مثلما غيرت اتفاقية لوزان عام ١٩٢٣م شكل الخريطة الجيوسياسية
والاقتصادية للدولة العثمانية، يسعى حزب العدالة والتنمية التركي بقيادة
أردوغان إلى التغيير في بنود تلك الاتفاقية مع قرب أول مئوية للدولة التركية
العلمانية القومية التي شكلتها تلك الاتفاقية التي وقعت في ٢٤ يوليو عام
1923م في مدينة لوزان السويسرية بين تركيا من جانب، والإمبراطورية البريطانية، فرنسا،
إيطاليا، اليابان، اليونان، رومانيا والدولة الصربية الكرواتية السلوفينية
من جانب.(١)
وجاء توقيعها آنذاك من قبل حكومة أنقرة (٢) التي كانت منافسة
لحكومة إسطنبول بقيادة الصدر الأعظم المسؤول أمام السلطان العثماني، وقبل لوزان
وقعت الدولة العثمانية في عام 1920م معاهدة " سيفر” التي فسرتها حكومة
أنقرة على أنها معاهدة “مذلة” لا يمكن القبول بها، والتي حظيت بالاعتراف الدولي
الذي أهلها لتمثيل تركيا في مؤتمر توقيع معاهدة لوزان للسلام .
وتعثر المؤتمر الأول لـ “لوزان” في عام 1922م، والذي جاء بعد 20
يومًا على إعلان إلغاء السلطنة العثمانية لفرض شروط بريطانية تقضي بإعلان
العلمانية وحرية الملاحة المائية في المضائق وطرد السلطان العثماني وعائلته،
وإعلان أنقرة تخليها عن الموصل (الغنية بالنفط)،
إلا أن المؤتمر الثاني في “لوزان” عام 1923م شهد مرونة من أنقرة
وقبولها بالتوقيع على الاتفاقية التي تنازلت من خلالها عن سوريا والعراق ومصر
والسودان وامتيازاتها في ليبيا، ما أعطاها شكلها الحالي بحدودها البرية والبحرية
بشكل تقريبي .
وتعتبر المضائق أكثر المواضيع التي اتسمت بالتعقيد في المعاهدة، إذ
تم إقرار عبور السفن غير العسكرية وقت السلم ويمنع وجود سلاح على ضفتي المضائق
التركية ويتم تأسيس لجنة دولية تقوم بحمايتها.
وفي عام ١٩٣٦م عدلت تركيا المواد السابقة الخاصة بالمضائق بواسطة
اتفاقية “مونترو”، واستعادت سيادتها الكاملة على المضائق البحرية،
ونشرت تأويلات عدة طوال السنوات الماضية عن الاتفاقية، لكنها
كانت بمعظمها خاطئة خاصة التي تحدثت عن منع تركيا من الحصول على ضرائب السفن
المارة من مضيق البوسفور حتى عام 2023 "
وبالرغم من تداول أخبار عن الإفراج عما يسمى بالوثائق السرية لمعاهدة
لوزان بحسب ما نشر بجريدة " يني شفق " التركية المحسوبة على
حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ عام ٢٠١٨ م حتى الآن لا يوجد وثيقة رسمية تخص ذلك
إلا تصريحات غير موثقة بخصوص إنتهاء أجل المعاهدة بحلول عام ٢٠٢٣م ولكن لا
يوجد نص في المعاهدة بذلك .
تجدد الصراع بين
الاطراف التاريخية لمعاهدة لوزان
تحدث أردوغان في العلن عن تغيير بنود تلك الاتفاقية في عام ٢٠١٧ في
زيارة هى الاولى من نوعها لليونان منذ أكثر من نصف قرن، وصرح أثناء المؤتمر الصحفي الذي عقده مع الرئيس اليوناني أن
(٣) معاهدة لوزان التي وقعت عام ١٩٢٣م والتي رسمت الحدود بين تركيا واليونان
بعد الحرب العالمية الأولى لم تطبق بشكل عادل.
وقال "إن المسلمين الذين يقيمون على الجانب اليوناني من
الحدود لم يحصلوا على نفس الحقوق التي يحصل عليها المسيحيون في تركيا" .
ورد الرئيس اليوناني
بافلوبولوس قائلا " إن المعاهدة غير قابلة للتفاوض ".
وكان أردوغان قد دعا في حوار تلفزيوني قبل يوم من
الزيارة إلى "إحراز تطور" بشأن رسم الحدود الجوية والبحرية بين
البلدين."
وفي عام 1996م بلغ توتر العلاقات بين اليونان وتركيا ذروته
استعدادا للحرب بينهما بسبب نزاع على جزر غير مأهولة بالسكان مثلما يحدث
الآن، ليعود رجب طيب أردوغان في عام
٢٠٢٠ بتصريحات أشد وطأة عن سابقتها قائلا " إن بلاده لن تُطأطىء الرأس
للعربدة في جرفها القاري بشرق المتوسط"، في غضون التوتر المتصاعد في المنطقة
مع اليونان.
وتعهد أردوغان في تصريحات صحفية قائلا "مثلما مزّقنا معاهدة
سيفر الهادفة إلى تقسيم وطننا قبل قرن سوف نحمي الوطن الأزرق اليوم بالحزم
نفسه"(٤)
تغير السلوك
التركي في الشرق الأوسط
وبدت ملامح التغير
تلوح في الأفق بتغير ملحوظ في السلوك التركي
في عام ٢٠٢٠م، وتجلى في فرض النفوذ التركي بالتدخل والتداخل في الصراع على
غاز شرقي المتوسط وصولا إلى ليبيا، جاء ذلك في ظل تطور القدرات العسكرية التركية
التي باتت تعتمد على نفسها في تصنيع الأسلحة الدفاعية بعد فرض قيود عليها بحظر
استيراد الأسلحة .
قد يرى بعض الخبراء أن هذا السلوك التركي في شرقي المتوسط بداية من
الشمال السوري مرورا باليونان وصولا حتى ليبيا ما هو إلا سلوك شخصي يعبر عن
فكر رئيسها فقط وحزبه الإسلامي الحاكم، وبغض النظر عما إذا كان سلوك شخصي أم لا
فقد تلاقى هذا السلوك مع التوجه القومي للدولة التركية في استعادة العلاقات
التاريخية على أراض كانت تحت سيطرتها وإنعاش خزينتها الاقتصادية بحرية البحث والتنقيب
عن الموارد الاقتصادية الطبيعية في المياة وخاصة الغاز .
تركيا والعرب
ومما نتج عن ذلك السلوك التركي ذو المرجعية التاريخية دخول الأتراك
الشمال السوري والتحرش بالحدود العراقية ومغازلة مصر على لسان وزير خارجيتها " مولود جاويش أوغلو " في حوار
تلفزيوني كشف عن قيامه بتفويض من الرئيس رجب طيب إردوغان باتصالات مع مصر في
السابق، إلا أن «التوازنات في ليبيا أدت إلى توتر العلاقات قليلا». وقال الوزير
«عند النقطة التي وصلنا إليها تطبق الطريقة الأكثر عقلانية، وهي إجراء حوار وتعاون
مع تركيا بدلا من تجاهلها "
وأكمل " إن
العالم العربي والإسلامي والشرق الأوسط في حاجة إلى مصر قوية ومستقرة " (٥)
هنا تستوقفنا نقطة تغير السلوك والخطاب التركي تجاه الأراضي العربية
التي كانت جزء من أراضيها قبل اتفاقية لوزان، يتضح من الخطاب والممارسات على أرض
الواقع. إن تركيا تعلم جيدا مكانة مصر ودورها الإقليمي والتي قد تنظر
إليها نظرة الحليف المستقبلي وليس نظرة التبعية وفرض النفوذ وهذا يتجلى في تصريحات
وزير خارجيتها عن مصر، وقد يتم ذلك مثلما فعلت بتحالفها مع باكستان، أما في سوريا والعراق يبدو سلوك فرض القوة
والسطوة، وفي ليبيا بالرغم من توقيع اتفاقية تعاون لكن يبدو سلوك فرض النفوذ واضحا
نظرا لوجود طرف يحتاج للدعم والمساندة .
تحالفات عسكرية
واقتصادية جديدة
إن التحركات والمساعي التركية لتغيير بنود إتفاقية لوزان على أرض
الواقع وتوسط موقعها الجغرافي والسياسي ما بين روسيا من جهة ودول حلف
الأطلنطي وامريكا من جهة أخرى أتاح لها خلق ذلك الوجود والكيان وفرض واقع جديد
لنفسها سيخلق تحالفات عالمية جديدة، وتغيرات واستقطابات إقليمية ظاهرها إقتصادي باطنها عسكري، لذلك
بعد أن كانت تركيا تغازل مصر وتدعو للتقارب التركي المصري على لسان وزير خارجيتها
فقط - الآن ولأول مرة - يتحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن أهمية التقارب
وعودة العلاقات التركية المصرية، خاصة بعدما نجحت المفاوضات العسكرية بين الجانبين
في تخفيف حدة التصعيد على الأراضي الليبية،
وكذلك دعواته للجانب السعودي
والإماراتي إلى عودة ودعم العلاقات التركية العربية، خاصةً بعد الفتور الأمريكي
السعودي عقب رحيل " دونالد ترامب
" الذي كانت تربطه علاقات قوية بالجانبين السعودي والتركي ولكن بعد قدوم
الديموقراطيين للحكم بقيادة " جو
بايدن " لاح في الأفق بوادر الفتور والتغيرات السياسية الواضحة في العلاقات
الأمريكية السعودية والتركية.
لقد ظهرت التحالفات الجديدة مع أول استدعاء للحقوق التاريخية وظهر
ذلك جلياً بعودة أطراف معاهدة لوزان التاريخيين للمشهد الآن متمثلا في الدعم
الأوربي لليونان والتداخل الأمريكي لخلق مكان لها على إحدى الجزر الغير مأهولة
والقريبة من الحدود التركية بحجة عضويتها بحلف الناتو مقابل تخوفات وترقب تركي، وفي
المقابل يأتي تحالف مصر والأردن والعراق أو ما يعرف بتحالف "الشام الجديد"
أو "المشرق الجديد" وهو تحالف إقتصادي الأقرب في تصورنا لشكل التحالف
الذي محوره النفط العراقي، والموارد البشرية المصرية والأرض الأردنية، والذي بدت
فيه سيادة القرار العراقي العربي حينما وجد رئيس الوزراء العراقي مصطفى
الكاظمي سلبية الموقف الايراني الحليف التركي من التحرشات التركية بالحدود
العراقية، بدأ الانسلاخ التدريجي من العباءة الإيرانية والمذهبية لصالح عودة
العراق كدولة عربية قوية، بالرغم من أن ذلك التحالف ظاهره اقتصادي، إلا أنه بداية
قوية ومبشرة لخلق تحالفات عربية قوية في المستقبل القريب .
المراجع:
١- النص الكامل لمعاهدة لوزان https://wwi.lib.byu.edu/index.php/Treaty_of_Lausanne
2-
https://newturkpost.com/news/28167-%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A
٣- أردوغان في أول زيارة لرئيس تركيا لليونان
https://www.bbc.com/arabic/middleeast-42263797
٤- مزقتها تركيا قبل 100 عام".. ما قصة معاهدة سيفر؟
ولماذا تذكرها أردوغان الآن؟
https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2020/08/15/erdogan-treaty-sevres-turkey
٥- أنقرة تدعو القاهرة إلى «الحوار»... ومصدر مصري يتهمها
بالتناقض
https://aawsat.com/home/article/2329836/%D8%A3%D9%86%D9%82