بين ثورتين: العلاقات المصرية الأمريكية ( 1971- 2014)
لم تأت المواقف العدائية الأمريكية الحالية نحو مصر
من فراغ، كما أنها ليست جديدة. فعلى مدار التاريخ الحديث، وبالذات منذ انتهاء
الحرب العالمية الثانية عام 1945 وظهور الولايات المتحدة كقوة عالمية عظمى على
أنقاض الإمبراطوريتين المتهاويتين (بريطانيا وفرنسا)، ومنذ تأسيس حلف شمال الأطلسى (الناتو) عام 1949
لاحتواء الاتحاد السوفيتي، تحرص واشنطن على فرض سيطرتها على أهم البؤر
الاستراتيجية فى العالم ومن بينها مصر. وفى كل مرة كانت مصر عصية على الاحتواء
والهيمنة كان العداء الأمريكى لها يتصاعد. هذا العداء أضحى سمة أساسية للإدراك
الأمريكى لمصر صاحبة الإرادة الوطنية المستقلة، وأصبح قانوناً سياسياً حاكماً
للعلاقة بين واشنطن والقاهرة. قانون يقول أن العزة والكرامة والاستقلال الوطنى
المصرى ورفض سياسات الهيمنة يواجه بعداء وتآمر أمريكى غير محدود، وأن الخضوع
المصرى والتفريط فى الاستقلال الوطنى والقبول بالتبعية ورهن الإرادة يقابل بصداقة
أمريكية ترقى إلى التحالف الاستراتيجي، فلماذا انقلب الأمريكيون على صديقهم
وحليفهم حسنى مبارك، ولماذا حرصوا على تثبيت الإخوان المسلمين فى حكم مصر؟
الإجابة على هذا السؤال هى التى تكشف وتفسر لنا كل
العداء الذى أفصح عنه الأمريكيون لثورة 30 يونيو 2013 التى أسقطت حكم الإخوان، كما
تفسر خلفيات الاصطفاف الأمريكى الراهن وراء مخطط الإخوان الرامى إلى إسقاط الثورة
تحت مسمى "إسقاط الانقلاب"، لكن السؤال الأهم هو ماذا يريد الأمريكيون
من مصر؟
إذا
كان الأمريكيون يريدون السيطرة على مصر، فهم كانوا يسيطرون عليها على مدى العقود
الأربعة الماضية، ونجحوا فى تأسيس ركائز قوية تضمن لهم السيطرة على القرار السياسى
المصرى عبر مشوار طويل من تخطيط وهندسة العلاقات الأمريكية المصرية عبر أدوات
ووسائل سياسية واقتصادية وعسكرية، لكنهم انقلبوا على نظام مبارك، وتحالفوا مع
الإخوان، وهم الآن يستهدفون مصر من جديد بعد سقوط حكم الإخوان، يريدون السيطرة على
القرار الوطنى المصرى من جديد، وعبر أدوات تمكنهم من هذه السيطرة على نحو ما
فعلوا، وبشروطهم، عندما دخلوا مصر فى أوائل السبعينيات وبالتحديد عقب الاجتماع
الشهير الذى جمع بين وكيل وزارة الخارجية الأمريكية، حينئذ، جوزيف سيسكو والرئيس
الأسبق أنور السادات فى 9 مايو 1971، وعلى أنفاض نظام جمال عبد الناصر وعلى أنقاض
النفوذ السوفيتى فى مصر.
هذا يعنى أمرين فى غاية الأهمية؛ الأول أنه فى وجود
نظام حكم وطنى يؤمن باستقلالية الإرادة ويرفض التبعية، نظام حكم له مشروع منحاز
للشعب ومؤمن بالعروبة لا يمكن تأسيس علاقة تبعية مصرية لأمريكا. الثاني، أنه فى
وجود علاقات مصرية –روسية قوية، أو على الأقل فى وجود توازن حقيقى فى علاقات مصر
بالقوى الدولية يصعب على أمريكا أن تفرض سيطرتها على مصر، لذلك كان رد الفعل
الأمريكى عصبياً على زيارة المشير عبد الفتاح السيسى موسكو، وكان انحيازهم للمخطط
الإخوانى لإسقاط ثورة 30 يونيو.
كان التخطيط الاستراتيجى الأمريكى فى دعم موجة
الثورات العربية هو إحلال حلفاء جدد من التيار الذى اعتقدوا أنه الأقوى والأكثر
انتشاراً داخل دول المنطقة، أى تيار "الإسلام السياسي" شرط أن يكون
مستعداً للتحالف مع إسرائيل. واختاروا الإخوان لوراثة حلفائهم القدامى فى الدول
العربية، الذين اعتقدوا أنهم لم يعودوا قادرين على تحمل مسئولية الاستراتيجية
الأمريكية الجديدة فى الشرق الأوسط، مهمة التأسيس لنظام إقليمى شرق أوسطى جديد
يحمى المصالح الأمريكية فى المنطقة. وبإسقاط الشعب والجيش للإخوان فى مصر أصيبت
الاستراتيجية الأمريكية الجديدة فى الشرق الأوسط بأسوأ انتكاساتها ولذلك كانت ردود
الفعل الأمريكية على إسقاط حكم الإخوان شديدة العصبية، وبدأوا فى التخطيط لفرض
الإخوان مجدداً طرفاً أساسياً فى الحكم من خلال رفض الاعتراف بثورة 30 يونيو،
والإصرار على التعامل مع ما حدث فى مصر يوم 3 يوليو 2013 على أنه
"انقلاب" وتوفير الدعم والحماية الكاملة لمخطط الإخوان فى السعى لـ
"إسقاط الثورة" وتكليف كل من تركيا وقطر للقيام بالدور الأساسى فى دعم
وإنجاح هذا المسعي، وممارسة كافة أنواع الضغوط على مصر وفى مقدمتها تجميد المعونات
العسكرية.
من هنا كان الرفض الأمريكى غير المباشر لقرار ترشيح
المشير عبد الفتاح السيسى فى الانتخابات الرئاسية المقبلة. رفض اقترن بضغوط هائلة،
لم يحن الوقت بعد للكشف عنها، وجاءت زيارة السيسى لموسكو لتبدد ما بقى من التعقل
الأمريكى إزاء مصر، فهم فهموا الزيارة على أنها توجه لإحلال موسكو محل واشنطن،
وتجديد التحالف المصرى– الروسى (السوفيتي) على نحو ما كان فى عهد الزعيم جمال عبد
الناصر كبديل للتحالف المصري- الأمريكى الذى لا تقبل ولا تتصور واشنطن أن تخسره.
أولاً- صدمتان كاشفتان: زيارة السيسى
لموسكو وأحداث أوكرانيا
كثير من خلفيات ردود الفعل الأمريكية المتباينة حول
الزيارة التى قام بها المشير عبد الفتاح السيسى لموسكو (11- 13 فبراير 2014) أخذت
تتكشف هذه الأيام فى ظل تفاقم التوتر بين الولايات المتحدة وروسيا حول تداعيات
أحداث أوكرانيا التى أخذت تظهر العودة غير المنتظرة لأجواء الحرب الباردة التى
كانت قد انتهت بتفكك الاتحاد السوفيتى وانهيار حلف وارسو وانقلابات أو ثورات دول
وسط وشرق أوروبا على نظمها الاشتراكية واندفاع معظمها للانضمام إلى الاتحاد
الأوروبى وحلف شمال الأطلسى (الناتو). أحداث أوكرانيا بدأت بإسقاط المعارضة،
الموالية للغرب والساعية لانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، لحكم الرئيس
الأوكرانى فيكتور يانوكوفيتش المدعوم من روسيا والرافض لانضمام بلاده إلى الاتحاد
الأوروبي، وتصاعدت الأحداث برفض روسيا الاعتراف بالانقلاب، وتدخلها العسكري، على
عكس كل التوقعات والتقديرات الغربية والأمريكية على وجه الخصوص، فى إقليم القرم
الذى انتهى بضم هذا الإقليم إلى روسيا الاتحادية، الأمر الذى أصاب الأمريكيين
بصدمة عدم التصديق ووضعهم أمام اختيارات شديدة الصعوبة، بين التورط عسكرياً فى
أحداث أوكرانيا وبين ابتلاع الهزيمة القاسية ودفع أثمان يصعب تقديرها من شأنها أن
تنال كثيراً من المكانة والمصداقية الأمريكية.
أزمة أوكرانيا تتفاقم وتؤكد حقيقتين أساسيتين تفرضان
نفسيهما الآن على النظام العالمي، الحقيقة الأولي، أن روسيا عادت قوية لتنافس على
زعامة النظام العالمى رافضة الاستسلام والقبول بالحرص الأمريكى على فرض نظام
الأحادية القطبية على العالم الذى أرادته واشنطن خلفاً لنظام الثنائية القطبية. روسيا
تسعى مع الصين والهند باقى دول "مجموعة البريكس" (جنوب أفريقيا
والبرازيل) لإقامة "تعددية قطبية" تحكم العالم بدلاً من التفرد الأمريكى
بالزعامة العالمية، وهذا الموقف يجعل روسيا حريصة على أن تعود لتفرض نفسها كقوة
دولية فى مناطق التنافس مع الولايات المتحدة ومنها إقليم الشرق الأوسط. أما
الحقيقة الثانية فهى أن الولايات المتحدة، التى تواجه تحديات بنيوية هائلة خاصة
على المستوى الاقتصادي، لا تريد أن تستسلم لدواعى الإقرار بنظام عالمى متعدد
الأقطاب رغم كل ما يتردد من داخلها من اعتراف بـ "أفول العصر الأمريكي"
وأن هذا الإصرار على عدم الاستسلام للواقع الدولى الجديد يدفعها هى الأخرى إلى
الدخول فى مواجهات بين الحين والآخر مع روسيا أو غيرها من القوى الدولية فى
مصادمات تعيد، بدرجة ما، أجواء الحرب الباردة السابقة وربما بنكهات مختلفة.
واقع دولى جديد كانت ردود الفعل الأمريكية على زيارة
المشير السيسى لموسكو كاشفة لبعض جوانبه، وكان الاحتفاء الروسى بالمشير والوفد
المصرى المرافق كاشفاً هو الآخر لجوانب أخري. فالزيارة الناجحة للمشير كشفت عن
أمرين أولهما: أن روسيا شديدة الحرص على أن تعود مجدداً إلى مصر، وأنها على
استعداد كامل للاستجابة للمطالب العسكرية المصرية سواء فى مجال التسليح أو التدريب
أو الصناعة العسكرية. وثانيهما، أن الولايات المتحدة ليست مستعدة للتفريط فى مصر
وغير مستعدة للسماح لموسكو كى تعود مجدداً إلى مصر لسبب رئيسى ومهم هو: أن الدخول
الأمريكى المندفع إلى مصر ابتداءً من عام 1971 لم يكن ليحدث لو أن الزعيم جمال عبد
الناصر قد بقى على قيد الحياة، أو لو أن نظامه قد كتب له الاستمرار بعد وفاته، وأن
الدخول الأمريكى إلى مصر لم يكن له أن يحدث إلا على أنقاض الخروج الروسى (السوفيتي)
من مصر.
كيف جرى طرد السوفييت من مصر، وكيف جاء الأمريكيون وتسللوا
إلى العمق المصري؟ وهل فى مقدورهم تحقيق ذلك وعبر أى أدوات؟ سؤال تكشف إجابته
خلفيات ودوافع الصراع الأمريكى الحالى مع مصر، صراع لم يبدأ الآن لكنه يؤرخ لمسيرة
طويلة من الصمود والمواجهة بين القاهرة وواشنطن.
ثانياً- من الصمود إلى المواجهة: سنوات
التحدى والكبرياء
منذ أن فرض الأمريكيون أنفسهم كقوة عالمية مع نهاية
الحرب العالمية الثانية وعيونهم لم تتحول عن مصر، كان مطلبهم منذ البداية هو إدخال
مصر ضمن حلفاء المعسكر الرأسمالى الغربى فى صراعه ضد الاتحاد السوفيتي، شرط أن
يكون هذا التحالف ضمن شراكة مصرية – إسرائيلية. لذلك كان لقاء جون فوستر دالاس
وزير الخارجية الأمريكية بالزعيم جمال عبد الناصر عام 1953 (أى بعد عام واحد من
قيام ثورة 23 يوليو 1952) لقاءً عاصفاً منذ اللحظة الأولي. جمال عبد الناصر يريد
تعاوناً مصرياً- أمريكياً قائماً على الندية والاحترام المتبادل، ودالاس يريد
إدخال مصر فى حلف ضد الاتحاد السوفيتي. عبد الناصر رفض هذا الحلف لسببين، أولهما،
أن الاتحاد السوفيتى لم يقدم على أى خطوة أو إجراء عدوانى ضد مصر. وثانيهما، أن
الشيوعية ليست خطراً على الشعب المصرى لأن الشعب المصرى عميق التدين. أما إذا كان
التحالف المصري- الأمريكى ضد إسرائيل فإن مصر مستعدة فوراً للدخول فى مثل هذا
التحالف".
هكذا فشلت أولى المحاولات لتجنيد مصر فى سياسة
الأحلاف المصرية. ومنذ تلك اللحظة بدأ العداء الأمريكى للنظام الثورى فى مصر يتأصل
فى ظل إدراك واشنطن أن هذا النظام الثورى يضع نصب عينيه أن إسرائيل هى العدو
الاستراتيجي، وفى ظل إدراك قادة الثورة المصرية وجمال عبد الناصر شخصياً أن
الولايات المتحدة هى الحليف الأهم والداعم الأهم لإسرائيل ومشروعها الاستيطانى
الصهيوني.
المحطات كثيرة بين مصر والولايات المتحدة، محطات
كانت فى معظمها عداء غير منقطع لمصر الثورة بعد أن رفض جمال عبد الناصر ربط مصر
بالمشروع الأمريكي، وبعد أن كشف مشروعه القومى القائم على أساس بناء مصر قوية
اقتصادياً وعسكرياً، وإيمانها بالوحدة العربية كهدف ومصير وبفلسطين كمحور ارتكاز
فى المشروع العربى الذى تقوده مصر، ووعيه المبكر بأن الوحدة العربية لن تتحقق إلا
بتحرير فلسطين، لأن إسرائيل ذرعت فى فلسطين لمنع وحدة العرب، وأن تحرير فلسطين لن
يتحقق إلا بتحقيق الوحدة العربية. جدلية التفاعل بين تحقيق الوحدة العربية وتحرير
فلسطين ظلت الشغل الشاغل لمشروع جمال عبد الناصر، وكان الحل فى نظره هو مصر، أى
بناء مصر القوية القادرة على قيادة العرب نحو مشروع الوحدة وتحرير فلسطين،
اعتقاداً منه بأن أى إنجاز عربى فى مشروع الوحدة، يقود إلى الاقتراب خطوات من
تحرير فلسطين، وأن الاقتراب من تحرير فلسطين يدعم النضال من أجل الوحدة.
فى ظل هذه القناعات عند جمال عبد الناصر تعامل معه
الأمريكيون، كما تعامل معه الإسرائيليون باعتباره العدو الأول فى المنطقة، وظلت
المعارك سجالاً بين الطرفين. جمال عبد الناصر يتزعم دعوة الحياد الإيجابى عام 1955
فى مؤتمر باندونج ويعترف بالصين الشعبية ويحصل على أول صفقة سلاح سوفيتية بوساطة
صينية حملت اسم "صفقة الأسلحة التشيكية" بعد أن فشل فى إقناع الولايات
المتحدة بتسليح الجيش المصرى للرد على الاعتداءات والاستفزازات على قطاع غزة (الذى
كان تحت الإدارة المصرية منذ حرب 1948 بقرار من الأمم المتحدة)، والولايات المتحدة
ترد بإلغاء قرار تمويل بناء السد العالى وتحرض البنك الدولى على رفض الطلب المصرى
بتمويل المشروع، فيرد جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس (26 يوليو 1956) فيأتى
الرد بريطانيا – فرنسا – إسرائيل بالعدوان على مصر (أكتوبر 1956)، وتتدخل الولايات
المتحدة لتدارك التدهور الأمنى فى الشرق الأوسط، ويبادر الرئيس إيزنهاور بخطته
الجديدة للسيطرة على الشرق الأوسط ويوجه الأنظار مجدداً نحو مصر لاستيعابها فى
مشروعه الجديد.
كان ظاهر مشروع إيزنهاور عام 1957 مساعدة دول
المنطقة وتنميتها أما باطنه فكان السعى لفرض الهيمنة والسيطرة لذلك كان الرفض المصرى
حتمياً، ثم جاء قرار وحدة مصر وسوريا (بعد الاستفتاء الشعبى فى البلدين) فى 22
فبراير 1958، ليضع مصر مجدداً فى مواجهة مع الولايات المتحدة، التى حرضت دولاً
عربية ضد مصر(الأردن – لبنان) لإسقاط الجمهورية العربية المتحدة تلك الدولة
الوحدوية الوليدة، وكان لثورة العراق (يوليو 1958) أثره البالغ فى إشعال نار
العداء الأمريكى للجمهورية العربية المتحدة خاصة بعد السعى العراقى للانضمام إلى
دولة الوحدة المصرية –السورية، وكانت مؤامرة الانفصال (26 سبتمبر 1961) هى ذروة
التآمر ضد الوحدة وضد مصر بالذات وضد المشروع القومى العربى كله.
وهكذا استمرت المعارك سجالاً بين مصر الثورة مع
الولايات المتحدة مروراً بالتدخل المصرى لدعم الثورة اليمنية للرد على مؤامرة
الانفصال، أو كأحد الردود على مؤامرة الانفصال، إلى أن جاء القرار الإسرائيلى
بتحويل مجرى نهر الأردن عام 1964.
تطورات متلاحقة اختتمت بالعدوان الإسرائيلى
(الأمريكي) فى الخامس من يونيو 1967. وكان اعتقاد واشنطن وتل أبيب أن نتائج هذا
العدوان (الذى دمر ما لا يقل عن 80% من تسليح الجيش المصري) ستكون نهاية مشروع
جمال عبد الناصر ونهايته شخصياً، لكن الشعب المصرى العظيم أسقط كل هذه الرهانات عندما
خرج بعد ساعات قليلة من إعلان عبد الناصر تنحيه عن كل مسئولياته وإعلان تحمله
"لكل المسئولية عن النكسة"، رافضاً الهزيمة ومصراً على تحرير الأرض تحت
زعامة جمال عبد الناصر، وهنا بالتحديد بدأت الملحمة الثانية للصمود المصرى أمام
المسعى الأمريكى لفرض الهيمنة، بإعادة بناء القوات المسلحة المصرية بدعم كامل من
الاتحاد السوفيتي، وهو الصمود الذى تأسس على أربعة مرتكزات أولها الشعب المصرى
العظيم الذى وقف بكل قدراته مدعوماً بقطاعه العام رافضا الهزيمة ومتحملاً مسئولية
تمويل إعادة بناء الجيش وتسليحه، والزعامة الملهمة المؤمنة بقدرات شعبها ورسالته
التاريخية، والجيش المصرى البطل الذى استوعب النكسة سريعا ووقف شامخا بعد أيام فى
معركة رأس العش ليعلن وجوده القوى والمقتدر، ثم الحليف والصديق السوفيتى الذى كان
أميناً وصادقاً فى الوفاء بالوعود، رغم كل المشاكل التى اعترت مسيرة العلاقات بين
موسكو والقاهرة بسبب ضغوط أمريكية غير مسبوقة على القيادة السوفيتية لتتوقف عن دعم
القدرات العسكرية المصرية.
ومن خلال مذكرات الفريق أول محمد فوزى وزير الحربية
المصرى وحواراته مع الدكتورة هدى جمال عبد الناصر يتأكد لنا أن مصر بدأت معركة
"حرب الاستنزاف" ابتداءً من يوم 11 يونيو 1967، أى فى اليوم التالى
لتراجع جمال عبد الناصر عن قرار التنحى وخضوعه لقرار الشعب أن يبقى على رأس
المسئولية الوطنية ليحرر الأرض المحتلة. بدأت حرب الاستنزاف التى امتدت إلى يوم 8
أغسطس 1970، (أى قبل وفاة عبدالناصر بـ 50 يوماً فقط) بتكليف الزعيم جمال عبد
الناصر للفريق أول محمد فوزى (رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة المصرية حينئذ)
قائداً عاماً للقوات المسلحة فى 11 يونيو 1967. وفى اليوم نفسه عقد عبد الناصر مع
محمد فوزى اجتماعاً تضمن التوجيه السياسى والعسكري، واتفاقا على القيادات الكبرى فى
القوات المسلحة، وأولها الفريق عبد المنعم رياض كرئيس للأركان، والفريق طيار مدكور
أبو العز قائداً للقوات الجوية، واللواء بحرى فؤاد محمد ذكرى قائداً للقوات
البحرية. كان أول تأكيد وتوجيه وجهه الرئيس عبد الناصر للقائد العسكرى الجديد
الفريق أول محمد فوزى فى نهاية الجلسة الأولى الثنائية بينهما فى ذلك اليوم
الافتتاحى لدورة النضال الوطنى الجديدة. "أن المواجهة مع إسرائيل تتم فى
الوقت المناسب. وإننى – (يا فوزي)- لا أريد أن يتم تهويد سيناء أو الضفة الغربية،
وهذه الأخيرة مسئولية الملك حسين، ولكنى سوف أوصيه حتى يجد طريقة سياسية مع
الولايات المتحدة فى أن يسرع بالحل.. أما من ناحيتنا، فإننى أريد المسألة فى سيناء
أن تكون عبارة عن جهنم بالنسبة للجنود الإسرائيليين، أريد أن أُشِّعر الجندى
الإسرائيلى بأن بقاؤه هنا (فى سيناء) عملية غير مريحة، أريد إجهاده، تخويفه، تقليل
معنوياته. يجب أن نستعد للتحرير، وعن التحرير أمامك – (يا فوزي)- ثلاث سنوات ونصف
على الأكثر، لنسترد سيناء مرة ثانية. بالنسبة للتفصيلات: التدريب، الانضباط،
التنظيم، التشريعات التى تريدها، سآخذ منك واجباً واحداً فقط وهو التسليح من
الخارج، أى من الاتحاد السوفيتي".
ثالثاً- روسيا كمحدد للعلاقة بين البلدين
وتم الاتفاق فى هذه الجلسة، على أنه طالما لم نقف
على أرجلنا بعد، فمن المصلحة ألا نثير إسرائيل، ومعنى ذلك أن نبقى سلبيين، ومن
يفتح النار على الخط الأمامى غرب القناة يحاكم محاكمة عسكرية، وقد وقع الفريق فوزى
منشوراً بذلك، إلا أن الجندى المصرى البطل، رمانة ميزان الجيش الوطنى المصرى كسر
القواعد وتجاوز كل المحاذير وقلب المعادلة وحول قانون التحرير الذى أعلنه الزعيم
بأن "ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة" إلى حقيقة مؤكدة على الأرض
وبأسرع مما يتصور الصديق قبل العدو.
يروى الفريق فوزى أنه فى الليلة نفسها (مساء 11
يونيو 1967) اتصل القائد الميدانى فى منطقة الشط شمال السويس بالفريق فوزى وقال
له: "عسكرى نشن وأصاب جندياً إسرائيلياً وزميلة له فى البر الثانى كانا
يسبحان فى قناة السويس وقتلهما.. ماذا نفعل؟"، رد الفريق فوزي: "رقيه
عريف". العساكر حوله عرفوا ما فعل زميلهم، تانى يوم كل واحد يريد أن يقلده،
ولهذا اشتغلت البندقية أول يوم، ثانى يوم.. الرشاش، ثالث يوم.. الهاون، رابع يوم..
الرشاش الثقيل، خامس يوم.. المدفعية الثقيلة، شئ طبيعى يتم بتلقائية بعد ما حدث فى
يونيو 1967، ولم يستطع الفريق فوزى أن يعترض.
وقد أثبتت إرادة القتال نفسها فى معركة صغيرة دفاعاً
عن النفس فى "رأس العش"، جنوب مدينة بورفؤاد. بعد 20 يوما فقط من وقف
إطلاق النار فى معركة 1967. وبعدها وفى يوم 21 أكتوبر نجحت البحرية المصرية فى
تدمير أكبر مدمرة إسرائيلية "إيلات" أمام شواطئ بورسعيد. وهذه العملية
أحدثت ضجة عالمية وإقليمية، ورفعت معنويات القوات البحرية، فلأول مرة يدمر زورق
طوربيد مدمرة بهذا الحجم، وتوالت ملاحم الصمود، وكان مؤتمر القمة العربية فى
الخرطوم (أغسطس 1967) حلقة هامة فى هذه الملاحم البطولية لأنه وضع إطار الصمود
السياسى بعد النكسة عندما أكد أنه "لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع العدو
الإسرائيلى قبل الانسحاب من كل الأراضى العربية المحتلة فى عدوان يونيو 1967".
ولم يكن الصمود ليحدث لولا الدعم السياسى والعسكرى
السوفيتي. فبعد عدوان يونيو 1967 وقعت مصر اتفاقيتين مع الاتحاد السوفيتى من أجل
إعادة بناء القوات المسلحة. واحدة خاصة بالتسليح، والثانية خاصة بالمستشارين
العسكريين، وكانت تشمل دعماً اقتصادياً وعسكرياً، وإعداد مسرح العمليات للمعركة
الذى يمتد من أسوان إلى الإسكندرية وليس جبهة قناة السويس فقط. وقد كشف الفريق
فوزى أن الاتحاد السوفيتى عوضنا مجاناً عما خسرناه من أسلحة فى عدوان يونيو 1967،
بعد أن قال لهم الرئيس عبد الناصر: "أنتم متسببون فى خسارة المعركة، لأنكم لم
تأخذوا الأمر جدياً فى الدعم العسكرى لمصر". وقد أيده فى ذلك القادة العرب
الذين سبقوه إلى موسكو: الرئيس الجزائرى هوارى بومدين، والرئيس العراقى عبد الرحمن
عارف، وبعد ذلك قام الزعيم السوفيتى ليونيد بريجينيف، فى جلسة مع الرئيس عبد
الناصر، بشطب 50% من ديون مصر العسكرية لدى الاتحاد السوفيتى من عام 1955- 1968.
وبعد العدوان حضر كبار العسكريين السوفييت بناء على
طلب مصر وفى مقدمتهم رئيس الأركان السوفيتي: "مانفى زخاروف" الذى قال له
الرئيس "تظل هنا فى مصر مع فوزى حتى يكتمل خط الدفاع الأول غرب القناة"،
وقد استجاب، ومد أقامته، وكان يذهب بنفسه إلى القناة، ولم يستكمل الموقع الدفاعى
غرب القناة إلا فى نوفمبر 1967، فى الوقت الذى صدر فيه قرار مجلس الأمن رقم 242
الذى اعتبره العسكريون هدنة مؤقتة.
تواصلت الملاحم بعد ذلك الواحدة تلو الأخرى حتى كانت
زيارة الرئيس عبد الناصر لموسكو 23 – 25 يناير 1970 (الزيارة السرية) التى كان
هدفها الحصول على حائط قوى من صواريخ سام وستريلا بأنواعهما المختلفة بعد أن حصلت
إسرائيل من أمريكا على طائرات متطورة من طراز سكاى هوك وفانتوم واستطاعت أن تتجاوز
جبهة قناة السويس إلى العمق فى الداخل المصرى وهو ما أعتبره عبد الناصر خطاً أحمر
لا يقبل بتجاوزه أو حدوثه. كان طلب الرئيس محدداً: التعجيل بعمل شبكة الصواريخ
الجديدة وأن يشمل الدفاع الجوى بهذه الصواريخ القاهرة والإسكندرية، وأن يكون مع
هذه الصواريخ دفاع جوى مضاد للطائرات للدفاع عن الصواريخ لأنها ستهاجم من العدو
بعد تركيبها.
فى هذه الزيارة خاطب عبد الناصر القيادة السوفيتية
بكل وضوح على النحو التالي: "إسرائيل
تريدنا أن نخضع، وأنا لن أخضع، ولو نصل إلى الدرجة التى أخضع، أستقيل وليأتى أحد
يتفاوض معهم". "الحقيقة
نحن نقف ليس ضد إسرائيل، ولكن ضد أمريكا.. أمريكا تدعم إسرائيل لتفرض علينا
إرادتها".
استجابت القيادة السوفيتية وحصلت مصر على أكثر من
95% من طلباتها، ولم يترك عبد الناصر مصر إلا بعد أن تأكد من إقامة حائط الصواريخ
سام على طول خط قناة السويس فى ملحمة بطولية أخري، وخلال ساعات معدودة استغلت فيها
مصر فارق التوقيت مع نيويورك بعد أن قبلت مصر مبادرة وزير الخارجية الأمريكى
ويليام روجرز بوقف مؤقت لإطلاق النار (8 أغسطس 1970). وكان المعنى المباشر لإقامة
حائط الصواريخ أن القوات المصرية بات فى مقدورها العبور آمنة إلى الضفة الشرقية
لقناة السويس والوصول إلى "المضايق السيناوية" التى كان يعنى الوصول
إليها التحرير الفعلى لكل سيناء، وفى يوم 28 سبتمبر، مات جمال عبد الناصر.
رابعاً- زيارة سيسكو والاختراق الأمريكى
لمصر
بوفاة الزعيم جمال عبد الناصر نستطيع أن نقول أن
حائط السد الأول أمام الاختراق الأمريكى لمصر قد انهار، أو على الأقل بات انهياره
ممكناً إذا أمكن الإجهاز على أهم مرتكزات هذا النظام، وبعدها يمكن التفكير فى
كيفية الخلاص من حائط السد الثانى الذى كان يحول دون الاختراق الأمريكى أى الوجود
والنفوذ السوفيتى فى مصر.
بهذا المعنى نستطيع أن نقول أن التخطيط الأمريكى
لاختراق مصر قد تحدد فى مهمتين؛ الأولي: هى العمل على الإجهاز على نظام عبد الناصر
بعد غياب رأس النظام، المهمة الثانية، هى التخلص من النفوذ السوفيتى وهى مهمة
اعتبرها الأمريكيون أنها ستكون أسهل بكثير بعد غياب جمال عبد الناصر وبعد التخلص
من نظامه، ومن ثم اعتبر الأمريكيون أن التخلص من نظام عبد الناصر هو سبيلهم الأهم
للدخول إلى مصر والتأسيس لنظام بديل يكون موالياً لواشنطن، وعندها لن يكون
للسوفييت وجود فى مصر.
هذه المهمة المحورية، مهمة الإجهاز على مشروع عبد
الناصر ونظامه نجح الأمريكيون فى تحقيقها بكفاءة عالية لأسباب ثلاثة أساسية إلى
جانب أسباب كثيرة أخرى فرعية.
السبب الأول أن نظام جمال عبد الناصر كان يرتكز على
شخص الزعيم ولم يتحول بالفعل إلى نظام مؤسسى راسخ قادر على الثبات بعد غيابه. كانت
العلاقة مباشرة بين الزعيم والشعب، لم يكن عبد الناصر فى حاجة إلى وساطة بينه وبين
الشعب، وكان هو بشخصه يعتبر صمام الأمان، لذلك كان غيابه المفاجئ كافياً لإصابة
النظام بتصدعات عميقة يصعب ترميمها، وكان ذلك كافياً لجعل البلاد مهيأة للاهتزاز
ومهيأة للاختراق دون مقاومة عنيفة. كان جمال عبد الناصر هو الرابطة الحقيقية بين
الشعب وما هو موجود من مؤسسات، وكان هو "اللحمة" التى تربط هذه المؤسسات
ببعضها البعض، وبغيابه حدث تفكك تلقائى فى مؤسسات النظام.
السبب الثاني، هو الصراع السياسى المبكر على السلطة،
حيث كانت هناك بالفعل أربعة مراكز قوى هي؛ أولاً: مجموعة الشخصيات البارزة التى
كانت تحكم مصر بجوار جمال عبد الناصر، الذين اعتاد الإعلام تسميتهم بـ "رجال
جمال عبد الناصر" بزعامة السيد على صبرى نائب رئيس الجمهورية الأسبق،
وثانياً: مجموعة ما تبقى من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وثالثاً نائب رئيس الجمهورية
الوحيد الذى تقلد منصبه فى نهاية عام 1969 أى قبل أقل من عام من وفاة الزعيم،
ورابعاً الأستاذ محمد حسنين هيكل، الذى كان يمثل بشخصه مركزاً لقوة مهمة، وهى
القوة المعنوية للنظام، لكن هذه القوة كانت لا تعمل منفردة، هى قوة بشخصها ولكنها
تعتبر القوة المرجحة بانحيازها لأى طرف من مراكز القوة الثلاثة الأخري.
يذكر الأستاذ سامى شرف وزير شئون رئاسة الجمهورية
الأسبق فى الجزء الثانى من مذكراته أن معالم هذا الصراع بدأت مبكرة وربما من ليلة
وفاة الزعيم جمال عبد الناصر وقبل أن يتم نقل جثمانه من منزله بمنشية البكرى إلى
قصر القبة، حسب ما ذكره نقلاً عن السيد حسن التهامى وروايته عن المشهد داخل منزل
الرئيس. فقد تحدث التهامى عن أنه نقل للرئيس السادات ما رآه فى منزل عبد الناصر من
لقاءات جانبية بين الفريق محمد فوزى والسيد على صبرى من ناحية وبين السيد سامى شرف
والسيد شعراوى جمعة والسيد أمين هويدى من ناحية أخرى وأنه خاطب السادات قائلاً:
"الجو يوحى بتدبير ما.. أشعر به.. وأنت سيادتك نائب رئيس الجمهورية، فأرجوك
أن تشغل مكان عبد الناصر لتحمى البلد من أى هزة أو تآمر من هؤلاء.. وهذا وضعك
الطبيعي".
كانت هذه بداية "حديث المؤامرة" وعلى لسان
حسن التهامي، بعدها جاء الحديث عن أسباب تركيز كاميرات التليفزيون المصرى أثناء
الجنازة على شخص السيد زكريا محيى الدين، وقيل رداً على ذلك أن التركيز لم يكن على
زكريا بقدر ما كان على شخص خالد عبد الناصر الذى كان يسير فى الجنازة إلى جانب
زكريا، لكن الأهم هو ما يتعلق بمسعى الأعضاء الأحياء من مجلس قيادة الثورة إلى بحث
فكرة "القيادة الجماعية" على الرئيس السادات الذى رفضها بعد رفضه لقاء
جماعى مع هؤلاء وقبل فقط بلقاء منفرد، حيث كان اللقاء بينه وبين عبد اللطيف
البغدادى ممثلاً للمجموعة ومعه مذكرة جرى إعدادها بعناية تتضمن تفاصيل هذه الفكرة،
وكان تعليق السادات الذى أبلغ به البغدادى هو أنه "لا يوافق على ما جاء فى
المذكرة، كما أنه يعتبر أن نظام عبد الناصر قد تجاوز أعضاء مجلس قيادة الثورة،
وأنه يعتبر الاستفتاء الذى جرى على استمرار عبد الناصر يومى 9 و10 يونيو 1967 يمثل
عهداً جديداً فى قيادة عبد الناصر للمسيرة، يضاف إلى ذلك الموقف الشعبى خلال
الجنازة، والذى يعد بمثابة استفتاء جديد على نهج عبد الناصر، وبناء عليه يرفض ما
جاء فى المذكرة وليس لديه استعداد لمناقشتها".
ولقد تم حسم الصراع بين مراكز القوى الأربعة على
مرحلتين: الأولي، عندما انحاز رجال نظام عبد الناصر والأستاذ هيكل إلى جانب نائب
الرئيس (أنور السادات) فى مواجهة بقايا أعضاء مجلس قيادة الثورة، حيث بادرت مؤسسات
النظام بقيادة رجال نظام عبد الناصر (اللجنة التنفيذية العليا، واللجنة المركزية
للاتحاد الاشتراكي) فى دعم ترشيح نائب الرئيس أنور السادات رئيساً جديداً لمصر على
حساب طموحات من بقى من أعضاء مجلس قيادة الثورة. وأكمل مجلس الأمة الإجراءات
الدستورية حيث اجتمع يوم 7 أكتوبر 1970 وأقر ترشيح السادات، وفى نفس اليوم ذهب
السادات ليعلن من هناك برنامجه والشرعية العامة التى يتمسك بها. وقبل أن يلقى
بيانه كان قد انحنى أمام تمثال عبد الناصر، وقال فى بيانه: "جئتكم على طريق
عبد الناصر، واعتبر أن ترشيحكم لى بتولى رئاسة الجمهورية، هو توجيه بالسير على
طريق جمال عبد الناصر". أما المرحلة الثانية من حسم الصراع فكانت بانحياز
الأستاذ هيكل إلى صف الرئيس السادات للتخلص من رجال عبد الناصر يوم 13 مايو 1971 فيما
عُرف بـ"مؤامرة مراكز القوي" لكن كانت هناك مرحلة ثالثة من حسم الصراع
عندما انقلب الرئيس السادات على الأستاذ هيكل عام 1974 لتحفظات الأستاذ هيكل
لإدارة السادات مفاوضات فك الاشتباك واندفعاته المبكرة نحو إسرائيل والولايات
المتحدة فى أعقاب حرب أكتوبر 1973 مباشرة.
أما السبب الثالث فى نجاح المسعى الأمريكى لاختراق
مصر عقب وفاة الزعيم جمال عبد الناصر فيتركز فى استعداد خليفة عبد الناصر (الرئيس
السادات) لفتح أبواب مصر على مصراعيها أمام الأمريكيين، وكانت هناك مؤشرات أوليّة
لذلك.
أول المؤشرات هو حرص السادات على ضم حسن التهامى إلى
مجموعته الخاصة فى الحكم، وثانى هذه المؤشرات فهو ما يتعلق بتنامى الوجود المكثف
للسيد كمال أدهم شقيق زوجة الملك فيصل (العاهل السعودى فى ذلك الوقت)، ويشير
الأستاذ سامى شرف فى مذكراته (الجزء الثانى ص 728- 730) إلى أن العلاقة بين
الثلاثة:السادات والتهامى وكمال أدهم، علاقة قديمة.
بدأت علاقة السادات مع حسن التهامى مبكرة عندما عملا
معاً فى الحرس الحديدى للملك فاروق قبل ثورة 23 يوليو، ثم تجددت العلاقة، أو كانت
مستمرة، ولكنها كامنة بعد الثورة، عندما عملا معاً فى المؤتمر الإسلامى الذى أنشئ
سنة 1957، وكان يضم مصر والسعودية وباكستان، وكان هذا المؤتمر يتخذ مقراً له فى
منيل الروضة بالقاهرة، وكان ممثل السعودية المفوض بالاتصال بالسادات هو كمال أدهم.
ومنذ هذا التاريخ نشأت علاقة وثيقة بين السادات وكمال أدهم.
ومن الضرورى الإشارة إلى أن الرئيس السادات كان قد
أعلن فى 4 فبراير 1971 مبادرة للسلام حملت اسم "مبادرة 4 فبراير" تضمنت
دعوة إلى انسحاب جزئى للقوات الإسرائيلية على الشاطئ الشرقى لقناة السويس كمرحلة
أولي، على أساس جدول زمنى يتم وضعه لتنفيذ بقية قرار مجلس الأمن، واستعداد القاهرة
للبدء فى تطهير مجرى قناة السويس، وإعادة فتحها للملاحة الدولية وخدمة الاقتصاد
العالمي، وجاء ويليام روجرز وزير الخارجية الأمريكى للقاهرة والتقى بالرئيس
السادات يوم 6 مايو 1971 للبحث فى تفاصيل هذه المبادرة، وذهب من القاهرة إلى
إسرائيل لينقل وجهة النظر المصرية.
زيارة جوزيف سيسكو للقاهرة يوم 9 مايو 1971، أى بعد
ثلاثة أيام من زيارة ويليام روجرز جاءت تحت هذا الغطاء، وبالتحديد تحت دعوى
"مناقشة نتائج زيارة روجرز إلى إسرائيل" لكن الهدف الحقيقى كان شيئاً
آخر تماماً.
كان هدف زيارة سيسكو الحقيقى هو عقد لقاء خاص بالرئيس
السادات (لقاء منفرد دون مشاركة أى مسئول مصرى آخر) من أجل محاولة الحصول على
إجابة واضحة وصريحة لسؤال واحد ومحدد هو: إلى أى درجة وبأى نسبة يمكن أن يتحول
الرئيس المصرى الجديد عن خط ومشروع جمال عبد الناصر؟
تفاصيل هذا اللقاء "السري" التى أعرض لها
هى من مضمون نص الشهادة التى أدلى بها السيد شعراوى جمعة نائب رئيس الوزراء وزير
الداخلية الأسبق بعد إكمال عقوبة السجن بتهمة ما سُمى مؤامرة مراكز القوى فى 13
مايو 1971 (هذه الشهادة أدلى بها شعراوى جمعة، ومعظم إن لم يكن كل رجال نظام عبد
الناصر بعد خروجهم من السجن، ضمن مهمة التأريخ للحقبة الناصرية من تاريخ مصر التى
أشرفت عليها مؤسسة الشارقة للإنتاج الفنى التى كان يديرها الأستاذ محمد عروق مدير
إذاعة صوت العرب الأسبق وسكرتير تنظيم طليعة الاشتراكيين وتنظيم الطليعة العربية -
مقر المؤسسة – إمارة الشارقة، وكل هذه التسجيلات موجودة الآن فى مكتبة تليفزيون
الشارقة ولقد أتيحت لى فرصة قراءة نص الشهادات التى أدلى بها المرحوم الأستاذ
شعراوى جمعة وبعض الشهادات الأخرى، واستكملت المعلومات من الأستاذ محمد عروق
مباشرة. تقول شهادة السيد شعراوى جمعة ما يلي: "طلب دونالد بيرجيس القائم
بالأعمال الأمريكى بالقاهرة مقابلة للسيد جوزيف سيسكو وكيل وزارة الخارجية
الأمريكية مع الرئيس السادات، الذى وافق على الفور، وطلب أن تكون المقابلة فى
منزله بالجيزة وليس فى رئاسة الجمهورية. وعند وصول الضيفين (برجيس وسيسكو) إلى
منزل الرئيس طلب منهما أن تكون الجلسة فى حديقة المنزل، وبرر ذلك تحسباً،
"لأن جماعة عبد الناصر بيسجلوا مقابلاتي"، وامتد اللقاء لفترة طويلة عاد
بعدها الرجلان إلى مقر السفارة الأمريكية بجاردن سيتى وهما فى حالة ذهول مما سمعاه.
تفاصيل لقاء سيسكو مع السادات جرى تفريغها فوراً
بأوامر من السيد أحمد كامل رئيس المخابرات العامة حينئذ، الذى طلب بدوره اجتماعاً
عاجلاً للقيادة السياسية (قيادة تنظيم طليعة الاشتراكيين).
بعد مناقشة صاخبة لاجتماع القيادة السياسية للتنظيم
الطليعى انقسم الحضور إلى مجموعتين: الأولى على رأسها سعد زايد الذى اتهم الرئيس
السادات بالخيانة، وطالب باعتقاله، وقال "أنا محتاج عشرين عسكرى فقط لأذهب
لاعتقاله وفى مقدورى إحضاره فى ما لا يزيد عن ساعتين من الآن.. نضعه فى السجن
الحربى ونعلن تسجيلاً للشعب ونحاكمه بتهمة الخيانة العظمي". الثانية، كان على
رأسها شعراوى جمعة، ومعظم الحضور حيث كان رأى السيد شعراوى جمعة أن مصر مقبلة على
معركة التحرير، ومن الخطر أن تحدث هذه الصدمة للجيش والشعب، نحن فى حاجة إلى توحيد
الجهود لتحرير الأرض المحتلة وبعد أن ننتهى من معركة تحرير سيناء يمكن أن نتفرغ
لمحاسبة السادات ونصفى حساباتنا معه".
أياً كان الأمر كان صباح يوم 13 مايو 1971 صباحاً
مختلفاً تماماً كما يوضح الأستاذ سامى شرف، حيث استطاع السادات تنفيذ خطته بالتخلص
من رجال عبد الناصر وبدأ بإقالة شعراوى جمعة، ما دفع زملاءه بتقديم استقالاتهم،
وفى المساء تم اعتقالهم جميعاً، وانطلقت المظاهرات المدبرة المؤيدة لما أسماه
السادات بـ "ثورة التصحيح".
كان انقلاب 14 مايو 1971، الذى حمل بعد ذلك اسم
"ثورة 15 مايو" أو "ثورة التصحيح" هو أهم خطوات الرئيس
السادات ليس للتفرد بالحكم فقط، بل وليحكم كما يريد هو، وكما اعترف لوكيل وزارة
الخارجية الأمريكية جوزيف سيسكو لتبدأ مرحلة هنرى كيسنجر مسشار الأمن القومى
الأمريكى بعد ذلك لهندسة علاقة واشنطن بالقاهرة، بما يؤمن للأمريكيين القدرة على
التحكم فى القرار الوطنى المصرى على أنقاض نظام جمال عبد الناصر وعلى أنقاض النفوذ
السوفيتي، الذى كان أهم ما يشغل هنرى كيسنجر وهو يدبر ويخطط لعهد جديد من العلاقات
الأمريكية- المصرية.
خامساً: طرد السوفييت والاختراق الأمريكى
لمصر
لم يكن "انقلاب 15 مايو" إلا مجرد خطوة
أولى للتأسيس لنظام جديد فى مصر لذلك كان توجه الرئيس السادات لعقد حزمة تحالفات
شملت القوى المعادية لشخص جمال عبد الناصر ونظامه وبالتحديد الإخوان، وقدامى
الرأسماليين والليبراليين بل أنه لم يستثن التيار الماركسى أيضاً من تحالفه
الجديد. فقد عقد صفقة مع مرشد الإخوان حينذاك الشيخ عمر التلمسانى بالعفو عن كل من
كان فى السجون من قادة الإخوان ومنحهم فرصة العمل السياسى مقابل الإجهاز المعنوى
على عبد الناصر وعهده، كما أفرج عن مصطفى أمين المتهم فى قضية تخابر مع جهة
أجنبية، (ألغى الرئيس السادات عقوبة السجن المؤبد عنه بعد حرب أكتوبر 1973) ووضعه
مع أخيه على أمين على رأس أهم مؤسستين صحفيتين فى مصر (الأهرام والأخبار) بعد
التخلص من الأستاذ محمد حسنين هيكل. لكن كانت الخطوة الأهم بعد ذلك التى كانت تشغل
بال الأمريكيين بعد التخلص من نظام عبد الناصر هى التخلص من النفوذ السوفيتي،
وهكذا كان أيضاً موقف قادة الكيان الصهيوني.
يكشف هنرى كيسنجر فى مذكراته (الجزء الأول- الفصل
12- الأهلية للطبع والنشر-عمان- الأردن) أن جولدا مائير رئيسة الحكومة الإسرائيلية
كانت على قناعة بأنه "طالما ناصر يرأس مصر، فلا تقدر هى على تحديد إمكانية
إحلال السلام"، كما يكشف تطابق رؤيته مع رؤية جولدا مائير وتناقضها مع رؤية
وزارة الخارجية الأمريكية التى كانت تعتقد أن تسوية مسألة الاحتلال الإسرائيلى
للأراضى العربية بعد الرابع من يونيو 1967 يمكن أن تحقق السلام. كيسنجر كان يرى أن
جوهر المشكلة مع الراديكالية العربية (خاصة نظام عبد الناصر) هو رفض "وجود
إسرائيل فى ذاته وليس وضع حدوها"، لذلك نراه يؤكد "لم يراود تفكيرى
أبداً أن تسوية النزاع الإسرائيلي-العربى ستؤدي، وبصورة أكيدة، إلى تقليص النفوذ
السوفيتي".
ولقد أوضحت مجموعة الوثائق السرية التى كشفت عنها
وزارة الخارجية الأمريكية عام 2013 مدى نجاح كيسنجر فى تحقيق تقارب أمريكى – مصرى
قبل وأثناء وبعد حرب أكتوبر 1973، وحرصه على الفوز بـ "القلب المصري"
وإخراج السوفييت من المعادلة. كان كيسنجر حريصاً فى ذلك الوقت على عدم الصدام
المباشر مع الاتحاد السوفيتى لإنجاح سياسته الخاصة بـ "الانفراج الدولي"
كبديل للحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى لكنه، بقدر هذا
الحرص، كان مهتماً بأن تحل الولايات المتحدة محل السوفييت فى مصر، لذلك كانت
مبادراته لتقديم المساعدة لقوات الجيش الثالث المصرى المحاصرة داخل سيناء، من خلال
الضغط على إسرائيل للسماح بإدخال "معدات غير قتالية" للجيش المصرى
المحاصر ودخل بسبب ذلك فى خلافات حادة مع القادة الإسرائيليين واتهمهم بـ
"نكران الجميل"، لكنه كان دائماً حريصاً فى محادثاته مع السفير
الإسرائيلى فى واشنطن سيمحا دنيتز على "تأكيد التزامه الإسرائيلي" حتى
أنه قال فى إحدى المحادثات: "إنى أعمل بكامل طاقتى كمستشار لإسرائيل".
وكانت إجابة سيمحا دينتز الساخرة: "أنى أخشى أن تطلب منا راتباً فى نهاية
الشهر".
تكشف هذه الوثائق أيضاً أن هدف هنرى كيسنجر من أن
توفير المساعدات للجيش الثالث الميدانى المصرى فى سيناء "لم يكن
إنسانياً" فهو لا يعير أى اهتمام لهؤلاء الجنود حسب اعترافاته فى مذكراته،
لكنه أراد قبل كل شئ أن يفوز على السوفييت فى معركة مصر، لذلك نجده يقول وفقاً
لتلك الوثائق: "هدفنا ليس إيصال المعدات.. ولكن إذا أوصلنا عشرة فى المائة
فقط من هذه المعدات فهذا يعنى خصم عشرة فى المائة من الرصيد السوفيتى فى مصر".
كما تكشف هذه الوثائق أن الدور الذى قام كيسنجر
لتعميق التواصل بين القاهرة وواشنطن وصل إلى أوجهه فى الأسبوع الأخير من شهر
نوفمبر 1973، لذلك يعلق كيسنجر عل ذلك بقوله: "أن المصريين بدأوا يسلكون
الطريق الأمريكي، وليس هم فقط بل العرب معهم". وهكذا وصل كيسنجر إلى ما يريده
عبر دوره المزعوم "كوسيط سلام بين المصريين والإسرائيليين"، وصل إلى
استنتاجه المهم "المصريون يسلكون الطريق الأمريكي".
كان المدخل هو السلام، ووسيلة الإغراء هى الوعود
بالرخاء. لم يغب عن بال كيسنجر حاجة المصريين للمعونات الاقتصادية، لكنه كان حريصاً
على ربط هذه المعونات بشرطين؛ أولهما، السلام مع إسرائيل، وثانيهما، أن تكون
المعونات وفقاً للشروط الأمريكية التى تؤمن وجوداً ونفوذاً أمريكياً قوياً فى مصر.
نجح الأمريكيون فى ذلك بدرجة كبيرة بعد أن فرضوا
شروطهم بخصوص إجراء تغييرات هيكلية فى بنية الاقتصاد المصري، من خلال تصفية قاعدته
الإنتاجية (القطاع العام)، ومن خلال توجيه المعونة الأمريكية لخلق طبقة جديدة
موالية لواشنطن من رجال الأعمال يكون فى مقدورها السيطرة على الاقتصاد ومنه
الانتقال إلى السيطرة على الإعلام والبرلمان، ومن البرلمان إلى الحكومة كى تصبح الحكومة
فى مصر هى حكومة هذه الطبقة من رجال الأعمال الموالين للأمريكيين والإسرائيليين،
والمتنفذين فى الأجهزة الإعلامية، وهذا ما جرى حرفياً خلال نظام حسنى مبارك.
سادساً: مصر الثورة.. والتحديات الأمريكية
جاءت ثورة 25 يناير لتسقط النظام العميل للأمريكان
ولكن نجاح الإخوان فى سرقة الثورة جدد ربط مصر مع المشروع الأمريكى الجديد للشرق
الأوسط، وبعد إسقاط الشعب لحكم الإخوان وجدت الإدارة الأمريكية للرئيس باراك
أوباما نفسها فى العراء، لذلك بدأوا ضغوطهم الاقتصادية والعسكرية لتركيع مصر، من
خلال تحفيز صندوق النقد الدولى للتوقف عن تقديم أية قروض لمصر، ومن خلال تعمد ضرب
السياحة المصرية، والتوقف عن بيع الأسلحة المطلوبة لقطاع الأمن الداخلى وتجميد
المعونات العسكرية للجيش المصري، والأهم هو التحالف مع الإخوان فى مخطط إسقاط
الحكم المصرى الجديد.
الدافع إلى هذا كله هو إدراك الأمريكيين أن مصر خرجت
من أيديهم بعد ثورة 30 يونيو، وهم يخططون للعودة مجدداً إلى مصر، ومثل هذه العودة
تتطلب تجديد فرض الهيمنة السياسية والاقتصادية عن طريق إعادة تمكين الإخوان فى مصر
مرة أخري، والحيلولة دون عودة السوفييت إلى مصر عبر البوابة الروسية، لذلك كان رد
الفعل الأمريكى عصبياً على زيارة المشير السيسى لموسكو لأسباب كثيرة من أبرزها
بالطبع أن يحل التسليح الروسى للجيش المصرى محل التسليح الأمريكي، وإذا حدث ذلك لن
تكون هناك رقابة أمريكية لمستوى تسليح الجيش المصرى وأنواعه ما يهدد أمن إسرائيل
الذى يحظى بأولوية المصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط، وإذا تخلت مصر عن المعونة
العسكرية والاقتصادية الأمريكية فسوف ينعكس ذلك ليس فقط على تداعى النفوذ الأمريكى
فى مصر بل وفى معظم الدول العربية، وهذا ما سوف تقاتل أمريكا لمنع حدوثه، ومن ثم
يبقى القرار المصرى هو العامل الحاكم فى هذا كله لسد أبواب الاختراق الأمريكى
القادم عبر مسارين: أولهما: تأسيس نظام سياسى وطنى حريص على استقلال الإرادة
الوطنية وصد أى محاولة للهيمنة من أى قوة دولية، وامتلاك نظام اقتصادى وطنى قادر
على الاعتماد على الذات وتحقيق التقدم الاقتصادى مع العدالة الاجتماعية لتشمل القطاع
الأوسع من المواطنين الذين هم عماد الاستقرار الوطني.
ثانيهما، إقامة سياسة خارجية متوازنة مع جميع القوى
الدولية وخاصة مع روسيا والصين وعدم تمكين الأمريكيين من اختراق مصر من الداخل عبر
وسائل التخريب السياسى والاقتصادى والاستخباراتى مع قوى الإرهاب الداخلى فى مصر
التى تخطط وتتآمر لإسقاط الثورة المصرية.