بيلاروسيا في الميزان .. استنزاف أم مواجهة؟
أربعة عشر يوما هزت بيلاروسيا. ومنذ الانتخابات الرئاسية في أغسطس
2020، غيّر البلد نفسه وشكل تهديدا جديدا. وتتحرك الأحداث بسرعة في بيلاروسيايا
لدرجة أنه أنه يمكن التنبؤ بنتائجها.
وكما في الماضي، لقي النظام احتجاجات ضد انتخابات 9
أغسطس 2020 تحت دعوى التزوير؛ حيث قام بعمليات اعتقال وضرب جماعية – ولكن بوحشية
غير مسبوقة. لم يكتف النظام بهذا القدر من الوحشة، ولكنه فضح التعذيب المنهجي
للمحتجزين، وعرضهم على شاشات التلفزيون بهدف ترهيب المواطنين. وقد أُجبرت سفيتلانا
تيخانوفسكايا، الفائزة فعلياً في الانتخابات، في مكتب رئيس لجنة الانتخابات
المركزية، على تلاوة بيان يدعو المحتجين إلى العودة إلى ديارهم.
وقد أثارت هذه
الأعمال، التي صُممت للتخويف، الغضب. ومع تزايد شهادات العنف التي قامت بها
الدولة، والإعلان عن أول الوفيات، انضمت جماعات جديدة إلى الاحتجاجات. وشمل ذلك،
بشكل حاسم ولأول مرة، عمالاً في المصانع الرئيسية المملوكة للدولة.
التعبئة والتراجع
اجتاحت موجة من الاحتجاجات جميع أنحاء البلاد،
الأمر الذي كان له تأثيره النفسي والأخلاقي على بيلاروسياي للأبد. وحمل المواطنين
الأعلام ذات اللون الأبيض- الأحمر- الأبيض، والتي تمثل رمزا للحرية البيلاروسياية.
وكان هذا الأمر له دورا حاسم في اظهار رفض المواطنين للنظام السياسي القائم.
لم يجد النظام أمامه إلا التراجع خطوة للوراء،
الأمر الذي دفعه لإطلاق سراح عشرات المحتجزين، رغم أن العشرات ما زالوا في عداد
المفقودين. كما تم تقليص عدد الاعتقالات. وفي عدد قليل من البلدات، قامت قوات
الأمن بخفض دروعها ومنحت زهورا للمواطنين. ويبدو أن حركة التغيير تكتسب اليد
العليا. ولكن لوكاشينكو لم يكن ينوي التخلي عن السلطة. وعلى الرغم من ذلك، بدأ
الرئيس البيلاروسياي في التعاطي للاحتجاجات في الشارع وفق خبرته وفهمه.
التصلب والتدويل
وفي الأيام القليلة الماضية، بدأت مرحلة جديدة؛
يحددها عاملان. أولهما، قام لوكاشينكو بالتحضيرات لحملة قمع جديدة وأكثر حدة. وفي
اجتماع لمجلس الأمن القومي في أغسطس الماضي، قام بمنح الأوامر من أجل القيام بذلك.
بعد فترة وجيزة، قام وزير الدفاع فيكتور خرينين
بعقد اجتماع من كبار قيادات الجيش من أجل التمهيد لإعلان الأحكام العرفية، وقال
للمرؤوسين إن "الواجبات المؤقتة" يمكن أن تتطلب منهم إطلاق النار على
المدنيين. وحذر في شريط فيديو عام من أن المتظاهرين الذين يحملون "أعلاماً
فاشية" سيتعين عليهم التعامل "ليس مع الشرطة، بل مع الجيش".
وقد استبعد لوكاشينكو أى شىء سوى المواجهة، وأدان
مجلس التنسيق الذي ألفته تيخانوفسكايا للحوار السياسي باعتباره محاولة
"للاستيلاء على السلطة"، وفتح قضية جنائية ضدها. كما ادعى أن بيلاروسيايا
تواجه ثورة ألوان مستوحاة من الخارج، فضلاً عن تهديدات من حلف شمال الأطلسي. وضع
الوحدات العسكرية الرئيسية في حالة تأهب تام وأرسلها إلى الحدود الغربية.
والعنصر الجديد الثاني في الأزمة هو بُعدها الدولي
المتنامي. منذ 7 أغسطس، تحدث لوكاشينكو وبوتين عبر الهاتف خمس مرات، أي أكثر مرتين
من عام 2019 بأكمله. وقد دعا لوكاشينكو علناً إلى دعم روسيا، محذراً من أن
الاحتجاجات ستمتد إلى روسيا. ويُعتقد الآن أن المستشارين الروس في مينسك.
استنزاف أم مواجهة؟
أين تقف الأمور الآن؟ فمن جهة، يتحد السكان - وليس فقط
"المعارضة" – في رغبتهم في الحرية. ومن ناحية أخرى، هناك نظام جُرِّد
إلى نواة هيكلية من مسؤولي الدولة وقوات الأمن. فالدولة تمارس العنف لكنها تفتقد
إلى الشرعية. من هذا المنظور يمكن أن نعتبر النظام الحاكم نظام احتلال، ولا يمكن
أن يسود في مثل هذه الظروف.
وقد أظهرت الاحتجاجات الضخمة التي اندلعت في 23 أغسطس أن السكان لا
يخافون ومستعدون للذهاب بعيدا في مقاومتهم للنظام، لدرجة أن الرئيس الآن أصبح
محاصر من كل الجوانب؛ فهو يشعر أنه عليه أن ينفذ تهديداته باستخدام العنف وإلا سوف
يفقد مصداقيته بين أنصاره. إن عنف الدولة اللازم لقمع الاحتجاجات قد يتجاوز أي شيء
شهدته أوروبا، خارج حروب البلقان، على مدى عقود. ومن شأنه أن يعزل بيلاروسيا عن
الغرب ويخلق غضبا دوليا.
والبديل هو تجربة
التحمل. وسوف يعتمد لوكاشينكو على القمع على مستوى أدنى، والمصاعب الاقتصادية التي
يواجهها المضربون أو المفصولون، من أجل استنزاف طاقة وقوة دفع الاحتجاجات. وسوف
يسعى المحتجون بدورهم إلى إبقاء لوكاشينكو غير متوازن، كما فعلوا بفعالية حتى
الآن. وسيحاولون إقناع المسؤولين الرئيسيين باليأس من الوضع الراهن وضرورة الدخول
في حوار.
وأي عودة عنيفة إلى الماضي ستكون متجهمة وغير مستقرة وكارثية على
البلد. كما لا يمكن أن تستمر المواجهة الحالية إلى ما لا نهاية. واليقين الوحيد هو
أن المزيد من التغيير سيأتي في بيلاروسيا.
Nigel
Gould Davies, Belarus in the Balance: Attrition or Showdown?, iiss, at: