعتمد في الكتاب:"على ما سمعه مني
وقراءاته ومتابعاته، وكان أمينًا فيما ذكر، وكنا قد اتفقنا أن يكون الكتاب بالإنجليزية،
لغير قرّاء العربية، ثم يترجم إلى لغات أخرى، وهي الإيطالية والفرنسية والألمانية
والإسبانية.(ص11). غير أنهما وبعد ما شهدته المنطقة العربية من ثورات، قررا
أن ينشر الكتاب بالعربية والإنجليزية، ثم تلي ذلك بقية الترجمات، فأوكل ندا مهمة الترجمة
العربية إلى الدكتور محمد فريد الشيال، وهو من الكوادر الإخوانية، ويعمل محاضرًا
في كلية لندن للدراسات الإسلامية المتقدمة، ويصف ندا المترجم بأنه : "كان أمينًا في ترجمته، وصحّح لنا مشكورًا بعض تواريخ
الأحداث التاريخية (ص12). تولت دار الشروق
بالقاهرة، نشر النسخة العربية في 2012، وصدرت الطبعة الثانية في 2013، وهي النسخة
التي نعتمد عليها في هذا المقال.
وكما ذكر ندا، أن تجميع مادة الكتاب تمت عبر
مقابلات شخصية لمدة شهور طويلة، بينه وبين دوجلاس تمبسون، أي أننا أمام طرفين:
أحدهما يقدم سردًا شفاهيًّا لسيرته وتاريخ حياته، والآخر يرصد ويسجل ويكتب بأمانة،
كما وصفه صاحب السيرة. وهذه الطريقة، تعطي للمختصين في تحليل الخطاب، فرصة ثمينة، لأن
السارد، لن يتحكم بمفرده في صنع الحبكة الكاملة للنص، ولن يكون هناك اتساق تام بين
القضايا المطروحة في النص، إلا إذا كان السارد أمينًا في عرض الوقائع، أما إذا فقد
هذا الشرط، فسوف تظهر التناقضات، ما يجعل المحلل قادرًا على فرز القضايا المزيفة
من الحقيقية. باختصار هذا الكتاب حجة يمكن من خلاله، تحليل خطاب يوسف ندا، كنوع من
نظام خطاب جماعة الإخوان، كما أنه يمثل وثيقة في حد ذاته، يمكن من خلالها، اكتشاف
صدق أو كذب صاحب السيرة، وبالتالي توكيد أو دحض الشهادة التي قدمها الدكتور إدريس
في مقاليه المذكورين.
وهذا المقال، يعتمد على منهج التحليل النقدي
للخطاب، critical discourse analysis ، الذي تطور على يد عالم اللغويات، نورمان
فيركلاو: N.
Fairclough،
وقد قمنا بتعديلات على هذا المنهج في دراسات سابقة، وانتهينا إلى أنه:" يقوم على افتراض وجود ارتباط بين كل من: النص ومنتجه والمجال
الاجتماعي الذي يضمه في مرحلة تاريخية محددة، وأنه يمكن تصنيف نوع الخطاب، من خلال
استخراج الحادثات الخطابية – العبارات الجوهرية -
وكشف العلاقات المنطقية التي تربط القضايا المطروحة في النص، ثم النظر في مدى
اتساقها مع الحقائق التاريخية، وأخيرًا تفسير النتائج بمرجعية نظرية ملائمة.
وخطة تحليل هذه العينة من الكتاب، تعتمد على استخراج العبارات
الجوهرية المرتبطة، بوصفهلحوادث التعذيب التي تعرض لها، في السجن الحربي، وكما وصفها
يوسف ندا في بداية الكتاب، ثم مقارنة هذه العينة، بعينة أخرى في الفصل الثالث، تسرد اليوميات التي قضاها
رهن الاعتقال. وسوف يلاحظ القارئ أننا نركز فقط على العبارة الجوهرية التي سوف
نحلل على أساسها، وبقية العبارات الزائدة سوف نختزلها بين قوسين (...) ويمكن
للقارئ مراجعة نص للكتاب لمعرفة التفاصيل.
ثانيًا: عينة التحليل
العينة
الأولى: أهوال التعذيب
يذكر يوسف ندا في كتابه، قصص ووقائع اعتقاله عام 1954 في السجن
الحربي، من خلال العبارات الجوهرية التالية:" اقتادونا من القطار إلى السجن الحربي (...)
جعلونا في صفوف، وبين الصفوف انتشر الجنود وبأيديهم سياط (...) وبدأ الجنود عملهم
بجلدنا، وصارت قطع الجلد تتطاير من ظهورنا وسيقاننا وأذرعنا (...) في السجن رأيت
أشخاصاً يعذبون حتى الموت، بطرق لا يستطيع الشيطان نفسه أن يخترعها.(...) كان براز
السجن يتجمع في براميل (...) وكانو يأتون بالرجل مقيّد من قدمية ويتدلى من رافعة
ونش مثبته في السقف، فإذا لم ينطق بما يريدونه غطسوه في البراميل مرارًا وتكراراً.
(...) ربطوا الرجال على عوارض خشبية كالصلبان وجلدوهم، وجرحوهم بسكاكين صغيرة،
وتناثرت قطع صغيرة من اللحم هنا وهناك (...) رأيت سجناء يصلبون ويُخصون. (ص 22:
24).
العينة الثانية: يوميات الاعتقال
يروي يوسف ندا في الفصل الثالث يوميات ومراحل اعتقاله في الإسكندرية
وإيداعه السجن الحربي بالقاهرة: بعد ساعة دق جرس
الباب، (...) وذهبت أمي لتفتح، فوجدت ضابطًا وثلة من الجنود، فأخبرتهم أنني غير
موجود. (...) كان الضابط يعرف أمي وكان يخاطبها قائلا: يا خالتي، نحن نريد يوسف
ليوقع إقرارًا بأنه لن يتصل بالإخوان بعد الآن. (...) ألقوا القبض على أبي وأخي
صبحي، في نفس الليلة (...) فاتصلت أمي بأحد أقاربها، وكان ضابطًا كبيرًا في
الشرطة. (...) فأجابها إذا سلم يوسف نفسه فسوف يطلق سراحهما (...) وقال ابن عمها –
الضابط الكبير- إنه سوف يقابلني ويصحبني للسجن، وعندما أخذني إلى السلطات أطلقوا
سراح أبي وأخي على الفور ولم يعذبوني بعد القبض عليّ. (ص51: 52).
ومن داخل السجن يروي يوسف ندا القصة الحقيقية:
دخل يوسف ندا السجن وهو يشكو من التهاب الزائدة الدودية، ومرة أخرى استخدمت أمه وأقاربها
بما لهم من صلات، واستطاعوا نقله إلى عيادة السجن (...) كانت العيادة مكونة من
صفين من الزنازين، كل منها 13 زنزانة. (...) كنت في السجن محشورًا مع آخرين في
الزنزانة، أما عندما أغلق عليّ الباب في العيادة، وجدت نفسي وحيدًا، فبدأت أصلي
وأتلو ما أحفظه من قرآن.(...) ومرة أخرى تعود طيبة أمه "نعمات أبوالسعود"
عليه بالخير (...) وكان من أقاربها أنور أحمد الضابط الفظ الذي اشتهر، عن استحقاق،
داخل نظام عبد الناصر بقسوته، وكان قائدًا للشرطة العسكرية (...) فاتصلت بأحمد
أنور قريبها، وأخبرته أن ابنها يحتاج إلى جراحة عاجلة، فأمر بعلاجه. (...) وبدأ
الطبيب يكشف عليه، ثم أعلن أن مريضه يحتاج إلى علاج عاجل، وسرعان ما وجد يوسف نفسه
خارج السجن في المستشفى العسكري. (...) جاء أحمد أنور ليتأكد بنفسه من اجراء
العملية لي، وليقوم بواجب عائلي تجاه أمي. (ص 52: 55).
ويتابع يوسف ندا السرد عن فترة وجودة داخل المستشفى
العسكري: بقي يوسف في المستشفى ثلاثة أشهر، وفي كل شهر كان عليه أن يدفع إلى
الطبيب (50 جنيهًا مصريًّا) كان على كل مريض أن يدفع هذا المبلغ كرشوة (...) وكان
الطبيب يستخدم مريضًا مسالمًا "كمحصل" لهذه الإتاوات، لكن الرجل أعيد إلى
السجن وحاول الطبيب أن يغريني بالقيام بهذا الدور (...) لكني قلت له اعذرني يا
دكتور، أنا مسئول عن نفسي فحسب، ولا أستطيع القيام بهذا العمل. وفي اليوم التالي
أعادني إلى السجن الحربي. كان يغريني بالرشوة. (ص55: 58).
ويكمل يوسف ندا روايته متقمصًا ثوب الفضيلة والمزايدة الفارغة من
الحقيقة: إنني على
استعداد أن أنفق من مالي لأنقذ حياتي، لكن المساعدة في الرشوة معصية كبيرة، إنها
خطأ. كانت إعادتي إلى السجن ثمنًا باهظًا، إلا أنني مهما كان الثمن لا أحب أن
أشترك في الرشوة، ومنذئذ، عندما أعرف عن شخص أنه فاسد أخرجه من حياتي على الفور،
(...) وموقفي الواضح هنا أستمده من تعاليم ديني، إنك عندما ترتشي أو ترشي فأنت
تسطو على حقوق الآخرين.(ص58).
ثالثا: تحليل العينة
·
سيلاحظ القارئ أن العبارات الجوهرية التي أوردناها، مبعثرة داخل النص،
فالعينة الأولى مجمعة من ثلاث صفحات، بينما العينة الثانية تم تجميعها من تسع صفحات.
والسبب أن يوسف ندا، يدخل القارئ في متاهة مقصودة، فلا يوجد في النص تسلسل منطقي،
ولا ترتيب زمني للوقائع، كما أنه يعتمد على الحيلة والمراوغة، حيث يبدأ بوضع بذرة
الفكرة الأسطورية في ثنايا قضية لا ترتبط بها مباشرة، ثم يتركها، ويتناول قضية
أخرى، يعالج مقدماتها ويصل بالقارئ الى نتيجة، يمكن ربطها بالبذرة الأسطورية،
فيستخدمها كمقدمة جديدة، لا يستغربها القارئ، ولكنه يأخذها مأخذ المسلمات،
فيعالجها من عدة أبعاد، واضعًا بذرة لفكرة أسطورية جديدة، وينهي بنتيجة، وهكذا
يستمر في السرد، بطريقة تستلب عقل القارئ، وتجعله مستسلمًا لإرادة المؤلف.
·
كما ذكرنا، فإن يوسف ندا قد تم اعتقاله في الإسكندرية في شهر نوفمبر
1954، ولا ندري على وجه الدقة، ولم يذكر يوسف ندا، كم من الوقت قضاه رهن التحقيق
في الإسكندرية قبل أن يتم ترحيله إلى السجن
الحربي، وقد أفرج عنه في شهر إبريل 1956، أي أنه قضى سنة ونصف سنة تقريبًا رهن
الاعتقال.
·
وإذا تأمل القارئ سيرة الرجل كما حكاها، فسوف يظهر أن روايته عن أهوال
السجن، تتناقض مع روايته عن ظروف اعتقاله، فيوسف ندا منذ بداية الأمر، وهو يتمتع بحماية
كبار الضباط، سواء في البوليس المصري، أو في الشرطة العسكرية، فضابط البوليس
الكبير، هو الذي اصطحب ندا إلى السلطات وقام بتسليمه، أي أنه لقي معاملة حسنة، وقد
أقر بذلك.
·
يتضح من عينة التحليل، أن أسرته استخدمت علاقتها، ليتم إيداع يوسف ندا
عيادة السجن بمجرد دخوله إلى السجن الحربي، ومادام نفوذ الأسرة، قادرًا على نقله
إلى عيادة السجن، فهي قادرة بطبيعة الحال على التأثير في الأفراد المكلفين
بالحراسة، من أجل معاملة النزيل معاملة متميزة.
·
كما يتضح أن أحمد أنور، قائد البوليس الحربي، وكان من الشخصيات
العسكرية القوية والمحورية في الأحداث آنذاك، هو الذي أمر بنقل يوسف ندا من عيادة
السجن إلى المستشفى العسكري، بل وقام بزيارته للاطمئنان عليه عقب إجراء العملية، ليقوم بواجب عائلي تجاه والدته كما ذكر. والمرجح أنه هو الذي أوصى
ببقائه في المستشفى لمدة ثلاثة أشهر كاملة، لكي يتعافى من أثر العملية، وهو الحد
الأقصى المسموح به للبقاء في المستشفى بعد
إجراء مثل هذه العمليات. ومن غير المتوقع أن تتوقف رعاية قائد البوليس الحربي ليوسف
ندا بعد عودته من المستشفى إلى السجن، فكلنا يعلم أن المال أو العلاقات يحددان نوع
المعاملة التي يلقاها النزيل في السجون،وكلاهما توفّر ليوسف ندا.
·
يظهر من تحليل العبارات الأخيرة، طبيعة المزايدة والتناقض، (والفبركة)
التي تسم حديث الرجل وسرديته، فهو يقرر أن كل مريض كان عليه أن يدفع رشوة خمسين جنيهًا
شهريًّا (ما يعادل 12 جنيهًا ذهبًا بأسعار تلك الفترة) لكي يبقى في المستشفى، كأن
كل المرضى (السجناء) هم من كبار الأثرياء، ولو افترضنا جدلا صدق الرواية، فليس من
المنطقي أن يغامر الطبيب المشار إليه بتقاضي رشوة من نزيل حظِيَ بزيارة قائد
البوليس الحربي. ثم كيف قبل أن يدفع الرشوة لمدة ثلاثة أشهر للطبيب، ويعود فيخبرنا
في نفس السياق أنه رفض أن يكون ذلك الرجل الذي يجمع مبلغ الرشوة من بقية المرضى،
ثم يزايد على القارئ بتقديم وعظ وإرشاد دينيين عن أثر الرشوة، وموقفه المبدئي
منها!
·
يثبت من تحليل العينة، أن يوسف ندا استغل كل وسائل الواسطة والمحسوبية
والنفوذ، إلى جانب بذل الرشاوى، خلال فترة بقائه في السجن، الأمر الذي لا يجعله
بأي حال الشخص المناضل أو المجاهد الذي يدافع عن الحق والفضيلة التي يدعيها
ويتناقض معها. علاقات الاستغلال التي استثمرها يوسف ندا، لا تجعله الرجل المناسب
لوصف معاناة السجن، لأنه ببساطة لم يخبرها، ومن الأوْلى أن يتحدث عن هذه المعاناة
شباب الإخوان الفقراء، وكل من ليس له ظهر يحميه من المعتقلين في ذلك الوقت.
ولابد أن نتساءل مع القارئ: إذا كان هذا النزيل يتمتع بكل هذه الرعاية
والحماية، فكيف له أن يعاني من أهوال
التعذيب التي عرضها في بداية الكتاب، الرجل يتمتع بخيال واسع بلا شك، غير أن
التحليل العلمي لنصوص سرديته، يكشف بوضوح، أنه يمارس خطاب التلفيق. وأن المزيد من
القراءة والتحليل لبقية نصوص هذا الكتاب، ربما تؤدي إلى تهافت الأساطير التي نسجها
الرجل من وحي خياله، والتي تم توظيفها وترويجها بهمّة عالية، من جماعة الإخوان، من
أجل ترسيخ تراث المحنة وفكرة المظلومية.
ولا يعني ذلك أن بيئة السجن في العهد الناصري، كانت متنزهًا لجماعة
الإخوان، ولكننا نناقش حقيقة النصوص التي كتبت عن هذه المرحلة، ومنها يمكن الوصول
إلى حالة معرفة قريبة من الواقع، بدلا من المعرفة الأسطورية التي تروّجها مثل هذه
النصوص، وما يترتب على ذلك من تغييب كامل للعقل، ومفارقة الواقع، تكون له آثار
كارثية على سلوك عضو الجماعة الذي يسلم بهذه الأساطير.
مبدئيا، وحتى
ننتهى من تحليل بقية النص، يمكن تصنيف نص يوسف ندا، نوعًا من خطاب التلفيق، ما يؤكد
شهادة الدكتور محمد السعيد إدريس التي أوردنا فحواها في بداية المقال. وربما
نستطيع عبر تحليل عينات أخرى من الكتاب، أن نكشف تهافت مثل هذه القصص المنسوجة، كجزء
من مشروع علمي جاد يستهدف استخلاص التاريخ الحقيقي لهذا الجماعة. فلا سبيل إلى
تغيير التصورات الأسطورية إلا عبر مرحلتين، نفي الأسطوري، ثم بناء معرفة جديدة من
نقطة الصفر.