الصين... طريق الحرير الجديد
ربما يكون الصعود
السريع للصين في العالم أهم حدث في السياسة العالمية منذ بداية هذا القرن. حيث إن
عدم قدرة الطبقات الحاكمة في واشنطن على توقع عودة العملاق الآسيوي إلى الظهور على
الساحة العالمية - حتى القرن الثامن عشر كانت قوة تجارية عظيمة - وإدارة علاقات
الغرب مع روسيا، قد أنهت بسرعة السنوات التي اعتبرت الولايات المتحدة نفسها القوة
العظمى الوحيدة -الهبة الإلهية- التي جعلت الديمقراطية والليبرالية الاقتصادية
عقيدة منتصرة. هل تحل الصين محل الولايات المتحدة كقوة عظمى بحلول منتصف القرن؟ هل
ستحقق تطلعاتها لتصبح قوة عظمى عالمية؟ ما الوسائل التي ستستخدمها لتحقيق هذه
الأهداف الطموحة؟ مهما كان منطق المرشد الأعلى لهذا البلد، شي جين بينغ، بمعية
قيادته، فمن الملائم محاولة فهم مبادرة طريق الحرير الجديد (BRI).
يعتبر الرئيس الأمريكي
المنتهية ولايته دونالد ترامب الصين "طاعوناً"،اما الرئيس المنتخب، جو
بايدن، يصفها كدولة "سفاح". الحرب الخطابية والتجارية بين البلدين
والتخوف الأوروبي المتزايد من كيفية التعامل مع المنافسة الصينية هو موضوع للعديد
من المقالات . كما هو الحال غالبًا في الغرب، لا يُعرف الكثير عن نظرة بكين
لمهمتها باعتبارها القوة العظمى الجديدة. كما هو الشأن مع روسيا أثناء سقوطها في
التسعينيات، ناهيك عن رأي العالم العربي حول تدخل كل من أوروبا والولايات المتحدة
في أراضيها طوال قرنين.
وبالنظر إلى أن القواعد
الأوروبية، وبشكل أعم، القواعد الغربية لم تعد بالضرورة هي التي تحكم، لا في
النماذج الاقتصادية، ولا في التجارة ولا في تفسير التاريخ الحديث ،فإن محاولة فهم
وجهة نظر الآخر أمر أساسي .
اللافت في حالة الصين
هو أن أصداء الماضي تدوي باستمرار والتي في رأي قادتها وبلا شك معظم سكانها، تشير
أيضًا إلى المستقبل. إن عقلية "نحن مقابل هم '' التي تبناها "شي"
في علاقات بلاده مع العالم الحديث تذكرنا بمؤسس سلالة مينغ (1344-1644 م)، الإمبراطور
هونغوو تشو يوان تشانج، الذي عزز قيم القومية، حيث ترأس تجديدًا حقيقيًا للسلطة
الصينية، بعد فقدان الصين لقوتها بعد الثورة الصناعية بسبب حروب الأفيون في
أربعينيات القرن التاسع عشر والتدخل الأوروبي اللاحق في سياسة البلاد.
يحتفظ الصينيون بشعور قوي بالإذلال،
لذا، مثلما قامت أسرة مينج ببناء سور الصين العظيم لإبعاد البرابرة، أقام
"شي" جدار حماية عظيم للرقابة على الإنترنت لمنع النفوذ الأجنبي من
التسلل إلى البلاد.
مع خروج الصين إلى
العالم، في عام 2013، تم إطلاق مبادرة طريق الحرير الجديد، بهدف بناء الطرق والسكك
الحديدية والموانئ، ومؤخراً، الكابلات الكهربائية في أكثر من مئة دولة. الاستثمار
يتجاوز تريليون دولار والهدف هو غزو الشركات الصينية للأسواق الخارجية، قصد تعزيز
نفوذ الدولة الآسيوية. وتبلغ تكلفة هذه المبادرة سبعة أضعاف تكلفة خطة مارشال التي
ساعدت بها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية في إعادة إعمار أوروبا.
يتمثل الاختلاف الواضح
مع خطة مارشال في أن المستفيدين من تلك المساعدة كانوا دولًا صناعية في القرن
التاسع عشر ولكن صناعاتها دمرت بسبب الحرب. كما كانت جميع الدول ديمقراطية تقريبًا،
وبحلول أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، استعادة هذه الدول سيادتها التامة، بما
في ذلك ألمانيا. أما عقلية القادة الصينيين اليوم فلها عيوب، والتي يوضحها طريق
الإمبراطور الجديد. فالعديد من المستفيدين من الاستثمارات الصينية هم بالكاد
(باكستان سريلانكا، إندونيسيا، ماليزيا، إلخ) دول ديمقراطية . فيما يتباهى
الصينيون بتقنياتهم المتطورة وشركاتهم الإنشائية الكبيرة، ولكن دون الخضوع لرقابة
اجتماعية أو بيئية أو اقتصادية من قبل مواطني البلدان المستفيدة. خاصة امام كل
الانتقادات التي تلقتها مشاريع المساعدات التي يمولها الغرب والبنك الدولي في
الماضي، فإن المشاكل في هذه الحالة أكبر، لكنها محاطة بجدار من الصمت.
إن اللافت للنظر أن
المشاريع الصينية الحالية تشبه تلك التي روج لها البريطانيون والفرنسيون خلال
عمليات توسعها الاستعماري. حيث ان الصعوبات التي تنتظر طريق الحرير الجديد لا
تختلف كثيرًا عن تلك التي واجهتها القوى الاستعمارية سابقا.
فعلى الرغم من تحقيق
العديد من المشاريع، و على رأسها، خط سكة حديدية عالية السرعة التي يبلغ طولها
6،671 كيلومترًا بين جنوب غرب الصين وسنغافورة -الذي لايزال قيد الانشاء- والسد
الكهرومائي البالغ قيمته 5.8 تريليون دولار في نيجيريا . إلا ان هناك إخفاقات
كبيرة، حيث إن الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان (CPEC)، والذي يمتد من سلسلة
جبال كاراكوروم إلى بحر العرب، ابرز جملة من الصعوبات في تحقيق هذا المشروع. خاصة
مع فشل العملاق الآسيوي حتى الآن في توفير أي استقرار لبلد -باكستان- تمزقه
الاضطرابات السياسية والصعوبات المالية.
وإذا ما نجحت في ارساء هذا
الاستقرار، فإن الصين ستطلق العنان لقوتها للذهاب إلى أبعد من ذلك حتى أفغانستان، وبحر
العرب، للاقتراب من الحدود الهندية".
إن الطريق الذي
يبنيه الصينيون على أكثر الجبال وعورة في العالم لربط البلدين هو من أقوى
الاستراتيجيات التجارية في العالم.
الأشخاص في "مراكز
إعادة التعليم".
يبدو أن مبادرة طريق
الحرير، لا تكتفي بتعزيز التجارة فقط، بل تسعى إلى تعزيز الرقابة الصينية والأمن
السيبراني بشكل متزايد ؛ حيث عرضت بالفعل الصين على باقي على البلدان الأخرى نقل
تجربتها في ما يخص "جدار الحماية العظيم". إلا أن النتيجة لم تصل
لطموحاتهم حيث تم تبادل المعلومات بشكل محدود، على الرغم من أنه قد يكون من الأسهل
على الصينيين مد خطوط الألياف البصرية وإدارة شبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية
القادرة على توفير منافع تجارية ومعلوماتية .
ويظل السؤال هنا قائما
؛ ما مدى نجاح مبادرة طريق الحرير الجديد على المدى الطويل، مع ما تنطوي عليه من
جر إمبريالي متزايد؟
يجب أن نتذكر أن
الإمبريالية يمكن تعريفها على أنها امتداد و حفاظ على قوة ونفوذ بلد ما من خلال
التجارة والدبلوماسية والهيمنة العسكرية أو الثقافية. بهذا المعنى، فإن طموحات
مبادرة طريق الحرير هي طموحات إمبريالية. وهذا يقودنا إلى ثلاث أفكار أخيرة؛
أولاً، كلما استمر صعود
الصين لفترة أطول، زادت احتمالية أن تتخذ أنشطتها الخارجية لهجة عسكرية أشد. مثال
روما القديمة و الإمبراطوريتين المغول والبريطانية، حيث كان توسيع التجارة هو
الهدف دائماً.
ثانيًا، غالبًا ما تكون
الإمبراطوريات أسوأ عدو لنفسها - ويثبت ذلك تاريخ إسبانيا والمملكة المتحدة وروسيا
/ الاتحاد السوفيتي.
أخيرًا، كشف وباء COVID-19 عن إخفاقات هذه
المبادرة، بينما خلق احتياجات جديدة يمكن أن تستغلها بكين.