البرنامج النووي لكوريا الشمالية واحدا من
التحديات التاريخية للسياسة الخارجية الأمريكية في آسيا فعلى مدار عقود اتبعت
واشنطن مسارات ضغط متنوعةِ في محاولة لتفكيك هذا البرنامج أو إقناع كوريا بالتخلي
عنه أو إزالة نظام عائلة "إيل سونج" لكنها جميعا بائت بالفشل.
البرنامج النووي لكوريا الشمالية سيمثل
تحديا خاصاً لإدارة بايدن استناداً إلى عدة أسباب ومنها فشل استراتيجيات سابقيه
تماما: سياسة الصبر الاستراتيجي لأوباما، وسياسة "حافة الهاوية" لترامب
في إجبار كوريا الشمالية عن التخلي أو تفكيك برنامجها النووي. ومن الأسباب الهامة
أيضا هو التوتر المبكر المتصاعد بين واشنطن وبكين على خلفية قضايا عدة، ومن
المعروف أن نجاح أي استراتيجية لواشنطن للضغط على كوريا الشمالية يتوقف على الدعم
والمساندة الصينية لها.
وأخيراً-ويعد ذلك جوهر التحدي الأساسي- كشف
تحدى كوريا الشمالية الصلب للضغوط الهائلة التي تعرضت لها حتى من قبل حليفها
الاستراتيجي والوحيد الصين منذ إجراء تجربتها النووية الثالثة في 2013 أن تخلى
نظام "كيم" عن برنامجه النووي أمر يكاد يكون مستحيلاً لأن وجود البرنامج
النووي ضمانة رئيسية لبقاء نظامه في السلطة في المقام الأول، وأيضا لدى كوريا
الشمالية قناعة راسخة بان التخلي عن برنامجها النووي سيجعلها فريسة سهلة لاحتلال
أمريكي على غرار ما حدث للعراق 2003. ففي المؤتمر الثامن عشر لمؤتمر حزب العمال
الكوري الذى عقد خلال الفترة من 5 حتى 12 يناير، شدد كيم بعبارات واضحة بأن الاعتراف
بكوريا كدولة نووية كان ولا يزال هدفنا الاستراتيجي الساحق، وصف خلال المؤتمر أيضا
أمريكا بالعدو الرئيسي لكوريا. ربما الإشارة الأكثر خطورة هو ما تضمنه العرض
العسكري للمؤتمر من استعراض لأنواع جديدة من الصواريخ الباليستيه طويلة المدى
قادرة على ضرب قلب واشنطن وغواصات نووية عالية التطور.
وإزاء ما سبق، من المؤكد أن خيارات إدارة
بايدن تجاه البرنامج النووي لكوريا الشمالية ستكون صعبة للغاية خاصة في ظل ما
قطعته خلال إدارة كيم من خطوات كبيرة على صعيد تطور برنامجها النووي ومنظومة
أسلحتها الاستراتيجية الشاملة. فإتباع نهج
ضاغط للغاية على كوريا الشمالية لإجبارها على اتخاذ قرار استراتيجي بالتخلي عن
برنامجها النووي وفى وقت قصير نهج من الصعب الرهان عليه ويحتاج بالضرورة إلى دعم
ومساندة صينية قوية وهو خيار من الصعب توافره حاليا، بل أن البرنامج النووي لكوريا
الشمالية سيمثل أحد الأوراق الرابحة للصين للضغط على إدارة بايدن في سياق الصراع
المبكر المحتدم بينهما. يضاف إلى ذلك أيضا، أن الصين-رغم رغبتها الحثيثة في إخلاء
شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووي- إلا أنها بصدد أية ضغوط تجاه كوريا
الشمالية لا تترك وطأة هذه العقوبات تشدد بالقدر الذى يمكن أن يؤدى إلى انهار
النظام في كوريا الشمالية أو اتباع النظام سياسة الأرض المحروقة وتهديد الاستقرار
في شبه الجزيرة الكورية برمتها، إذ يهم الصين أيضا بقاء حليفها الشيوعي والحيلولة
دون التداعيات الأمنية والسياسية والاقتصادية على أمنها القومي جراء انهياره.
في أولى تصريحاته بشان البرنامج النووي أكد
بايدن على ضرورة تفكيك البرنامج النووي. صاغ وزير الخارجية الأمريكي "أنطوني
بلينكن" نهج إدارة بايدن تجاه البرنامج بقوله أن إدارة بايدن عازمة على فرض
المزيد من العقوبات ضد كوريا بالتوازي مع خيارات دبلوماسية متنوعة من أجل إزالة
البرنامج. وأثناء مؤتمر صحفي عقد في 25 مارس الماضي قال بايدن أنه مستعد لخيار
الدبلوماسية شريطة أن تكون النتيجة النهائية لهذا الخيار هو نزع السلاح النووي
لكوريا تماما.
وفى حقيقة الأمر أن تشديد بايدن وإدارته على
خيار الدبلوماسية يوحى أنها قد ارتأت اتباع نهج طويل الأمد متدرج إزاء البرنامج
النووي لكوريا الشمالية لا يستهدف بالضرورة نزع السلاح النووي تماما على المديين
القصير والمتوسط، بل على أقل تقدير إثناء كوريا الشمالية عن المزيد من تطوير
قدراتها النووية والصاروخية مع ترك الباب مفتوحاً لمزيد من الخطوات بشان نزع
السلاح النووي لكوريا الشمالية تماما في المستقبل.
نجاح
هذا النهج-الذى في تقديرنا أفضل الحلول حاليا واكثر واقعية إزاء البرنامج النووي
لكوريا- رهينة عدة أمور ومنها نجاح بايدن في تشكيل ما يسمى تحالف الراغبين في نزع
السلاح النووي لكوريا الشمالية بما في ذلك الصين وروسيا لممارسة المزيد من الضغوط
على كوريا من أجل إجبارها على الانخراط في مفاوضات جادة. ومنها أيضا، توفير
الضمانات الأمنية الأمريكية الكافية لطمأنه حليفيها اليابان وكوريا الجنوبية
والحيلولة دون تبنيهما خيارات تصعيدية عسكرية ضد استفزازات كوريا الشمالية.
وأخيرا، منح كوريا الشمالية ضمانات قوية بضمان عدم التصعيد ضدها وتحسين وضعها
الاقتصادي لاسيما بعد تدهوره الشديد بسبب
جائحة كورونا، عبر منحها قروض سخية ودمجها في الاقتصاد العالمي وهو هدف يطمح إليه
الرئيس "كيم جونج أون".
ختاما يمكن
القول أن تخلى كوريا الشمالية عن برنامجها النووي أمر أشبه بالمستحيل، وربما هذا
ما فطنت إليه جيدا إدارة بايدن. لذلك فإقناع كوريا بالتخلي عن برنامجها النووي
سيحتاج إلى مدى زمنى طويل ربما يمتد لأعوام وضمانات قوية جدا ببقاء النظام حال
تخليه عن برنامجه النووي. على الجانب الآخر، سيظل المتغير الصيني عاملا رئيسيا
وحاسما في مسألة تفكيك البرنامج النووي لكوريا وفى تقديرنا أيضا سيمثل المتغير
الصيني أو استمالته لتحالف الراغبين أكبر تحدى يواجه إدارة بايدن إزاء سياسته تجاه
البرنامج النووي التي رسمت سقفاً ذو طموح محدود وهو إيقاف نمو القدرات النووية
والصاروخية لكوريا فقط على المدى القريب.