في 22
أكتوبر 2021 عززت الصين من ضغوطها على تايوان بتكثيف التوغلات الجوية لمقاتلاتها
الحربية؛ حيث تشكل الطائرات المقاتلة الصينية أحدث أداة لبكين لتعزيز الضغط على
الجزيرة الديموقراطية، مما يثير مخاوف من أن يتسبب أي خطأ بتحوّل الصراع البارد
إلى حرب شاملة، ولعل هذه الخطوات التصعيدية من جانب الصين دفعت الولايات المتحدة
إلى الإعلان بأنها ستدافع عن تايوان إذا هاجمتها الصين، وهو الأمر الذي يعبر عن
موقف يبدو فيه تحول عن السياسية الخارجية الأمريكية تجاه هذه القضية.
الجدير
بالذكر أن الولايات المتحدة كانت قد قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع تايبيه في 1979
للاعتراف ببكين ممثلًا رسميًا ووحيدًا للصين، لكنّ واشنطن لا تزال أقوى حليف
لتايوان ومزوّدها الأول بالأسلحة، لا بل إنّ الإدارة الأمريكية ملزمة من الكونغرس
ببيع الجزيرة أسلحة لتمكينها من الدفاع عن نفسها، كما أن هناك مجموعة من التشريعات الأمريكية التي تلزم
واشنطن بمساعدة تايوان في الدفاع عن نفسها، ولكن الموقف الأمريكي الغامض يشير إلى
نهج ما يعرف باللبس الاستراتيجي، مع ترك الأمور غامضة حول طبيعة الإجراءات التي قد
تتخذ ضد الصين، على الجانب الآخر دعت بكين واشنطن إلى "التصرف بحذر بخصوص
تايوان"، متوعدة بأنه "لا مجال معها للمرونة في القضية"، وهو ما
ساهم في تصعيد الصراع بينهما في ظل اعتبار الصين لتايوان البالغ عدد سكانها حوالي
23 مليون نسمة جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية.
وبالنسبة لتايوان أعلن مكتب
الرئاسة إن البلاد لن ترضخ أمام الضغوط ولن تتسرع إذا تلقت المساعدة. وأضاف المتحدث باسم
الرئاسة، كزافيي تشانغ، إن تايوان ستظهر عزيمة قوية في الدفاع عن نفسها، معترفًا
بموقف إدارة بايدن الصلب في دعم بلاده.
تصعيد عسكري صيني
استنادًا إلى قاعدة بيانات وكالة
فرانس برس التي تضم كل عمليات توغل الطائرات الحربية الصينية المعروفة في منطقة
"تعريف الدفاع الجوي بالجزيرة" منذ أن بدأت وزارة الدفاع التايوانية في
الإعلان عنها في سبتمبر 2020، تبدو الزيادة في وتيرتها وحجمهًا واضحًا؛ حيث وقع
أكبر توغل في وقت سابق من شهر أكتوبر 2021 عندما سجلت 149 طلعة جوية في منطقة
الدفاع الجوي بجنوب غرب تايوان خلال أربعة أيام كانت تحتفل الصين خلالها بعيدها
الوطني.
و"منطقة تعريف الدفاع الجوي
بالجزيرة" لا تتطابق مع المجال الجوي الإقليمي لتايوان بل تشكل مساحة أكبر
تخترق جزءًا من منطقة تحديد الدفاع الجوي الصينية وحتى جزءًا من البر الرئيسي.
وسجلت في هذه الأيام الأربعة
وحدها زيادة بنسبة 28 بالمئة عن إجمالي توغلات الشهر السابق الذي كان شهد أكبر عدد
من الطلعات الجوية حتى الآن، كما أعلنت تايوان إنها سجلت في عام 2020 حوالى 380
عملية توغل في القطاع الجنوبي الغربي من منطقة الدفاع الجوي، وهو رقم تم تجاوزه
فعليًا مرتين منذ بداية العام مع تسجيل 692 عملية توغل بين الأول والثاني والعشرين
من تشرين أكتوبر.
وتشكل الطائرات المستخدمة تهديدًا
متزايدًا لا سيما القاذفة "اتش6" التي تتمتع بقدرة نووية، كما أنه حتى
سبتمبر 2020 سجلت تايوان توغل 32 مقاتلة وثلاث قاذفات. ومنذ بداية الشهر الجاري
كانت هناك 124 طلعة لطائرات مقاتلة و16 عملية توغل لقاذفات، ويعتقد المحللون أنه
يجب عدم المبالغة بالخطر الذي تشكله هذه الطلعات.
الجدير بالذكر أن التصعيد الصيني
ضد تايوان جاء بعد أن وجهت الصين انتقادات لاذعة لكل من أمريكا وكندا بسبب إرسال
كل منهما سفينة حربية إلى مضيق تايوان، نهاية الأسبوع الماضين قائلة إنهما تزعزعان
السلام والاستقرار في المنطقة. على الجانب الآخر من جانبها، نشرت وكالة أنباء
تايوان الرسمية (Central News Agency) تقريرًا
يفيد بأن الجيش الأمريكي أكد أن المدمرة "USS-Dewey" والفرقاطة الكندية "HMCS-Winnipeg" عبرتا مضيق تايوان من 14 أكتوبر وحتى 16 من الشهر نفسه،
ميرزة التزامها بأمن منطقة المحيطين الهادئ والهندي.
الموقف الأمريكي
أكد البيت الأبيض في 22 أكتوبر
2021 أن السياسة الأمريكية المتبعة حيال تايوان لم تتغير، في محاولة لاحتواء
التوتر مع بكين غداة تصريح الرئيس جو بايدن تعهد فيه الدفاع عن تايوان إذا تعرضت
لهجوم صيني؛ حيث سعت واشنطن إلى تجنب تصعيد التوتر القائم مع الصين بتشديدها على
أن سياستها حيال تايوان لم تتغير، وأن الرئيس لم يكن بصدد الإعلان عن أي تغيير في
سياسة الولايات المتحدة تجاه الأزمة.
ويتمثل الموقف الأمريكي بصورة
واضحة في احترم تعهّدها بموجب القانون بمساعدة تايوان في الدفاع عن نفسها، والاستمرار
في معارضة أي تغيير أحادي للوضع القائم. وأنها لا تزال تقتدي بقانون العلاقات مع
تايوان الصادر في العام 1979 الذي طالب فيه الكونغرس بأن توفر الولايات المتحدة
السلاح للجزيرة للدفاع عن نفسها، لكنه ظل غامضًا حول إمكان تدخل واشنطن عسكريًا.
وفي
مقر قيادة حلف شمال الأطلسي في بروكسل، شدد وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن على
الموضوع نفسه؛ حيث أعلن أنه على غرار ما فعلنا في الماضي سنواصل مساعدة تايوان بما
تحتاج إليه من قدرات للدفاع عن نفسها، وفي أثناء لقاء انعقد بتاريخ 21 أكتوبر 2021
مع ناخبين في مدينة بالتيمور في ولاية ميريلاند نظمته شبكة "سي.ان.ان"
الإخبارية الأمريكية، قال بايدن ردًا على سؤال عما إذا كانت الولايات المتحدة
مستعدة للدفاع عسكريًا عن تايوان إذا تعرضت الجزيرة لهجوم صيني "أجل. لدينا
التزام بهذا الشأن".وبدا
تصريح الرئيس الأمريكي مناقضا للسياسة الأمريكية القائمة منذ فترة طويلة في ما
يعرف بـ"الغموض الاستراتيجي" التي تساعد واشنطن بموجبها تايوان في بناء
دفاعاتها وتعزيزها دون التعهد صراحة بتقديم مساعدتها في حال حدوث هجوم.
ويجب الإشارة هنا إلى أنه في عام
2001، أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن أن الولايات المتحدة ستدافع عن تايوان
"مهما كان الثمن"، وبالتالي يمكن اعتبار أن تصريحات بايدن الأخيرة تصب
في إطار "استراتيجية الغموض" المتّبعة، وضمن إطار سياسة المناورة.
مسارات متعددة
على الرغم من أن الولايات المتحدة
والصين، الدولتين النوويتين والقوتين الاقتصاديتين الأوليين في العالم، تخوضان حربًا
باردة في عدد من الملفات الخلافية بينهما، إلا أن خلافهما بشأن تايوان يُعتبر
القضية الوحيدة التي يُحتمل أن تثير مواجهة مسلّحة بينهما.
وضمن السياق ذاته فإن أي محاولة
من الصين للسيطرة على تايوان ستكون مهة صعبة، وهذا لا يعني أن الأمر لن يحدث، ولكن
الزعيم الصيني الذي يأمر بالهجوم سيتحمل مسؤولية إشعال حرب بين فصيلين من عرق
الهان، في قتال أيديولوجي بأسلحة تكنولوجية متطورة.
ومهما اعتقدت الحكومة الصينية أنها نجحت في تحضير الصينيين لهذا
النزاع، من خلال الدعاية ضد الانفصاليين التايوانيين، ومهما هيأت الأذهان للحرب
المحتملة، من خلال صور جنود الأعداء صرعى على شواطئ كانتيغ، فإنه من الصعب التنصل
من المسؤولية. كما أنه في حال غزو الصين
تايوان يتعين على الحكومة الصينية إحكام سيطرتها على البلاد والاستمرار في حكم
بلاد أغلب سكانها البالغ عددهم 24 مليون نسمة يعارضون الحزب الشيوعي.
وفضلاً عن تحمل مسؤولية كل هذا
يكون الزعيم الصيني الذي يأمر بالهجوم مسؤولًا أيضًا عن إثارة الاضطراب الإقليمي
في المنطقة، واحتمال جلب قوات عسكرية من الولايات المتحدة دول مجاورة مثل أستراليا
وحتى اليابان. ويأمل شي جينبيغ أن تعود
تايوان إلى حاضنة الصين تحت قيادته، ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار كل هذه التحديات
فإن الرهان سيكون كبيرًا، وعلى الرغم من الخطاب التصعيدي في بعض وسائل الإعلام
الصينية فإن عددًا من العقول الهادئة في الحكومة الصينية لا تفكر في هجوم وشيك وإن
كان التطور العسكري الصيني السريع قد يجعل هذه الحسابات تتغير في غضون سنوات
قليلة.
من جانب آخر وبعد فترة من حرب
تجارية بين الولايات المتحدة والصين، شهدت الآونة الأخيرة صراع نفوذ؛ حيث تسعى
واشنطن من خلال استراتيجيات بناء التحالفات المتعددة مع العديد من الدول البارزة
في النظام الدولي إلى تحجيم الصعود الصيني، فمن تحالف أمني (أوكوس) الذي يستهدف
محاصرة الصين في منطقة البحر الهادئ مرورا بأول اجتماع مباشر لتحالف
"كواد" إلى تهديد أميركا بالتدخل عسكريًا للدفاع عن تايوان إذا ما شنت
الصين هجوما عليها، وسط غضب يتنامى في بكين.
وفي الختام: من غير المتوقع أن تشهد هذه المنطقة تصعيدًا
عسكريًا بين الولايات المتحدة والصين خاصة أن المواجهة المباشرة بينهما أو من خلال
دعم تايوان في مواجهة التصعيد الصيني سيؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار الإقليمي
والدولي.