في
خطوة مهمة واستباقية وقعت كل من مصر واليونان في 6 أغسطس 2020م اتفاقية ترسيم
الحدود البحرية بين البلدين، وذلك خلال زيارة لوزير الخارجية اليوناني نيكوس
دندياس، إلى القاهرة، وهو الأمر الذي سينعكس بصورة كبيرة على أكثر من جهة سواء على
المستوى الداخلي أو الإقليمي والدولي، وبخاصة تركيا الهادفة إلي الاستيلاء على
مقدرات منطقة شرق المتوسط من الغاز والثروات المكتشفة، كما أن تعيين المناطق
الاقتصادية الخالصة بين مصر واليونان في خطوة مشابهة لما قامت به أثينا مع روما في
وقت سابق يؤشر على اتجاه هذه الدول إلى وضع البيئة القانونية لتنظيم الاستفادة
الكاملة من الثروات المكتشفة حديثًا، وأن هذا الاتفاق بين مصر واليونان يأتي على
خلفية تفاهمات بين البلدين في ضوء التنسيق المستمر.
خريطة التفاعلات
تشهد
منطقة شرق المتوسط حالة من الصراعات حول الاكتشافات الحديثة، وتُعد منطقة شرق
المتوسط من أكثر المناطق الجيوستراتيجية التي تشكل تهديدًا لمستقبل الأمن والسلم
الدوليين، وتستحوذ منطقة شرق المتوسط على أهمية جيوسياسية كبيرة لما تمتلكه من
مقدرات اقتصادية، وهو ما تسبب في تنامي الصراعات حول الاستفادة منها واتجاه بعض
الدول مثل تركيا إلى التدخل هناك لفرض أهدافها من خلال توقيع اتفاقية للتفاهم مع
حكومة الوفاق الليبية في نوفمبر 2019، في محاولة منها لشرعنة وجودها، ولكن من جهة
أخرى فإن خريطة التفاعلات بين دول منطقة شرق المتوسط تتشابك فيما بينهم وتتوحد حول
رفض الدور التركي الذي يهدد مصالح هذه الدول خاصة قبرص واليونان ومصر، ولإكساب
عمليات التنقيب المشروعية القانونية اتجهت الدول لترسيم حدودها البحرية، وفي هذا
الإطار وقعت مصر وقبرص اتفاقية لترسيم الحدود البحرية في ديسمبر من عام 2013م.
وهذه
التفاعلات أوجدت حالة من التوافق بين كل من مصر واليونان وقبرص حول التنسيق
الجماعي من خلال توقيع الاتفاقيات الثنائية من جانب ومن جانب آخر تفعيل مخرجات منتدى
شرق المتوسط الذي أنشأته القاهرة في يناير 2019، بشأن تنسيق سوق الغاز وتحسين
العلاقات الاقتصادية وتأمين العرض والطلب بين الدول الأعضاء، ولعل هذا التوافق
ساهم في مواجهة التدخلات التركية غير المشروعة من جانب ومن جانب آخر وضع البنية
القانونية اللازمة للاستفادة من هذه الثروات.
رد الفعل التركي
بعد
إعلانها سابقًا استعدادها للحوار ووقف التنقيب عن الطاقة في البحر المتوسط، صعدت
تركيا الجمعة موقفها تجاه اليونان، معلنة استئناف عمليات التنقيب؛ حيث أعلنت وزارة
الخارجية التركية رفضها للاتفاقية الموقعة بين مصر واليونان زاعمة أنها تنتهك
الجرف القاري التركي، ومؤكدة أن أنقرة لن تسمح لأي أنشطة ضمن المنطقة المذكورة،
وستواصل بلا شك الدفاع عن الحقوق المشروعة لتركيا وللقبارصة الأتراك شرقي المتوسط.
ومن
ناحيتها، كثفت تركيا عمليات التنقيب في البحر إلى الغرب من قبرص التي تنقسم إلى
شطرين منذ عام 1974، ولا يحظى شطرها الشمالي الخاضع لسيطرة تركيا سوى باعتراف
أنقرة، وتقول حكومة جمهورية قبرص إن تركيا طالما انتهكت حقوقها الاقتصادية في
الحفر في المنطقة، مشيرة إلى أن تركيا لا حق لها في التنقيب عن النفط والغاز قبالة
سواحلها، ولكن من ناحية تركيا فإنها لا تقر تلك الحقوق، وتقول إنها تكثف حملاتها
لاستكشاف النفط والغاز في نطاق أراضيها، وتزعم أن أعمال الحفر التي تقوم بها تحدث
داخل الجرف القاري الذي يخصها، ومن ثم فإنها لا تخالف القانون الدولي.
ويجب
الإشارة هنا إلى جزيرة قبرص تنقسم إلى قسمين حيث تم الفصل بين مجتمعي القبارصة
اليونانيين والقبارصة الأتراك بمنطقة عازلة بموجب قرار أممي صدر في عام 1974، بعد
اجتياح تركيا شمال الجزيرة القبرصية ردًا على انقلاب عسكري مدعوم من اليونان.
تداعيات محتملة
تعود هذه
الاتفاقية إلى عام 2003م؛ ولم يتم توقيعها بسبب وجود خلافات حول تحديد المناطق
الاقتصادية الخالصة لكل دولة، خاصة أن الحدود البحرية يتم ترسيمها وفقًا لمعاهدة
الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، والموقعة من كافة الدول الأعضاء في الأمم
المتحدة، حيث يوجد ما يسمى بالمياه الإقليمية وما يسمى بالمياه الاقتصادية، وتبدأ
المياه الإقليمية من نقطة التقاء اليابسة بالمياه عند الشاطئ، وبعمق 12 ميلًا، أما
المياه الاقتصادية فتبدأ من نفس النقطة وتمتد في البحر 200 ميل إذا كانت المسافة
بين الدولة والجار تزيد عن 400 ميل، أما إذا كانت أقل من 400 ميل فيتم ترسيمها
بالاتفاق مع الدول المجاورة بطريقة متناسبة ومتساوية ولا يجوز البحث عن الثروات
البحرية في تلك المناطق، إلا بعد التوافق حول أسلوب استغلال تلك الثروات بالإنصاف
مع الدول المتلاصقة والمتقابلة معًا، كما هي حالة مصر واليونان المتلاصقة معًا في
الحدود البحرية.
ثمة
انعكاسات عديدة في تداعياتها ستؤثر على الكثير من دول منطقة شرق المتوسط، على سبيل
المثال بناء على تلك الاتفاقية الموقعة، يمكن لمصر واليونان القيام بكل عمليات
البحث والتنقيب كل في منطقته الخالصة، دون مشاكل، ويمكن أن تقوم شركات التنقيب
العالمية بضخ استثمارات في تلك المناطق بعد أن اكتسبت الصفة القانونية، وثبت
خضوعها للدولة صاحبة الحق في البحث والتنقيب عن الثروات، وهو ما ليس حقًا لتركيا،
وضمن السياق ذاته إنه بعد توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان
وبعد اتفاق ترسيم الحدود بين اليونان وإيطاليا، لم يعد لتركيا أي مدخل باتجاه
ليبيا يمكن أن يتوافق مع قواعد القانون الدولي، خاصة بعدما رفض سكرتير عام الأمم
المتحدة إيداع الاتفاق البحري الذي أبرمته تركيا مع حكومة السراج في ليبيا ولم
يعتمده البرلمان الشرعي الليبي، ومن ناحية أخرى لم توقع تركيا لم توقعا على
الاتفاقية الدولية لقانون البحار، وبالتالي لا يمكنهما استغلال أي ثروات طبيعية في
المناطق الاقتصادية بالبحر المتوسط التي تخص الدول الأخرى، وسيعد أي تدخل منهما
بمثابة اعتداء على القانون الدولي، وتجاوزًا على الاتفاقيات القانونية الموقعة بين
الدول المتشاطئة على البحر المتوسط سواء كانت بين مصر وقبرص أو قبرص واليونان أو
اليونان وإيطاليا، والآن بين مصر واليونان.
كما أنه
بموجب الاتفاقية ستتصدى مصر واليونان للتحركات التركية غير المشروعة في مياه البحر
المتوسط، وتفتح الطريق أمام مرحلة جديدة في التعاون الثنائي والإقليمي للاستفادة
من ثروات شرق المتوسط من جانب ومواجهة الإرهاب من جانب آخر.
سيناريوهات مستقبلية
بسبب هذه
التداعيات وفي ظل اعتزام دول منطقة شرق المتوسط والدول المرتبط أمنها بهذه المنطقة
بتحقيق الاستقرار وتعزيزه في مواجهة التدخلات التركية فهناك سيناريوهات محتملة على
خلفية التدخل التركي غير الشرعي في التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، والتي تتعدد
انعكاساتها بين الآليات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وفيما يلي أبرز هذه
السيناريوهات:
1)
سيناريو التوافق: يرتكز هذا السيناريو على فرضية تراجع تركيا
عن تهديداتها بالتنقيب في المناطق الاقتصادية الخاصة بكل من قبرص واليونان ويستند
هذا السيناريو على إمكانية التوافق بين دول المنطقة حول ترسيم الحدود البحرية وفق
قواعد القانون الدولي، وهو الأمر الذي تجلى بصورة كبيرة من خلال التنسيق الثلاثي
بين مصر واليونان وقبرص وانضمت إليهم إيطاليا ويتوقع أن تستمر باقي دول المنطقة في
الانضمام إلى تنسيق هذه الجهود، ويأتي ذلك بصورة خاصة بعدما واجهت تركيا مجموعة من الضغوط
الإقليمية والدولية، ويمكن أن يتم ذلك من خلال المنتدى الذي أنشأته القاهرة -منتدى
غاز شرق المتوسط- والذي يضم 7 دول وعضويته مفتوحة لباقي دول المنطقة، إلا أن هذا
الافتراض يواجه الكثير من التحديات في ظل السياسة التركية الهادفة إلى تجاوز
القانون الدولي واتفاقيات ترسيم الحدود المبرمة بين دول المنطقة،ويمكن لهذا
السيناريو أن يتم تحقيقه بسبب إدراك هذه الدول لمآلات التصعيد التي قد تتسبب في
تهديد الأمن والسلم الإقليمي والدولي دونما تحقيق استفادة متبادلة من الثروات
المكتشفة حديثًا من الغاز. وضمن السياق ذاته فإن الدول الأوروبية تدرك أن أمنها
واستقرارها مرتبط بأمن واستقرار المتوسط وأن غاز المتوسط مؤهل أقرب للوصول لها
بحكم علاقات الجوار الوطيدة والتي تستلزم تحقيق قدر من الهدوء والاستقرار، متوقعا
أن تتخذ أوروبا قريبا موقفا تجاه الممارسات والأدوار التركية التي باتت تشكل عبئا
وخطرا على أوروبا.
2) التصعيد والمواجهة العسكرية:
يرتكز هذا السيناريو على إمكانية تصاعد التوترات خاصة أن الجانب التركي يحاول
استخدام القضية الليبية من أجل الصراع على الغاز في شرق المتوسط. ويفترض هذا
السيناريو استمرار السياسة التركية في
التنقيب غير المشروع عن الغاز في المناطق الخاصة بدول المنطقة، واستمرارها في
انتهاج السياسات التصعيدية لها، وخلق تحالفاتها الخاصة، الأمر الذي قد يتطور إلى
إمكانية فرض عقوبات سياسية واقتصادية وعسكرية، وقد يتراوح التصعيد بين العقوبات
الاقتصادية والسياسية والمناوشات العسكرية إلى أن يصل حد المواجهة العسكرية
المباشرة بين أكثر من دولة في هذه المنطقة.
ويؤشر
على ذلك السياسة التركية الرافضة لمختلف التفاهمات بين دول منطقة شرق المتوسط حول
ترسيم الحدود البحرية، ورفضها انتهاج سياسة تحترم السيادة الخاصة بهذه الدول، وهو
ما ينذر بواقع صراعي ممتد حول حدود كل دولة البحرية.
المراجع:
1) ماذا يعني
ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان؟، على الرابط:
2) غاز البحر
المتوسط: لماذا وصف أردوغان الاتفاقية المصرية اليونانية بأنها "لا قيمة
لها"؟، على الرابط:
https://www.bbc.com/arabic/world-53706885
3) رداً على
اتفاق مصر-اليونان.. تركيا تصعد وتستأنف التنقيب، على الرابط:
4) بالتفاصيل..
لماذا أثار اتفاق مصر واليونان حفيظة تركيا؟، على الرابط: