المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

مبادرة أمن البيانات العالمية.. دعوة لبناء عالم رقمي آمن

الأربعاء 16/أغسطس/2023 - 09:49 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
أ.د. وانغ قوانغدا - لُجين سليمان


أ.د. وانغ قوانغدا- أستاذ جامعة شنغهاي للدراسات الدولية، أمين عام لمركز الدراسات الصيني العربي للإصلاح والتنمية

لُجين سليمان- باحثة في مجال العلاقات الصينية العربية 


مقدمة

على الرغم من أن الاعتقاد السائد في عالم اليوم بأنّ الذكاء الصنعي وعصر الآلة هما بمثابة بداية لانتهاء العمل البشري، أو انتهاء التدخل البشري في صيرورة العمل، إلا أنه وفي كل مرة تثبت الوقائع أنه لا غنى عن الإنسان كعصب أساسي وعنصر ضروري في مختلف الحقول، فاليوم وفي عصر المعلومات الذي نعيشه من غير الممكن أن يتحول أي أمر مُعطى إلى معلومة دون عملية معرفية يشكل الإنسان أحد أهم أركانها، وهو ما يعني بطريقة أو بأخرى أن الإنسان يبقى جوهر أي عملية أو ثورة أو تحول، ولذلك كان لا بدّ من طرح مفهوم آخر يحفظ المعلومة وحاملها الإنسان على السواء ألا وهو "أمن المعلومات"، خاصة وأنّ ما نعيشه اليوم من تقدّم في مجالات مختلفة بات أمرا مخيفا إن لم تصاحبه "حوكمة" حقيقية، ففي عصر الحروب والاضطرابات، لا بدّ من الاستناد إلى حماية حقيقية أو على الأقل التأسيس لجانب إيجابي يكافئ ما يمكن أن يصدر من جوانب سلبية عن أي أمر.

قد كان "الفيلسوف الأمريكي "وليم جيمس" محقا في طرحه عندما سأل طلابه يوما في محاضرة ألقاها قائلا: " بما أن أزمنة الحروب تحشد الطاقات وتنتزع من كل إنسان أفضل ما يمكن أن يعطيه الصحبة والمؤازرة وبذل النفس أفلا يجدر أن نتمنى اندلاع حرب جيدة، لوضع حد للخمول والتسبب؟.وكان جوابه أن يجب اختراع "مكافئ معنوي للحرب" داخل مجتمعاتنا، أي معارك سلمية تستعين بالفضائل نفسها، وتحشد القدر نفسه من الطاقات دون أن تشهد بالضرورة الفظائع التي تسببها الحروب، نحن بحاجة إلى حركة واسعة النطاق قادرة على القيام حول قيم كونية، وربما يتجاوز ذلك جميع الحدود السياسية أو الدينية أو الإثنية أو العرقية". هو ذاته ما يجب التفكير به فيما يحدث اليوم من تقدم تكنولوجي قائم على المعلومة ، فحتى الساعة تظهر النتائج أنه لا حل أو بديل عن تعاون في مجال أمن البيانات، تعاون محوكم قائم على أسس حضارية علمية  تنموية.

الخلفية النظرية لمبادرة أمن المعلومات

شكّل التقدم التكنولوجي الذي يشهده عصرنا واقعا مريبا،  فعلى الرغم من الميزات المرافقة لهذا النوع من التقدم إلا أن محاذيره أيضا كثيرة، والتي منها البطالة التي قد ترافق الاعتماد على الآلة بدلا من الإنسان، وكذلك استبعاد الإنسان من مرحلة تقييم عمل الآلة والحكم على نتائجها، هذه المخاطر تزداد حدّة في دول العالم الثالث لأسباب مختلفة، أولها أن واقع تلك الدول قد لا يحتمل هذا النوع من التطور المفاجئ، انطلاقا من هنا كان لا بد من التفكير في التوجه نحو إقامة تعاون في مجال أمن البيانات.

في سبتمبر عام 2020، أطلقت الصين "مبادرة أمن البيانات العالمية" وكانت بمثابة حل صيني لوضع قواعد للحوكمة الرقمية العالمية، من أجل بناء فضاء سيبراني سلمي وآمن ومنفتح وتعاوني ودفع التنمية للاقتصاد الرقمي بشكل سليم، الأمر الذي لاقى تقديرا إيجابيا واسع النطاق من قبل المجتمع الدولي. وبناء على هذه المبادرة، أصدرت الصين والدول العربية في أواخر مارس من عام 2021"مبادرة التعاون بين الصين وجامعة الدول العربية بشأن أمن البيانات".

دعا الجانبان من خلال المبادرة جميع دول العالم إلى النظر إلى مسألة أمن البيانات بنظرة شاملة وموضوعية تستند إلى الحقائق، والعمل على ضمان الإمداد الآمن والمنفتح والمستقر للمنتجات والخدمات الخاصة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في العالم، مع التشجيع على رفض تخريب أو سرقة البيانات المتعلقة بالبنية التحتية الحيوية للدول الأخرى باستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ورفض الأنشطة التي تمس الأمن القومي والمصالح الاجتماعية العامة للدول الأخرى باستخدام تلك التكنولوجيا.

واقعيا، تتداخل هذه المبادرة أيضا مع مبادرة "الأمن العالمي" التي تتضمن في أركانها مبدأ أساسيا ينصّ على أن الأمن في عالم هو ليس أمنا تقليديا بل هو أيضا أمن معلوماتي، وكذلك تتداخل مع "مبادرة التنمية العالمية" التي تدعو إلى أن تساعد الدول بعضها البعض في المجال التنموي، هذا بالإضافة إلى أنها في الجانب الحضاري تمسّ بشكل أو بآخر مبادرة الحضارة العالمية، التي تدعو إلى إقامة حوار حضاري بين الدول، ولعلّ الحوار العلمي القائم على المعرفة المعلوماتية هو أحد أركان المهمة للتعاون الحضاري، وهو ما يصبّ في مجتمع المصير المشترك للبشرية كلها.

محتويات المبادرة

احتوت المبادرة الصينية العربية فيما يتعلق بالتعاون في مجال "أمن البيانات" على عدد من النقاط، والتي كان منها:

شهدت الثورة التكنولوجية والمعلوماتية والاقتصاد الرقمي تطورا هائلا، مما غيّر نمط الإنتاج والحياة للبشرية: وهو ما أدخل الكثير من التحسينات إلى الحياة اليومية، ولكن في الوقت ذاته يوجد أيضا محاذير لتغيير هذا النمط، هو ما يجب التركيز عليه واستقصائه، خاصة في الدول النامية التي هي بمثابة مستهلك لتلك المنتجات.

إن البيانات باعتبارها عنصرا جوهريا للتكنولوجيا الرقمية تتزايد وتحتشد بشكل هائل في العالم، وتلعب دورا مهما في تحقيق التنمية المبتكرة: وفي هذا المجال لا بدّ من الإشارة إلى الدور الكبير الذي يلعبه الإنسان في مجال البيانات وتحديدا في مجال المحاكمة المنطقية للنتائج الصادرة، فاليوم بات كثيرون يعتقدون أن الابتكار في استخدام الآلة قد يؤدي إلى الاستغناء عن العنصر البشري، وهو ما يشير إلى خطر كبير، فالحكمة والعقلنة الإنسانية من الأمور التي لا غنى عنها.

ندعو جميع الدول إلى إيلاء الاهتمام بالتنمية والأمن، وتبني مقاربة متوازنة للتعامل مع العلاقات بين التقدم التكنولوجي والتنمية الاقتصادية : وفي هذه النقطة لا بدّ من الإشارة إلى وجود بعض الدول اليوم التي تعمل على تحقيق تقدم اقتصادي وذلك بدون وجود أدنى مقومات البنية الصناعية، وهو ما يعطي انتقال سريع من الحقبة الزراعية إلى الحقبة الرقمية بدون المرور بمرحلة ضرورية وأساسية ألا وهي التنمية الصناعية، وهو ما يشكّل فجوة وبالتالي يجب إعادة النظر في هذا الأمر مرارا.

نؤكد مجددا على ضرورة حفاظ دول العالم على بيئة تجارية منفتحة وعادلة وغير تمييزية لتحقيق المنفعة المتبادلة والكسب المشترك والتنمية المشتركة: فقد يكون للتكنولوجيا الرقمية وتسريع الوصول للبضائع والمنتجات دورا كبيرا في وصول التحديث إلى دول العالم النامي، ولكن ومع هذا يجب في الوقت ذاته الأخذ بعين الاعتبار فكرة اعتماد دول العالم النامي بشكل كامل على تلك المنتجات القادمة من العالم المتقدم، فهو يخلق تبعية جديدة، وهو أمر يستحق النظر مطولا، فتلك المشكلة هي مشكلة قديمة جديدة، كانت ولم تزل تكرّس حالة من التبعية في دول العالم الثالث، التي تملك ما يكفي من الاضطرابات الاقتصادية والتي تمنعها من تحقيق أي تقدم، وبالتالي إن وصول تلك المنتجات المتقدمة لن يؤدي سوى إلى تكريس المزيد من التبعية، ولذلك يجب إقامة تعاون كفيل بإيجاد نمط متوازن يحمي دول العالم الثالث.

نؤكد على ضرورة تعزيز التواصل وتعميق الحوار والتعاون على أساس الاحترام المتبادل، والعمل سويا على إقامة مجتمع ذي مستقبل مشترك للفضاء السيبراني يسوده السلام والأمن : فلا غنى عن التعاون واستكشاف المسارات التنموية في العصر الحالي من خلال تعاون علمي وعملي ينتقل من مراكز الأبحاث إلى الواقع الحقيقي.

أهمية التعاون في مجال البيانات

قد يرى كثيرون أن التعاون في مجال البيانات شأنه شأن أي تعاون آخر، فقد امتلأت الصحف بأهمية التعاون في المجال السياسي والاقتصادي والتنموي والمناخي، فما هي ضرورة التعاون في مجال البيانات؟ ولهذا الأمر جانبان، الأول: هو أن التعاون في مجال البيانات يدخل في المجالات السابقة الذكر الاقتصادية والسياسية والتنموية، والثاني: هو أن سرعة التحوّل التي شهدها عصرنا، جعلت البيانات من الأمور التي من الضروري حوكمتها والتعامل معها بشيء من الحذر وذلك على الرغم من أهميتها.

وتتركّز أهمية التعاون في الأسباب التالية:

شهد عالمنا المعاصر تغيرات كبيرة والتي أحد أهم أسبابها هي الثورة التكنولوجية والمعلوماتية والاقتصاد الرقمي الذي تطور بسرعة كبيرة، مما غيّر نمط الإنتاج والحياة للبشرية وترك تأثيرات عميقة على التنمية الاقتصادية والاجتماعية لدول العالم ومنظومة الحوكمة العالمية والحضارة البشرية.

إن البيانات تقوم بإعادة بناء حياة الإنسان بطريقة مختلفة، ولا تتعلق فقط بالمجال التكنولوجي، بل ترتبط أيضا بالأمن الاقتصادي والاجتماعي، وكذلك بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

يعتمد عصرنا الحالي على المعلومات وتكنولوجيا المعلومات، هذا العصر المعلوماتي تسلّم القيادة من المكنات الإنتاجية وسلمها إلى النظم الالكترونية التي تتحكم في جوهر عمل المصنع وما يحتويه من مكنات. وبذلك فإنّ عصر المعلومات حوّل مركز الثقل من المصنع إلى جهاز الكمبيوتر ، وذلك بعد أن كان العصر الصناعي قد نقل مركز ثقل المجتمعات من الحقل الزراعي إلى المصنع. وبخلاف العصر الصناعي الذي كان يسيطر عليه صاحب المال، فإن الذي يسيطر على الأجهزة الالكترونية والبرمجة والأنظمة المعلوماتية هم أصحاب العقول، وأصحاب العلم، وهو ما قد يكون فرصة سانحة للتوجه نحو التحرّر من سلطة المال، والانتقال نحو الموهبة والابتكار القائم على الجهد البشري، خاصة وأن هذا النوع من العمل لا يحتاج إلى موارد مالية كبيرة لتأسيسه كالمنصع مثلاً.

في الوقت الذي أنتج لنا فيه العصر الصناعي دولا تفصل بينها حدودا جغرافية، فإنّ عصر المعلومات لا يعترف بالحدود الجغرافية بل بات يشكّل تهديدا لمفهوم الدولة القومية، لأن المعلومات تسافر عبر الحدود دون الحاجة إلى رخصة أو جواز سفر، وهو ما يشكل فرصة وتحدّ في الوقت ذاته، فهل تلك المعلومات التي تصل الدول مخترقة كل حدود ممكنة، هي معلومات آمنة ودقيقة وحقيقية؟.

وعلى الرغم من أنّ كل فكرة مما سبق تنصّ على فرصة وفائدة، إلا أنها قد تكون تهديدا في الوقت ذاته، وهنا تجدر الإشارة إلى ما ورد في كتاب "الإنسان والمعرفة في عصر المعلومات..كيف تحوّل المعلومات إلى معرفة"..لمؤلفه: "كيت ديفيلن" يقول الكاتب: "يُنشئ المهندسون البنايات والجسور والحافلات والطائرات، والأدوات المنزلية وتكنولوجيا الاتصال، وهم يستندون في أعمالهم على أسس متينة تمتدّ إلى عقود بل إلى مئات السنين من التقدم العلمي في مجال الفيزياء وغيرها من العلوم، أما العاملون في تصميم نظم المعلومات ومعالجتها (وهم يتألّفون من أناس وآلات أو خليط من الناس والآلات) فعليهم أن يعتمدوا على أسس أكثر هشاشة. ويضيف: "في الواقع عندما تتوقّف لنقارن الأسس العلمية التي يُبنى عليها الهندسة المدنية أو الميكانية أو الإلكترونية مع الفهم النظري الذي تبنى عليه طرق معالجة المعلومات نكتشف أننا ما زلنا سُذّجا في كل ما يتعلق بالمعلومات والمعرفة"  ..لعلّ ما سبق يشكّل نقطة أساسية توضّح أهمية إقامة تعاون في مجال أمن المعلومات بين مختلف الدول، كي يتم تبادل التجارب في هذا المجال، وهو ما تعمل عليه الصين فعلا من خلال مبادرة أمن البيانات العالمية، فالرغبة في مزيد من المعرفة من المفترض أن تولد مزيدا من التعاون، وهنا لا بدّ من ذكر تجربة "ماري كوري" العالمة في مجال الفيزياء التي كانت تستخدم "اليورانيوم المشع" في مختبرها كل يوم جاهلة بما يحيط بها من خطر، هذا الخطر هو ذاته ما يجب أن يدفع بالتعاون بين الأمم إلى الأمام، وبالتالي فإنّ دفع الحوكمة الرقمية هو أمر ضروري، ومن الممكن أن يثري التعاون الصيني العربي في مجال الاقتصاد الرقمي. وقد حقّق التعاون الرقمي في السنوات الأخيرة بين الصين والدول العربية نتائج مثمرة على مستويات مختلفة. على سبيل المثال:

أطلقت الصين مع مجموعة من الدول العربية منها: مصر والسعودية والإمارات "مبادرة التعاون الدولي للاقتصاد الرقمي في إطار الحزام والطريق" في عام 2017. وفي يوليو عام 2020، دعا الاجتماع الوزاري التاسع لمنتدى التعاون الصيني العربي في قراره إلى تعزيز التعاون بين الجانبين في مجال الإنترنت وتنمية الاقتصاد الرقمي بما يحقّق فائدة متبادلة. كما وقّعت الصين مع كل من السعودية والمنظمة العربية لتكنولوجيات الاتصال والمعلومات والأكاديمية العربية لتكنولوجيا العلوم والنقل البحري في يناير 2016 على مذكّرات تعاون بشأن نظام بيدو، لتتأسّس بذلك آلية التعاون الرسمية. ومنذ ذلك الحين، توسّع التعاون الصيني العربي حول نظام بيدو بشكل كبير.

التطلع الى المستقبل

قد لا يكون في إمكاننا التنبؤ بالمستقبل ولكن بإمكاننا صنعه من خلال العمل المستمر والدؤوب وتكثيف التعاون. من المعروف أنه في المجال المعلوماتي يعتمد مبدأ تدريب الآلة بالمعلومات على تزويدها بكم كبير من البيانات بحيث تصبح قادرة على توليد المعرفة مع الزمن بعد حصولها على كم كبير من المعطيات، وهو ما من المفترض أن يحصل بالنسبة إلى التعاون بين الدول، فمن الصعب تكوين معرفة حقيقية وخبرة عميقة في هذا المجال ما لم يتم تكثيف التعاون تمهيدا لاستخراج أسس وبرتوكولات مفيدة للجميع.

عام 1998 قال "وليام غيتس" المدير التنفيذي لشركة ميكروسوفت: "في تاريخ الإنسانية المبكرة استندت الامتيازات التكنولوجية إلى توافر بعض النباتات والحيوانات والمناطق الجغرافية، في مجتمع بزوغ المعلومات الحالي أصبحت الموارد الطبيعية الحاسمة هي الذكاء الإنساني والمهارة والقيادة وفي كل منطقة من العالم يوجد منها وفرة ، وهذا يعد بأن تكون المرحلة القادمة في التاريخ الإنساني ذات أهمية خاصة"..هي أهمية يجب العمل على خلقها وتكريسها كي تتحوّل المعلومات إلى معارف من خلال التدخّل البشري الذي يساهم في حمايتها وجعلها مفيدة، وهو ما يجب أن يتم من خلال عملية "حوكمة طويلة الأمد"، وهو بالفعل ما نأمل أن يحصل من خلال تعاون طويل الأمد، ليس فقط بين الصين والدول العربية، بل بين الصين ومختلف دول العالم.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟