أثار انتخاب بايدن موجة جدل جديدة في أوساط السياسة العالمية حول
السياسات الجديدة المتوقعة؛ خاصة أن بايدن يتبنى وجهات نظر تختلف عن نظيره ترامب
الذي رفع شعار" أمريكا أولا"، ما دفعه لتقليل اندماج الولايات المتحدة
في النزاعات العالمية، بما فيها الشرق الأوسط. تبنى ترامب هذه السياسة
اعتقادا منه بأن الولايات المتحدة لا تحقق المنفعة الإقتصادية المرجوة مقارنة
بإنفاقها العسكري وخسائرها البشرية في أماكن بعيدة جغرافيا عنها.
انتخاب بايدين لا يحمل تحديات جديدة فقط للشرق الأوسط، ولكنّ هذا
الأمر يمثل أهمية كبرى لدول أوروبا التي تطمح في إعادة هيكلة شراكتها مع الولايات
المتحدة مرة أخرى. الكثير من القادة الأوروبيين يشعرون بالراحة بعد أن أظهرت
النتائج الغير رسمية للإنتخابات الأمريكية فوز بايدن بنحو 279 مقعد في المجمع الإنتخابي،
مع العلم أن الفائز يحتاج فقط إلى 270 من أجل حسم الإنتخابات. ورغم ذلك، لم تعلن
النتائج رسميا حيث تقدم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعدة طعون تشكك في نتائج بعض
الولايات التي لعب فيها التصويت بالبريد دورا حاسما في ترجيح كفة الولاية لصالح
منافسه الديمقراطي جو بايدن.
تحتل أوروبا أهمية قصوى بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية منذ
نهاية الحرب العالمية الثانية؛ حيث دعمت الولايات المتحدة إعادة بناء الاقتصادات
الوطنية في منطقة غرب أوروبا من خلال مشروع مارشال الذي قدم دعما ماليا يقدر
بمليارات الدولارات. كما لعبت أوروبا دورا محوريا في مساعدة الولايات المتحدة على
مواجهة النفوذ السوفيتي في شرق أوروبا. ولا يمكننا أن نغفل أن حلف الناتو يتكون
بالأساس من الولايات المتحدة مع العديد من الدول الأوروبية من أجل مواجهة الخطر
الروسي في أوروبا.
بايدن والناتو
حينما يتعلق الأمر بحلف الناتو، يجب أن نشير أن أحد أهم النقاط
الخلافية التي أثارها الرئيس الأمريكي ترامب هي الإنفاق العسكري لكل دولة داخل
الحلف؛ حيث تتحمل الولايات المتحدة بمفردها ما يقارب 70% من إجمالي النفقات
العسكرية داخل الحزب. ولذلك، طالب الرئيس الأمريكي نظرائه الأوروبيين بزيادة
انفاقهم العسكري لأكثر من 2% من إجمالي الناتج المحلي. هنا يجب أن نشير أن تخفيض
النفقات العسكرية لدول الحلف الأوروبيين جاءت وفق سياسية أوروبية هدفت بالأساس إلى
تقوية العمل العسكري المشترك من أجل مواجهة التحديات الخارجية بدلا من أن تقوم كل
دولة بالاعتماد على ذاتها. كما هدف الأوروبيين من ذلك إلى توجيه انفاقهم العام
بشكل أكبر إلى قطاع الطاقة والتعليم والصحة، خاصة أن التهديدات الأمنية القادمة من
روسيا قلت بشكل كبير بعد انهيار الإتحاد السوفيتي الذي صاحبه إنهاء حالة
الاستقطاب.
من المتوقع أن يعمل بايدن على ترميم العلاقة بين أوروبا والولايات
المتحدة خلال الفترة المقبلة من خلال التأكيد على التزام الولايات المتحدة
بالتزاماتها تجاه حلفائها في الناتو. كما سيعمل بايدن على إلغاء القرار الذي أصدره
الرئيس الأمريكي ترامب والذي نص على سحب 9500 جندي من القوات الأمريكية المقيمة في
ألمانيا. من الأهمية بمكان أن نشير هنا أن بايدن يدرك تماما أن الأوروبيين لديهم
المقدرة المادية والعسكرية على تأمين احتياجاتهم العسكرية والحفاظ على مصالحهم ضد
الأطماع الروسية. ولذلك، يعتقد الكثير من الساسة الأمريكيين أن محاولة الرئيس
الأمريكي دونالد ترامب لتقليص التزامات الولايات المتحدة ضد أوروبا جاءت بنتائج
سلبية على الطرفين؛ حيث أن الأوروبين سوف يكونون في حاجة للمزيد من الوقت من أجل
اعادة ترتيب حساباتهم العسكرية وإنشاء جيش أوروبي خاص بهم. بالمقابل من ذلك، سوف
تجد الولايات المتحدة بعد عدة سنوات أنها قد خسرت منطقة جيوستراتيجية في صراعها مع
روسيا.
هنا يجب أن نشير أن ادارة بايدن سوف تعمل على إقناع الأوروبيين
بزيادة انفاقهم العسكري ليتجاوز 2% من إجمالي الناتج المحلي، ولكن دون أن تقوم
الولايات المتحدة بالإخلال بالتزاماتها الأمني تجاه حلفائها الأوروبيين. ورغم أن
ادارة ترامب قد تعهدت بالدفاع عن دول أوروبا في حالة تعرضها لأي اعتداء حتي لو لم
تقوم بدفع حصتها العادلة للناتو، إلا أن ذلك خلق نوع من حالة عدم الثقة بين ترامب
والأوروبيين.
في دراسة نشرها مؤسسة Pew Research Center في سبتمبر 2020، وصلت ثقة الأوروبيين لأدنى نقطة لها منذ أن بدأ
المركز أعماله قبل عقدين من الزمان. على سبيل المثال، ترى ألمانيا علاقتها مع
الصين بنفس أهمية علاقتها مع الولايات المتحدة، ما يؤكد أن الولايات المتحدة قد
تراجعت للخلف في أوروبا.
بايدن والصراع الأوروبي مع تركيا
سوف يشكل الصراع الأوروبي مع تركيا نقطة محورية بالنسبة للإدارة
الأمريكية الجديدة، خاصة أن الخلاف التركي الأوروبي قد اشتد في الفترة الأخيرة
بسبب قضايا اللاجئين وغاز المتوسط. كما اتهم بايدن الرئيس التركي بشكل صريح بأنه
"مستبد"، قبل أن يتعهد بالوقوف إلى جانب المعارضة التركية. ذلك الأمر
يعني أن أوروبا لن تكون وحيدة في نزاعها مع تركيا في الفترة القادمة.
العودة إلى الاتفاقيات الدولية
من المتوقع أن تعمل ادارة بايدن إلى اعادة الولايات المتحدة مرة أخرى
إلى الاتفاقيات الدولية التي انسحب منها ترامب؛ مثل اتفاقية باريس للتغير المناخي
واعادة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي مع إيران في حالة ما التزمت إيران
بمسؤولياتها وفق بنود الإتفاق. وتشكل عودة الولايات المتحدة لمنظمة الصحة العالمية
نقطة محورية أخرى في سياسة بادين المقبلة؛ حيث يعتقد الديمقراطيين أن انسحاب ترامب
من منظمة الصحة العالمية كانت وسيلة للتغطية على فشل ادارته في ادارة أزمة كورونا
داخل البلاد.
تأثير بايدن على الاقتصاد الأوروبي
يحمل انتخاب بايدن تأثيرا ايجابيا للأسواق الأوروبية، خاصة أن ترامب
كان قد عمل في الفترة الأخيرة على زيادة الضرائب على البضائع الأوروبية المصدرة
للولايات المتحدة، الأمر الذي دفع أوروبا للرد بالمثل، ما قد يؤشر لاحتمالية
اندلاع حرب تجارية بين أوروبا أمريكا على غرار تلك التي شنها ترامب بين الولايات
المتحدة والصين.
في 2019 فقط، حقق الميزان التجاري الأوروبي فائضا يقدر بأكثر من 180
مليار دولار في تعاملاته المالية مع الولايات المتحدة فقط؛ حيث بلغت الصادرات
الأوروبية لأمريكا 384 مليار يورو، في حين وصلت الصادرات الأمريكية لأوروبا 232
مليار يورو. هذا الأمر كان يزعج ادارة ترامب، ولذلك فقد حاول قلب المعادلة من خلال
سياسة شديدة من الضرائب من أجل تحقيق الإستفادة القصوى للولايات المتحدة من كل
البضائع المصدرة إليها. ورغم ذلك، قد يؤدي بايدن إلى الإضرار بسياسة التصدير
الأوروبية للولايات المتحدة بشكل غير مباشر؛ حيث من المتوقع أن يعمل بايدن على
اعادة هيكلة النظام الضريبي على المستوى الداخلي من خلال فرض المزيد من الضرائب. في
حالة تحقق ذلك، فإن الرغبة الشرائية للمواطنين سوف تتراجع بكل تأكيد، ما قد يؤثر
سلبا على البضائع الأوروبية.
المصادر
Holly Ellyatt, How the US
election could affect Europe’s markets.
CNBC. https://www.cnbc.com/2020/10/14/how-the-us-election-could-affect-europes-markets-economy-and-trade.html
Amelia Hadfied &Christian Turner, What a Biden Presidency means for Europe. The Conversation. https://theconversation.com/what-a-biden-presidency-means-for-europe-149696