آثار
إعلان الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول حالة الطوارئ والأحكام العرفية – رغم
رفعها بعد عدة ساعات- الكثير من التساؤلات حول تطورات المشهد السياسي في كوريا
الجنوبية التي تعرف بأنها دولة ديمقراطية، متهماً المعارضة بممارسة أنشطة معادية
للدولة والتخطيط للتمرد، وهو ما صوت على إثره البرلمان بحضور 190 من أعضائه البالغ
عددهم 300، بقرار مخالف يقضي برفع هذه الأحكام العرفية. وأحدث ذلك حالة من زخم
سياسي متصاعد وأزمة دستورية متفاقمة برزت إلى الواجهة بعد خطوة مفاجئة من الرئيس
الكوري الجنوبي، وسط توترات شديدة بين الحكومة والمعارضة، ما يهدد بتحويل المؤسسات
الدستورية إلى ساحة معركة سياسية.
ولكن هذا
القرار الذي وصفه "يون" بأنه ضروري "لإعادة بناء وحماية"
الأمة، جاء بعد تقديم الحزب الديمقراطي المعارض مقترحات بعزل مراقب الحسابات العام
والمدعي العام، بجانب تمرير ميزانية مخفّضة اعتبرها يون تهدد وظائف الحكومة
الأساسية. وأشار يون إلى إن الأحكام العرفية تهدف إلى القضاء على القوات الموالية
لكوريا الشمالية وحماية النظام الدستوري. وتأسيساً على ذلك سيتم العرض فيما لأبرز
المحفزات وراء الأزمة السياسية في كوريا الجنوبية.
أولاً:
الصراع داخل البرلمان
لطالما
شهد البرلمان في كوريا الجنوبية صدامات متكررة بين حكومة يون والحزب الديمقراطي
الذي يملك الأغلبية البرلمانية. وظهر ذلك
بشكل واضح في الأزمة الأخيرة عندما تحرك البرلمان للتصويت ضد قرار الرئيس بفرض
الأحكام العرفية وإبطال هذا القرار. وكذلك دعت الولايات المتحدة السلطات في كوريا
الجنوبية الى التزام تصويت البرلمان لصالح رفع الأحكام العرفية التي فرضها الرئيس
يون سوك يول. وكان الرئيس الكوري الجنوبي قد أعلن في وقت سابق اعتراضه على عمل
البرلمان قائلاً: "أن جمعيتنا الوطنية أصبحت ملاذًا للمجرمين، ووكرًا
للديكتاتورية التشريعية التي تسعى الى شلّ النظم القضائية والإدارية وقلب نظامنا
الديمقراطي الليبرالي".
وتعود جذور الأزمة إلى فوز الأحزاب
المعارضة بالانتخابات التشريعية في كوريا الجنوبية في إبريل 2024؛ حيث حصد الحزب
الديمقراطي المعارض (يسار الوسط) مع حزب آخر حليف 176 مقعدا من أصل 300 تشكل مقاعد
البرلمان. وهو ما تعهد الرئيس الكوري الجنوبي المحافظ يون سوك يول على إثره بإجراء
إصلاحات، ولاسيما بعد تراجع مقاعد حزب "قوة الشعب" المحافظ الحاكم الذي
يتزعمه الرئيس يون سوك يول مع حلفائه من 114 إلى 108 مقاعد فقط في البرلمان. وفي
السياق ذاته، مهدت نتيجة الانتخابات البرلمانية الطريق أمام جمود تشريعي خلال
السنوات الثلاث المتبقية التي سيتحول فيها الرئيس يون إلى "بطة عرجاء"،
بينما تواجه البلاد تحديات تشمل تراجع الاقتصاد والعدوانية المتزايدة لكوريا
الشمالية.
ثانياً:
الصراع بين الحكومة والمعارضة
تتضح أسباب هذه الأزمة في تصاعد الصراع
بين الحكومة والمعارضة في كوريا الجنوبية؛ حيث أشارت بعض التقديرات إلى أن حزب
"سلطة الشعب" الحاكم وصل إلى طريق مسدود مع الحزب الديمقراطي المعارض،
حول مشروع قانون الميزانية للسنة المقبلة. وكانت التوترات قد ازدادت إثر رفض يون
دعوات لإجراء تحقيقات مستقلة في الفضائح المتعلقة بزوجته وكبار المسؤولين في
حكومته، مما أثار انتقادات حادة من خصومه السياسيين.
وبعد رفع الأحكام العرفية التي فرضها
الرئيس أعلن الحزب الرئيسي المعارض في كوريا الجنوبية خلال بيان له أنّه سيرفع
دعوى قضائية ضدّ الرئيس يون سوك يول وعدد من كبار معاونيه الأمنيين بتهمة
"التمرد"، وذلك بسبب فرضه الأحكام العرفية في البلاد في إجراء أحبطه
البرلمان سريعاً. وجاء في البيان: "سنرفع دعوى بتهمة التمرد" ضد كل من
رئيس الجمهورية ووزيري الدفاع والداخلية وشخصيات رئيسية في الجيش والشرطة متورطة
في إعلان حالة الأحكام العرفية، مشيرا إلى أنّ المعارضة ستسعى كذلك إلى عزل الرئيس
عبر محاكمته برلمانياً.
وهو ما قدم على إثره عدد من كبار
معاوني الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول "استقالتهم بشكل جماعي" بعد
فشل محاولته فرض الأحكام العرفية في البلاد، ويتقدم هؤلاء رئيس ديوان الرئاسة
جيونغ جين-سيوك. والجدير بالذكر، أن يون كان رئيساً ضعيفاً منذ فوزه في الانتخابات
العامة التي شهدتها كوريا الجنوبية في أبريل التي فازت خلالها المعارضة بأغلبية
ساحقة. ومنذ ذلك الحين، لم تتمكن حكومته من تمرير
مشاريع القوانين التي أرادتها، وتم تقليص صلاحياتها لنقض مشاريع القوانين التي
كانت المعارضة تمررها.
ثالثاً:
الملاحقات القضائية للمعارضة
بدأ يون بعد خسارة حزبه الانتخابات
التشريعية في إبريل الماضي في ملاحقة المعارضة قضائياً، وهو ما ذكرت على إثره بعض
الصحف المحلية أن المعارضة التي يقودها لي جاي ميونج، تسعى جاهدة لحماية قيادتها
من الملاحقة القضائية، في حين يرى يون أن المعارضة تعرقل عمل الحكومة بشكل ممنهج،
ووصف يون الجمعية الوطنية بأنها "ملاذ للمجرمين"، في إشارة إلى محاولات
المعارضة المتكررة لعزل المسؤولين الحكوميين.
وفي
السياق ذاته، شهدت شعبية يون انخفاضا بين الناخبين، بعد أن غرق في العديد من فضائح
النفوذ السياسي والفساد - بما في ذلك فضيحة تتعلق بالسيدة الأولى وأخرى حول
التلاعب بالأسهم. وهو ما اضطر على إثره الرئيس الكوري الجنوبي
إلى إصدار اعتذار بثه التلفزيون الرسمي، قال فيه إنه كان ينشئ مكتبا للإشراف على
واجبات السيدة الأولى، لكنه رفض تحقيقا أوسع حول ما حدث، وهو ما كانت أحزاب
المعارضة تطالب به.
وقبل
أيام معدودة من فرض يون الأحكام العرفية اقترحت المعارضة خفض الميزانيات لحكومته -
وبحسب القوانين الكورية الجنوبية، لا يمكن نقض مشروع قانون الميزانية. كما تحركت
المعارضة أيضا لعزل أعضاء مجلس الوزراء، بما في ذلك رئيس هيئة التدقيق الحكومية، بسبب
إخفاقهم في التحقيق مع السيدة الأولى. ودعت المعارضة السياسية الجماهير إلى التجمع
والاحتجاج خارج البرلمان. وكما هو معروف فالمظاهرات الجماهيرية السلمية شائعة في
كوريا الجنوبية وقد أثبتت فعاليتها في تغيير الحكومات من قبل.
وكان يون
قد فاز يون بفارق ضئيل في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في العام 2022 أمام
منافسه لي، واتبع سياسة حازمة تجاه كوريا الشمالية، مع تعزيز تحالف بلاده مع
الولايات المتحدة والتقرب من اليابان القوة الاستعمارية السابقة والتي تكثر
الخلافات التاريخية معها، وهو الأمر الذي آثار استياءً في الشارع الكوري الجنوبي.
وفي
النهاية: يمكن القول إن رغم أن كوريا الجنوبية تعيش حالة من
الاستقرار، إلا أنها ليست المرة الأولى التي تواجه فيها البلاد مثل هذه التحديات،
ففي الثمانينات، شهدت البلاد انتفاضة ضخمة أدت إلى تحولها نحو الديمقراطية، ولكن
الصراعات السياسية لم تتوقف. وتزايدت الفجوة في عهد يون مع المعارضة على خلفية السياسات
التصعيدية للرئيس الحالي تجاه كوريا الشمالية رغم أن الشعبين ينتميان إلى نفس
الهوية. فكان هناك أمل كبير- خاصة بعد فوز ترامب- في إنهاء الصراع وفتح قنوات
التواصل بين الكوريتين، حتى لو كان ذلك على المستوى الاجتماعي فقط، لكن الرئيس
الكوري الجنوبي الحالي مازال يتخذ مساراً أكثر تصعيداً، مما زاد من تعقيد المشهد
السياسي.