استراتيجية المناورات العسكرية.. أداة تركية لتثبت واقع جديد في شرق المتوسط
تشهد العلاقات بين
تركيا واليونان توترا كبيرا في الفترة الماضية بسبب نزاعهما في شرق المتوسط حول
ترسيم الحدود المائية لكل طرف. وقد اشتد النزاع في الفترة الأخيرة بعد أن اكتشفت
هيئة المسح الجيولوجي الأمريكي بحرًا من الغاز الطبيعي في هذه المنطقة.
ويحمل الصراع بين
الطرفين في طياته بعدًا تاريخيا؛ حيث تنازلت تركيا عن عدد كبير من الجزر القريبة
من حدودها لليونان وفق اتفاقية لوزان 1923 التي أعقبت الحرب العالمية الأولى.
وبينما تطالب اليونان بوضع الجرف القاري لجزرها القريبة من تركيا في الإعتبار،
تقول أنقرة أنه لا يمكن اعتماد الجرف القاري لأي جزيرة. وبدلا من ذلك، تطالب أنقرة
بترسيم حدود مائية وفق مفهوم" المياه الإقليمية" لهذه الجزر. وفقا لهذا
المفهوم، سوف يكون لأنقرة اليد العليا حقول النفط والغاز في بحر ايجيه، وهو ما
ترفضه اليونان.
دفعت العداوة
التاريخية الطرفين للبحث عن تحالفات خارجية. فبينما وقعت تركيا اتفاقية ترسيم حدود
مائية مع حكومة الوفاق الوطني في نوفمبر 2019، لجأت اليونان لترسيم حدودها المائية
مع مصر في أغسطس 2020. وقد هدفت اليونان من ذلك إلى محاولة فرض واقع جديد من شأنه
أن يضمن لها حقوقها في وجه الطموح التركي الهادف إلى فرض سيطرته بالقوة.
في أغسطس 2020، أعلنت
أنقرة عن اكتشاف للغاز الطبيعي في البحر الأسود؛ تقدر احتياطاته من الغاز بأكثر من
300 مليار متر مكعب. وقد حفّز هذا الأمر أنقرة على بذل المزيد من الجهد من أجل فرض
واقع جديد في شرق المتوسط الغني بالغاز الطبيعي.
من الجدير بالذكر أن
قطاع الطاقة يمثل نقطة استهلاكية كبيرة في للعملات الأجنبية لدى تركيا؛ حيث أنفقت
تركيا 41 مليار دولار على مشترياتها للنفط من السوق العالمي في 2018. ويبرهن هذا
الأمر حاجة أنقرة للبحث عن موارد ذاتية تمكنها من توفير الإنفاق على الطاقة من أجل
سد العجز في الموازنة العامة الذى بدا واضحا للغاية بعد أزمة كورونا؛ حيث تضرر
قطاع السياحة الذي يعد مصدرا أساسيا للعملة الأجنبية لدى أنقرة.
أولاً- استراتيجية المناورات العسكرية
يمكننا تعريف
استراتيجية المناورات العسكرية على أنها التدريبات العسكرية التي تقوم بها الدولة
من أجل زيادة جاهزيتها القتالية بهدف خوض أي اشتباك للدفاع عن مصالحها العامة
الخارجية. وغالبا، ما تلجأ الدول لهذه الإستراتيجية في حالة اشتداد الخلاف مع دول
خارجية تنازعها المصلحة على إقليم أو مورد طبيعي. كما قد تلجأ الدول لإستراتيجية
المناورات العسكرية بهدف تقوية علاقاتها السياسية والعسكرية مع غيرها من الدول.
فعلى سبيل المثال، قد تقوم الدولة (أ) بإجراء مناورات عسكرية بشكل مستمر مع الدولة
(ب) من أجل تعزيز العلاقات الثنائية ومواجهة التهديدات العابرة للحدود التي قد
تكون مشتركة بين الدولتين.
تبنت كل من اليونان
وتركيا هذه الإستراتيجية بسبب نزاعهما المستمر في شرق المتوسط. ففي مايو 2019،
أطلقت تركيا أكبر مناورات بحرية في تاريخها في ثلاث بحار( البحر الأسود، بحر
ايجيه، والبحر الأسود). وقد حملت هذه المناورات اسم "ذئب البحر 2019".
وقد شاركت فيها 131 سفينة بحرية، و57 طائرة حربية، و 33 مروحية.
وفي
يوليو 2020، أطلقت تركيا مناورات عسكرية ضخمة مع حكومة الوفاق الوطني قرب السواحل
الليبية. أشركت أنقرة 17 طائرة حربية و 8 قطع بحرية بهدف التأكيد على جاهزية
قواتها. وقد حملت هذه المناورة إسم "NAVTEX". وقد جاءت هذه المناورات كرد فعل على تدمير منظومة دفاع جوي
نصبتها تركيا في قاعدة الوطية الليبية بهدف اعادة تأهيلها واستخدامها.
لم تتوقف تركيا عن
هذا الحد، بل حاولت أنقرة من خلال استراتيجية المناورات العسكرية مواكبة التطورات
الجديدة في شرق المتوسط؛ حيث أقامت أنقرة مناورات عسكرية جديدة في الفترة من 29
أغسطس حتى 11 سبتمبر، في تحدي واضح لجهود التهدئة الأوروبية. وتعود موجة التصعيد
الحالي إلى ارسال تركيا سفينة للمسح الزلزالي في أغسطس 2020 إلى منطقة تقول
اليونان أنها تابعة لها، الأمر الذي دفع اليونان أيضا إلى القيام بمناورات عسكرية
في أغسطس 2020 بمشاركة كل من فرنسا والإمارات.
ثانياً- اندماج أطراف خارجية
يشكل الدور الفرنسي
المتصاعد في شرق المتوسط تهديدا حقيقا لسياسة أنقرة في شرق المتوسط. ففي تغريدة له
في أغسطس 2020، أكد الرئيس الفرنسي سعي بلاده لزيادة وجودها العسكري في شرق
المتوسط. كما اتهم الرئيس الفرنسي تركيا بالقيام بأعمال أحادية تسببت في زيادة
التوتر في شرق المتوسط. في الشهر ذاته، تمت ترجمة أقوال الرئيس الفرنسي إلى أفعال
من خلال التوصل إلى تفاهم مع قبرص الرومية يقضي بنشر قوات جوية فرنسية في قبرص من
أجل مواجهة الطموح التركي في شرق المتوسط. وقد أثار هذا الأمر استياء الأتراك
الذين اعتبروا هذا الأمر تهديدا مباشرا لاتفاقيات لندن وزيورخ التي قامت بتسوية
النزاع القبرصي في 1960.
تدرك فرنسا جيدا
أهمية تحجيم الدور التركي في شرق المتوسط، خاصة أنه يمثل تهديدا مباشرا لمصالحها
في دول شمال أفريقيا. وقد برز التهديد التركي بشكل أكثر وضوحا عقب تدخلها العسكري
في ليبيا لصالح حكومة الوفاق الوطني. كما تدرك فرنسا أن تركيا تحاول أن تجد لها
موطئ قدم في لبنان؛ مستغلة بذلك الوضع الاقتصادي الهش هناك. وفي هذا الإطار، تعتقد
تركيا أن توثيق العلاقات مع لبنان أمر حتمي، خاصة أن احتمالية توقيع اتفاقية بحرية
بين البلدين مازالت على الطاولة؛ حتي وإن كانت بعيدة المنال في الوقت الحالي بسبب
النفوذ الفرنسي لدى بيروت.
وفقا لموقع ترك برس،
فإن تركيا قررت اشراك روسيا في بعض تدريباتها العسكرية القائمة في الوقت الحالي في
شرق المتوسط. وتهدف أنقرة من ذلك لزيادة تحالفاتها العسكرية بهدف تدعيم موقفها.
لكنّ هذه الخطوة قد تؤثر على علاقاتها بحلفائها في الناتو بشكل سلبي؛ خاصة أن
أنقرة قد اتخذت موقفا عسكريا متقاربا مع موسكو في الفترة الأخيرة من خلال شراء
منظومة اس 400.
ثالثاً- عقوبات محتملة
رغم تشابك الملفات
بين أنقرة وبروكسل، إلا أن الإتحاد الأوروبي يضع على الطاولة خيار فرض عقوبات
اقتصادية على تركيا. بالتأكيد، هذا الأمر سوف يكون له تداعيات كبيرة للغاية على
الاقتصاد التركي في حالة تحققه؛ خاصة إذا ما وضعنا في الإعتبار الأثار السلبية
لأزمة كورونا على الإقتصاد التركي.
في 28 أغسطس، أعلن
الإتحاد الأوروبي بشكل صريح انحيازه لليونان؛ مؤكدا على استعداده لفرض عقوبات
اقتصادية على تركيا إذا لم تتوقف عن التصعيد في شرق المتوسط. ويعد هذا الموقف دعما
أوروبيا واضحا لليونان، لدرجة أن وزير الخارجية اليونان قد وصف هذا الأمر بأنه
انحياز للعائلة الأوروبية التي تعتبر اليونان جزءا منها. لكنّ أنقرة ردت بشكل صريح
واعتبرت أن فرض عقوبات عليها سوف يسهم في زيادة تعقيد الأمور في شرق المتوسط.
في النهاية، يجب أن
نؤكد أن أنقرة تدرك أهمية الغاز في تحقيق الإكتفاء الذاتي من موارد الطاقة.
وبالتالي، ليس من المتوقع أن تغير أنقرة من سلوكياتها العدوانية في شرق المتوسط
إذا ما قررت أوروبا فرض عقوبات عليها. على النقيض من ذلك، قد يستخدم الحزب الحاكم
حزمة العقوبات الأوروبية المتوقعة كوسيلة لتدعيم موقفة وزيادة شعبيته من خلال
تعبئة النزعة القومية لدى مواطنيه.