وقف اطلاق النار في ليبيا بين ترحيب دولي ومخاوف من المناورة
في خطوة مفاجئة، أعلن
فائز السراج منذ أسابيع وقفًا فوريًا لإطلاق النار، داعيًا إلى إجراء انتخابات برلمانية
ورئاسية في ليبيا كوسيلة لوضع حد للحرب الدائرة في البلاد منذ سنوات طويلة. كما
أصدر السراج قرارا لجميع القوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني بوقف إطلاق النار في
كامل الأراضي الليبية. وقد أشار البيان ذاته أن عملية وقف إطلاق النار يأتي اتساقا
مع الجهود الدولية المبذولة من أجل جعل منطقتي سرت والجفرة منزوعة السلاح، على أن
يتم تأمين المدينة بقوات شرطية مكونة من الجيش الليبي وقوات الوفاق.
وفي الإطار ذاته،
أعلن عقيلة صالح رئيس البرلمان الليبي ترحيبه بالمبادرة وطالب كل قوات الجيش
الليبي بوقف جميع الأعمال القتالية، تمهيدا لمحاولة تسوية النزاع بشكل سلمي.
أولاً- مصر والخط الأحمر
من الأهمية بمكان أن
نشير هنا إلى الدور المصري الحاسم في سير العمليات العسكرية في ليبيا؛ حيث نجحت
حكومة الوفاق في استعادة السيطرة على المناطق الواقعة جنوب العاصمة الليبية
طرابلس، ما مهد لها الطريق للتوجه شرقا. ولكنّ مصر تدخلت هنا وأعلنت أن مدينة سرت
خط أحمر لما تمثله من أهمية استراتيجية في ليبيا، الأمر الذي دفع حكومة الوفاق
لوقف عملياتها العسكرية، قبل أن تبدأ الأطراف المختلفة التفاوض من أجل الوصول إلى
حل توافقي يبعد عن سرت شبح الحرب.
وقد انبثقت الرؤية
المصرية من الإدراك بأن مدينة سرت هي البوابة الأخيرة أمام الهلال النفطي الذي
يحوي أكثر من 75% من النفط الليبي، الأمر الذي يعني سيطرة حكومة الوفاق على هذه
المدينة سوف يفتح شهية القوات التابعة لها للتوجه نحو منطقة الهلال النفطي.
بالتأكيد، هذا الأمر يقلل من نفوذ الجيش الوطني الليبي في أي عملية تفاوضية تهدف
لوضع حد للنزاع بشكل سلمي. ولذلك، تدخلت مصر بكل ثقلها ورسمت خطها الأحمر وهددت
بالتدخل العسكري المباشر للدفاع عن مقدرات الشعب الليبي. كما مهدت مصر الطريق أمام
تدخلها العسكري بعقد مؤتمرات مع القبائل الليبية المختلفة التي أعلنت تأييدها
لتدخل مصر العسكري للدفاع عن مقدرات الشعب الليبي. وقد ساهم هذا الخط الأحمر في
دفع كل الأطراف في ليبيا للتوجه نحو المفاوضات.
ثانياً- احتمالية المناورة
لا شك أن احتمالية
المناورة لا تزال قائمة من قبل حكومة الوفاق وتركيا؛ خاصة أن تركيا ترى في وجود
حكومة الوفاق الليبية أمرا ضروريًا من أجل استمرار الإتفاقيات العسكرية والبحرية
الموقفة بين الطرفين، مع العلم أن البرلمان الليبي لم يصدق على هذه الإتفاقيات، ما
يجعلها غير قابلة للتطبيق قانونيا. علاوة على ذلك، تحاول تركيا اعادة تأهيل قاعدة
الوطية في الغرب الليبي من أجل اتخاذها قاعدة عسكرية دائمة لها في ليبيا بهدف
تكثيف وجودها العسكري بالقرب من دول الصحراء الأفريقية، الأمر الذي يزيد من قدرة
أنقرة على منافسة فرنسا في مناطق نفوذها التقليدية.
وفي في نفس الوقت،
توصلت تركيا لإتفاق مع حكومة الوفاق يقضي بإنشاء تركيا لقاعدة عسكرية بحرية في
مدينة مصراتة من أجل زيادة النفوذ التركي في المتوسط. ورغم أن صيغة الإتفاق لم
يعلن عنها بين الطرفين، ولكن صحف تركية قد أشارت إلى أن تركيا قد حصلت على حق
تأجير ميناء مصراتة لمدة 99 عاما، دون أن يصدر أي تأكيد رسمي من الجانبين.
وهناك مكاسب آخري
حققتها تركيا من خلال التحالف مع حكومة الوفاق، لعل أهمها هو قيام عدد من الشركات
التركية بتوقيع عقود من أجل المشاركة في إعادة إعمار المدن الواقعة تحت سيطرة
الوفاق. ونستدل من ذلك على أن تركيا لن تسمح لحكومة الوفاق بخوض أي انتخابات
برلمانية أو رئاسية في فترة قصيرة لأن هذا الأمر يمثل تهديدا مباشرا لوجوها. ومن
هنا، تظل احتمالية المناورة السياسية من خلال مبادرة السراج قائمة. وقد هدفت هذه
المبادرة بشكل رئيسي لتهدئة الأوضاع العسكرية في ليبيا، فضلا عن محاولة حكومة
الوفاق دفع الجيش الوطني الليبي من للقيام بخروقات من أجل تحميله عودة الأوضاع إلى
نقطة الصفر.
ومن جانب آخر، برزت
عدد من الخلافات داخل حكومة الوفاق لدرجة أن عدد من التظاهرات قد عقدت في الغرب
الليبي ضد السراج، الأمر الذي دفعه للبحث عن تهدئة من أجل إعادة ترتيب البيت
الداخلي، وهو ما تحقق بمبادرته التي أعلن عقيله صالح رئيس البرلمان الليبي في
الشرق قبولها.
من جانبه، أعلن
المتحدث باسم الجيش الليبي، المسماري، أن مبادرة السراج هدفها فقط التضليل
الإعلامي. كما أعلن المسماري أن قوات الجيش الليبي قد رصدت فرقاطات تركية تتقدم
نحو سرت في وضعية هجومية، الأمر الذي يؤكد أن المبادرة هدفها فقط التضليل
والمناورة.
ثالثاً- ردود الفعل الدولية
رحبت عدد من الدول،
على رأسهم مصر والإمارات، بوقف إطلاق النار في ليبيا معتبرة ذلك بداية حقيقية
لتسوية الوضع سياسيا في ليبيا. وتأتي مبادرة وقف إطلاق النار اتساقا مع مخرجات
مؤتمر برلين الذي عقد مطلع العام الحالي، الأمر الذي يجعل من ألمانيا لاعبا أساسيا
في أي عملية تفاوضية مقبلة.
بالنسبة لمصر،
التفاوض بين أطراف النزاع في ليبيا هو الوسيلة الأمثل لتحقيق طموحات الشعب الليبي
لأن التسوية العسكرية غير واردة تماما في ضوء توازن القوي الموجود على الأرض.
علاوة على ذلك، يتيح وقف العمليات العسكرية في ليبيا الفرصة للمنظمات والقوى
الدولية لممارسة ضغط على حكومة الوفاق من أجل إخراج المرتزقة السوريين المتشددين
الذين نقلتهم تركيا من الشمال السوري إلى ليبيا من أجل دعم حكومة الوفاق.
وعلى صعيد آخر، ترى
مصر أن وقف العمليات العسكرية في كامل الأراضي الليبية على خطوط التماس الحالية
وبدء التفاوض يمنح الجيش الوطني الليبي نفوذا كبيرا في العملية التفاوضية، خاصة أن
منطقة الهلال النفطي لا تزال واقعة تحت سيطرته.
ورغم أن بيان السراج
قد دعا إلى عقد انتخابات برلمانية ورئاسية في مارس المقبل وفق قاعدة دستورية يتفق
عليها الجميع، إلا أن البيان لم يحدد آليات واضحه حول كيفية الوصول إلى آلية
توافقية، ما يعني أن حكومة الوفاق قد تستغل التفاوض كوسيلة لإطالة أمد الأزمة
السياسية وتثبيت الوضع كما هو عليه لفترة أبعد من 2021. علاوة على ذلك، لم يحدد
البيان دور واضح مطلقا للأمم المتحدة في لعب دور تنسيقي ورقابي على عملية التفاوض
بهدف ضبط إيقاع الطرفين وحثهم على التسوية في أسرع وقت ممكن. ولعل عدم وجود دستور
ليبي موحد يمثل أزمة سياسية أخرى، خاصة أن التوافق على مواد دستورية حاكمة بشكل
عام قد يستغرق وقتا أبعد من مارس 2021، وهو الوقت الذي حدده بيان السراج من أجل
اقامة انتخابات برلمانية ورئاسية.
في النهاية، يجب على
المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة أن تتقدم للعب دور أكبر في الحفاظ على
وقف إطلاق النار الحالي من خلال القيام بفرض آليات رقابية على عملية
التفاوض.
المراجع:
-
Declan Walsh, Libyan Rivals call for peace
talks, at:
https://www.nytimes.com/2020/08/21/world/middleeast/libya-ceasefire.html
-
BBC, Rival authorities announce ceasefire,
at: