البنتاجون .. محطات "ترامب" في المرحلة الانتقالية لعرقلة مهمة "بايدن"
تُعرف الفترة الانتقالية
بين رحيل الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته وتولي سلفه المنتخب زمام السلطة باسم
"البطة العرجاء" أو Lame
Duck، وفيها
يتمتع الرئيس المنتهية ولايته ببعض الصلاحيات التي قد تتسبب في تعكير صفو المرحلة
الانتقالية مثل تغيير بعض المناصب أو الدخول في صراعات خارجية أو إصدار قرارات
بالعفو، وغيرها من الصلاحيات المخولة له خلال تلك المرحلة. ولكن تأتي تلك الفترة
هذه المرة في مرحلة استثنائية من تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، إذ تشهد تشكيكًا
بنتائج الانتخابات وتلويح بالدخول في أزمة شرعية حال رفض التداول السلمي للسلطة،
وفي ظل تجاذبات داخلية مع تنامي العنف والتوتر والانقسام بين صفوف المجتمع
الأمريكي.
ومن ثم، تتزايد المخاوف
مما قد تشهده تلك المرحلة من تحركات من قبل الرئيس "ترامب" قد تسفر عن
عرقلة التداول السلمي للسلطة وتعمق الأزمات الداخلية التي تشهدها الولايات المتحدة
الأمريكية، بما قد يتسبب في تصعيب مهمة "بايدن" حينما يتولى زمام
الأمور. وقد بدأت ارهاصات تحركات "ترامب" خلال تلك المرحلة مستهدفة
وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، وسنتطرق فيما يلي إلى تلك التحركات وأسبابها
وتداعياتها المحتملة.
تغيير وزير الدفاع
جاءت البداية في أعقاب
الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية بفوز "بايدن"، إذ يرفض
"ترامب" الاعتراف صراحة بتقبله لتلك النتيجة، بل اعتزم إجراء تغييرات في
مؤسسة البنتاجون، من خلال إقالة مفاجأة لوزير الدفاع "مارك إسبر" وعين
بدلاً منه بالإنابة أحد الموالين له وهو "كريستوفر ميلر" مدير المركز
الوطني لمكافحة الإرهاب. وهو ليس بأول من يغادر ذلك المنصب خلال عهد
"ترامب".
وذلك التغيير من المتوقع
ألا يكون آخر ما يجريه "ترامب" في صفوف الحكومة الأمريكية خلال المرحلة
الانتقالية، وهو ما يزيد من حالة عدم اليقين، في تلك المرحلة الانتقالية
الاستثنائية. فمن المتصور أن ينتقم "ترامب" ممن يرى أنهم كانوا سببًا في
خسارته للانتخابات، مثل مدير مكتب التحقيقات الفدرالي "كريستوفر أ. وراي".
إلا أن ذلك التغيير
المفاجئ للإطاحة بإسبر كان متوقعًا، خاصة بعد أن تشكك "ترامب" في مدى
ولائه له ومدى قبوله للانصياع لتعليماته، إذ اختلف "إسبر" مع
"ترامب" في نهج التعامل مع الاحتجاجات التي شهدتها واشنطن في يونيو
الماضي في أعقاب مقتل "جورج فلويد"، فحينها هدد "ترامب"
باللجوء للقوة لاستعادة الاستقرار ضد الاحتجاجات عبر قانون التمرد، وهو ما عارضه
"إسبر" وكذلك الجنرال "مارك إيه ميلي" رئيس هيئة الأركان
المشتركة، خوفًا من أن يبدو الأمر وكأنه تطبيق للأحكام العرفية قد يجر البلاد إلى
مواجهات عنيفة مع القوات.
وبرغم من توافق
"إسبر" مع توجهات "ترامب" بشأن أهداف السياسة الخارجية مثل
تخفيض القوات، إلا أن "إسبر" كان يتصدى لمحاولات الرئيس للتأثير على
استقلالية الجيش في الشأن السياسي، ومن ثم كان يمتنع عن كل ما يهدد مكانة
البنتاجون كمؤسسة غير حزبية. فضلاً عن تمايز أسلوب "إسبر" في التعامل مع
جائحة فيروس كورونا وأفضليته بالمقارنة بـ "ترامب"، حيث سعى إلى اتخاذ
خطوات لمعالجة التمييز العنصري والطبقي.
دوافع التغييرات
تأتي تلك التغييرات في الصفوف
الأمامية في ذلك التوقيت الحرج الذي يعج فيه المشهد السياسي بالفوضوية في ظل رفض
"ترامب" الاعتراف بالهزيمة أمام منافسه "بايدن" في
الانتخابات، بما ينذر بأن البلاد قد تشهد تداولاً متعثرًا للسلطة يشوبه بعض الفوضى
والعنف. في الوقت الذي تتزايد فيه الاضطرابات والانقسامات الداخلية ويتصاعد فيه
العنف سواء بسبب الانتخابات أو بسبب تداعيات جائحة فيروس كورونا المستجد، ناهيك عن
تداعيات مقتل "جورج فلويد" والتي أعادت من جديد التوترات العرقية
والعنصرية للساحة الداخلية.
فمثل تلك التغييرات
المفاجئة داخل أروقة البنتاجون تمثل تهديدًا للأمن القومي الأمريكي داخليًا
وخارجيًا، خاصة في ظل ذلك التوقيت الانتقالي الحرج المحفوف بالتوترات السياسية
والمخاطر الأمنية والقومية التي تهدد جسد الأمة الأمريكية
وفي مثل هذا السياق، يحرص
"ترامب" على تأمين فرصه في مواجهة تلك التحديات، وبالتالي يرغب في ضمان
موالاة شاغلي المناصب القيادية والاستشارية له، فيما يوحي باستعداده إلى عرقلة
تداول السلطة سلميًا، والاستعداد لنوع من المواجهات.
كما تتزايد خطورة الموقف
بتغييره لشاغل منصب وزير الدفاع الذي عارضه من قبل في اللجوء للمواجهات بالقوة
للتصدي للاحتجاجات، وهو ما يفسره بعض الديمقراطيين –مثل النائبة عن ولاية ميشيغان
"إليسا سلوتكين " وهي مسؤولة سابقة بالبنتاجون- بأن "ترامب"
أراد تنحية وزير دفاعه لأنه يريد اتخاذ بعض القرارات التي سيتم رفضها من قبل
"إسبر"، وهو ما يثير المزيد من المخاوف بشأن ما ستشهده عملية تداول
السلطة في يناير المقبل.
إلا أن تغيير منصب وزير
الدفاع ليس هو المحاولة الوحيدة من قِبل "ترامب" لوضع المزيد من
العراقيل أمام الرئيس المنتخب "بايدن" من أجل تصعيب مهمته فيما يتعلق
بالشأن العسكري، وهو ما نشير إليه فيما يلي.
سحب القوات من العراق وأفغانستان
أعلنت إدارة
"ترامب" عن اعتزامها سحب المزيد من القوات الأجنبية من الخارج، من أجل
الوفاء بوعود الرئيس الأمريكي بشأن عودة هؤلاء الجنود إلى أرض الوطن. ومن المقرر
أن يتم ذلك قبيل 15 يناير المقبل، إذ أعُلن عن سحب نحو 2000 جندي من أفغانستان لتصل
القوات إلى أدنى معدل لها منذ 20 عامًا بإجمالي 2500 جندي في مهمة غير قتالية
يقودها الناتو هناك. كما من المقرر أن يتم سحب أكثر من 500 جندي من العراق مع
الإبقاء على 2500 جندي لمواجهة تنظيم داعش.
وقد أثار ذلك القرار ردود
فعل كثيرة ما بين مؤيد ومعارض، حيث يصف البعض ذلك القرار بالمتسرع وغير المدروس من
الناحية الاستراتيجية والعسكرية، بل من الناحية السياسية فقط. كما يتخوف البعض من
تداعيات ذلك الانسحاب الأمريكي وما قد يخلفه من فراغ أمني خاصة في أفغانستان، إذ
أن ذلك من شأنه التأثير على محادثات السلام الأفغانية مع حركة طالبان، خاصة وأن
مهمة حلف الناتو هناك كانت تعول بشدة على القوات الأمريكية.
هذا بالإضافة لتهديد
المكتسبات الأمريكية التي تحققت في أفغانستان على مدار السنوات الـ 20 الماضية
بذلك الانسحاب المتسرع وغير المشروط، فقد يؤدي ذلك إلى عودة البؤر الإرهابية من
جديد مع تزايد خطر طالبان.
وفي السياق ذاته، يتخوف
البعض من أن الانسحاب الأمريكي من العراق يثير المخاوف بشأن خطر داعش ومعاودتها
الانتشار إقليميًا، بالإضافة للتخوف من محدودية قوام القوات الأمريكية هناك مما
يعرضها للخطر بسبب عدم كفاية حجم تلك القوات لتأمين ذاتها.
فمن شأن تلك القرارات أن
تضع إدارة "بايدن" في مأزق، فهي تقف بين مطرقة تنامي خطر الإرهاب
واستعادة الدور القيادي للولايات المتحدة وسندان الوفاء بوعود سحب القوات
الأمريكية وإنهاء الحروب الممتدة، فقد أصبحت مهمة "بايدن" أصعب في ظل
تراجع عدد القوات الأمريكية بالخارج، في الوقت الذي كان يعول فيه
"بايدن" على تعزيز قوة حلف الناتو من جديد لاستعادة الروابط الأطلسية مع
حلفاء الولايات المتحدة والتي تعرضت لانتكاسة في عهد "ترامب".
إمكانية التورط في مواجهة عسكرية مع إيران
ومن ناحية أخرى، يعتزم "ترامب"
توجيه ضربة عسكرية إلى أحد المواقع النووية الإيرانية قبيل انتهاء ولايته، وهو
الأمر الذي من شأنه التسبب في إرباك المشهد العالمي وتقويض استقرار النظام العالمي
قبل رحيل "ترامب"، فقد توجه بالسؤال إلى كبار مستشاريه بشأن الخيارات
المتاحة لاتخاذ إجراءات ضد الموقع النووي الإيراني الرئيسي خلال الأسابيع المقبلة،
وقد جاء ذلك الاجتماع الأمريكي بالبيت الأبيض بعد يوم من إعلان المفتشين الدوليين
عن زيادة كبيرة في مخزون إيران من المواد النووية بما يفوق الحدود المقررة
بالاتفاق النووي الذي انسحب منه "ترامب" في 2018.
إلا أن العديد من
المستشارين قد حرصوا على إثناء "ترامب" عن ذلك، بمن فيهم نائبه "مايك
بنس" ووزير الخارجية "مايك بومبيو" وكذلك "ميللر" القائم
بأعمال وزير الدفاع، كما حذر رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال "مارك إيه
ميلي" من أن توجيه ضربة ضد المنشآت الإيرانية يمكن أن يؤدي إلى التصعيد
وتحويل الأمر إلى صراع دولي في الأسابيع الأخيرة من رئاسة "ترامب" الذي
لا يزال يبحث عن طرق لإثارة المزيد من التهديدات العالمية في أسابيعه الأخيرة في
منصبه، بعدما تعرقل ذلك الخيار الإيراني بسبب الرفض الأمريكي الداخلي.
هذا وقد أعرب العديد من
المسؤولين عن الأمن القومي وكذلك المسؤولين بالبنتاجون عن مخاوفهم من إقدام
"ترامب" على القيام بمثل تلك العمليات الخارجية سواء سرًا أو علنًا، مما
يعرض الأمن القومي الأمريكي للمزيد من التهديد مصحوبًا بتهديد الاستقرار العالمي
والإقليمي خاصة فيما يتعلق بأمن إسرائيل.
ومثل تلك العمليات من
شأنها عرقلة مهمة "بايدن" خلال فترة توليه المنصب في حالة قدومه بعد
تورط الولايات المتحدة في صراع دولي، إذ يعول "بايدن" على تبني سياسة
خارجية مغايرة لنهج سلفه، وذلك باعتزامه العودة للاتفاق النووي الإيراني من جديد
شريطة التزام إيران بتعهداتها من أجل الحد من مخاطر تنامي أنشطتها النووية
والحيلولة دون وقوع مواجهة عسكرية معها. وبالتالي، قد يتم تقويض كل تلك الجهود في
حالة الصدام العسكري مع إيران قبل تولي "بايدن" للحكم.
ملاحظات ختامية:
من غير المتصور أن يتسبب
تغيير شخص منصب وزير الدفاع في التأثير على وحدة مؤسسة العسكرية الأمريكية وتحركاتها
كمؤسسة حافظت على استقلالها السياسي كمؤسسة محترفة لا تنخرط في المواجهات الحزبية
والأيديولوجية. فضلاً عن أن القرارات الحاسمة تخضع لرقابة متبادلة من قبل الكونجرس
الأمريكي والذي احتفظ الديمقراطيون بالسيطرة عليه خلال تلك الجولة. إلا أن المخاوف
ستظل قائمة بشأن اتخاذ قرارات متهورة قد تفضي إلى التورط في مواجهات عسكرية خارجية
لأن القرار الأخير يكون في يد الرئيس الأمريكي.
وإن كان الرئيس الأمريكي
يعتقد -عبر نهجه الشعبوي- أنه يستطيع الاعتماد على المؤسسة العسكرية للتعدي على
الشرعية الانتخابية من خلال اقصاء غير المواليين له والإتيان بالموالين له، فإن
ذلك الاعتقاد لا مجال لتحقيقه إذ أن الولايات المتحدة هي دولة مؤسسات والولاء يكون
للمؤسسة العسكرية لا للأشخاص. كما أن نمط العلاقات المدنية العسكرية القائم على
السيطرة الديمقراطية والاحترافية سيحول دون حدوث تلك الفوضى شأن ما تشهده النظم
السلطوية بالدول النامية.
فضلاً عن دور الحزب
الجمهوري الذي سوف يتصدي لمواجهة "ترامب" والحيلولة دون الإساءة للحزب
ولصورة الولايات المتحدة الأمريكية بالدخول في سيناريو الفوضى بدلاً من التداول
السلمي للسلطة.
ومن ثم، فمن غير المتصور
ألا يحدث تداول للسلطة، إلا أن التداول سيشهد بعض الصعوبات وقد يشوبه بعض الفوضى
أو العنف في ظل حالة الاستقطاب والتوتر الداخلي، إلا ان التداول سيحدث لكنه سيبدأ
معه عهدَا جديدًا لديه إرث من الصعوبات والعراقيل التي يختلقها "ترامب"
ليخلفها وراءه فيما يشبه الانتقام والرغبة في توريط غريمه في العديد من الصعوبات.
المراجع:
(1) Esper fired as defense secretary, Defense News
Website, 9 November 2020, Available at:
https://www.defensenews.com/pentagon/2020/11/09/esper-fired-as-secretary-of-defense/
(2) Trump fires Secretary of Defense Mark Esper, CNN, 9
November 2020, Available at:
https://edition.cnn.com/2020/11/09/politics/trump-fires-esper/index.html
(3) Trump fires Defense Secretary Mark Esper, Washington
Post, 10 November 2020, Available at:
(4) Pentagon signals troop drawdown in Afghanistan and
Iraq, Financial Times, 17 November 2020, Available at:
https://www.ft.com/content/68307c66-43d0-487a-8f2e-bdf06e42319c
(5) Afghanistan Withdrawal Should Be Based on Conditions,
Not Timelines, United States Institute of Peace, 19 November 2020, Available at:
(6) Trump Sought Options for Attacking Iran to Stop Its
Growing Nuclear Program, New York Times, 16 November 2020, Available at:
(7) Will Trump Try to Bomb Iran Before He Leaves the White
House?, Foreign Policy, 20 November 2020, Available at:
https://foreignpolicy.com/2020/11/20/will-trump-try-to-bomb-iran-before-he-leaves-the-white-house/
(8) Biden faces a race against the clock for U.S. to
rejoin Iran nuclear deal, NBC News, 21 November 2020, Available at: