لماذا لا توجد حرب باردة مع الصين؟
إن عملية تطبيق مقارنات القرن العشرين على العلاقات
الأمريكية الصينية هو إساءة استخدام للتاريخ، بالإضافة إلى ذلك يظهر سوء فهم
للحاضر؛ حيث أنه وعلى مدار العشرين عامًا الماضية، كانت العلاقة الدولية الأكثر
أهمية في التأثير على النظام الدولي بين كل من الصين الصاعدة والولايات المتحدة في
الوقت الحالي وسيظل كذلك على الأرجح لسنوات عديدة قادمة، حتى مع تغير طبيعة تلك
العلاقة بمرور الوقت.
ويجب الإشارة هنا إلى إن العلاقات بينهما لم تتميز
بالثبات والتوافق ولم تسير وفق منحنى ثابت فقد تحولت العلاقات في السنوات القليلة
الماضية من التعامل الحذر إلى تصاعد المخاوف المتبادلة، وعلى الرغم من ذلك فإن
الحديث عن حرب باردة جديدة بينهما وأن العلاقات الصينية الأمريكية في أسوأ حالاتها
منذ تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في عام 1979 ما هو إلا تفسير غير صحيح،
خاصة وأن هذا الطرح يعود إلى نموذج القرن العشرين للحرب الباردة بين الولايات
المتحدة والاتحاد السوفيتي، وأن العلاقات الأمريكية الصينية لا يمكن أن تكون
مختلفة بصورة كبيرة عن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
استعادة الماضي
إذا كانت هناك حالة من تبني وجهة نظر تبسيطية
للماضي ونقله إلى الحاضر في إطار مفهوم الحرب الباردة إلا أن تطبيق ذلك على
العلاقات الأمريكية الصينية بمثابة إساءة تفسير لمجريات الأوضاع السابقة بين
الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، كما أنه ينم عن سوء فهم عميق حول
الديناميكية الفعلية بين الولايات المتحدة والصين.
وضمن هذا السياق يمكن القول بأن هناك حرب تصريحات
بين البلدين وتوترات متصاعدة، بالإضافة إلى المنافسة التكنولوجية والحرب التجارية
بينهما، والتي عبر عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من خلال حظر شركة TikTok الصينية للتواصل الاجتماعي من الولايات المتحدة والحملة الأمريكية
الطويلة ضد شركة Huawei، إلى مواجهة محاولة الصين بناء اتصالاتها الداخلية
والبنية التحتية للإنترنت.
وعلى الرغم من ذلك فإن العلاقات الاقتصادية
المتبادلة بين البلدين لا تزال عميقة ومعقدة، ولم تتأثر إلى حد كبير بسنوات من
العقوبات والتعريفات الجمركية وحرب التصريحات بينهما. ومن ثم فإن الولايات المتحدة
والصين ليستا في حرب باردة، ولكنهما يشهدان علاقات متوترة ستستمر لفترات قادمة.
تصاعد التوترات
في الآونة الأخيرة ازدادت التوترات بين الولايات
المتحدة والصين، وقد هاجم وزير الخارجية مايك بومبيو الرئيس الصيني شي جين بينغ
ووصفه بأنه "مؤمن حقيقي بإيديولوجية استبدادية مفلسة". وفرض البلدان
سلسلة متصاعدة من الإجراءات الانتقامية ضد بعضهما البعض بدءًا من العقوبات الصينية
على أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي إلى الأوامر الأمريكية بإغلاق القنصلية الصينية في
هيوستن. وهذا بدوره دفع خبراء السياسة ومراقبي الصين للتحدث عن مفهوم الحرب
الباردة.
والجدير بالذكر هنا إنه مع وجود جميع السمات
المميزة للحرب الباردة في القرن الماضي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي
والتي تتمثل في الأيديولوجيات المتعارضة،
والحرب بالوكالة في دول أخرى، واختلاف مجالات النفوذ التي يحاول كل طرف فيها تجميد
الآخر، وهجوم دبلوماسي وحرب اقتصادية لقطع الامدادت الاقتصادية عن كل طرف إلا إن ما
تفتقده هذه المقارنات بصورة كاملة هو طبيعة العلاقة الاقتصادية بين الصين
والولايات المتحدة والتي هي أكثر ارتباطًا وتشابكًا من العلاقة بين الولايات
المتحدة والاتحاد السوفيتي، وهذا العامل وحده يجعل نموذج الحرب الباردة غير ذي صلة
تقريبًا كإطار مفسر لطبيعة العلاقات بينهما الحالية والمستقبلية.
نموذج مختلف
شكل عام 1950 نقطة اللاعودة للصراع بين الولايات
المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق؛ حيث مثلت الولايات المتحدة حوالي نصف إجمالي
الإنتاج الصناعي العالمي، بالإضافة إلى ذلك كانت خطة مارشال الخاصة بها تضخ
مليارات الدولارات إلى أوروبا الغربية لإعادة بناء الاقتصادات التي دمرتها الحرب
هناك. لكن لم يكن أي من هذه الأموال يتدفق إلى الاتحاد السوفيتي أو الكتلة
الأوروبية الشرقية. ويجب الإشارة إلى أن حجم التجارة بين البلدين تميز بالانخفاض،
وكان القيد الحقيقي الوحيد على الحرب الباردة في ذلك الوقت هو الأسلحة النووية. وضمن
السياق ذاته فقد تم شن الحرب أيديولوجيًا واقتصاديًا وعسكريًا فقط في البلدان
المحيطية بكل طرف.
وعلى الجانب الآخر وفيما يتعلق بالولايات المتحدة
والصين فقد تطورت العلاقات الأمريكية الصينية في سياق الاعتماد الاقتصادي المتبادل،
وعلى الرغم من الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب على الواردات الصينية
والاضطرابات الجماعية في التجارة العالمية وحركة تنقل الأشخاص والبضائع بسبب فيروس
كورونا، إلا أنه من المرجح أن تتراوح التجارة الثنائية في البضائع بين البلدين بين
450 و 500 مليار دولار في عام 2020.
لماذا الحرب؟
أطلق المؤرخ نيال فيرجسون والخبير الاقتصادي موريتز
شولاريك اسم "Chimerica" لتوضيح حالة الانصهار الاقتصادي الفائق، وهو ما دفع بالتساؤل
مجددًا حول لماذا تستمر لغة الحرب الباردة؟ يشير العديد من المراقبين إلى إن
المنافسة التكنولوجية بين الاثنين هي العامل الأبرز في توترات الدولتين؛ حيث لا
يثق كل منهما في تكنولوجيا الآخر، خاصة بعدما عزلت الصين نفسها عن شركات وسائل
التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة، ويحاول كلاهما تحقيق التقدم التكنولوجي في
ظل انتشار فيروس كورونا المستجد خاصة وأن الصين تدير أزمتها الصحية من خلال
الاستخدام المتداخل للبيانات الشخصية لرصد والتحكم في حركة 1.4 مليار نسمة، وعلى
الرغم من التوترات المتعلقة بالتقدم التكنولوجي والتقني، فإنه لا يزال الاعتماد
الاقتصادي المتبادل بينهما كما هو إلى حد كبير.
ومن ناحية أخرى ربما تحتاج الولايات المتحدة إلى دولة
معادية لها في النظام الدولي كما كانت تفعل في السابق مع الاتحاد السوفيتي. وضمن
السياق ذاته تُعد الصين أفضل على سبيل المثال من تنظيم القاعدة أو الجماعات
المسلحة لمواجهتها؛ حيث تحركت الصين للسيطرة على بحر الصين الجنوبي كما فعلت
الولايات المتحدة ولا تزال تفعل في منطقة البحر الكاريبي، بالإضافة إلى وجود
خلافات أيديولوجية بين البلدين.
وفي النهاية لا يمكن مقارنة العلاقة الحالية بين
الولايات المتحدة والصين بالتنافس في القرن العشرين بين الولايات المتحدة والاتحاد
السوفيتي السابق، ومع أخذ ذلك في الاعتبار، فإن أفضل مسار للولايات المتحدة هو
التركيز على تنمية قطاعاتها التكنولوجية إذا كانت هناك مخاوف من سرقة الصين
للملكية الفكرية للشركات الأمريكية أو بيانات المواطنين الأمريكيين، ومن ثم يجب
على الولايات المتحدة والشركات ذات الصلة الاستثمار بكثافة في الابتكار والأمن
السيبراني وأمن البيانات، بالإضافة إلى تطوير الشركات والتقنيات التي يمكن أن تحل
محل ما توفره Huawei أو الشركات الصينية الأخرى، وأنه من الأفضل
عدم تصدير مصطلح الحرب الباردة ، وبدلًا منه صياغة استراتيجية أمريكية جديدة تواكب
التنافس مع الصين في ظل أوضاع إقليمية ودولية مختلفة عن تلك التي كانت سائدة خلال
الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي السابق.
ZACHARY KARABELL, There’s No Cold War With China,
foreignpolicy, AUGUST 14, 2020, at:
https://foreignpolicy.com/2020/08/14/cold-war-china-misuse-of-history-united-states-soviet-union/