دوافع متعددة.. كيف ساهمت ليبيا في توتر العلاقات التركية الفرنسية؟
شهدت الشهور الأخيرة
توترًا في العلاقة بين تركيا وفرنسا، على خلفية المعارك في ليبيا. فرنسا التي تعد
حليفًا وثيقا للجيش الوطني الليبي، بقيادة المشير خليفة حفتر، قد أزعجها التدخل
العسكري التركي لصالح حكومة الوفاق؛ خاصة أن أنقرة قد ساعدت حكومة الوفاق على
استعادة العاصمة طرابلس والمناطق المجاورة لها. علاوة على ذلك، لعبت الرغبة
التركية لإعادة تأهيل قاعدة الوطية، من أجل إعادة استخدامها وجعلها قاعدة عسكرية
دائمة للقوات التركية، دورا في توتر العلاقة مع باريس، خاصة أن مجموعة الزنتان(
حليفة لباريس ونسقت مع الجيش الوطني الليبي في محاولته لاستعادة السيطرة على
العاصمة) كانت تسيطر على هذه القاعدة منذ الإطاحة بالقذافي.
أولاً- دوافع التنافس المتعددة
تعد الخلافات التركية
الفرنسية في جوهرها أعمق من الأزمة في ليبيا؛ حيث أن فرنسا دوما ما تقدم نفسها
داخل القارة العجوز على أنها حارسة الأمن الأوروبي ومقاومة للسلوكيات الدولية
الهادفة إلى ممارسة أي نفوذ على أوروبا. على سبيل المثال، في الستينيات من القرن
الماضي، رفضت فرنسا انضمام بريطانيا للمجتمع الأوروبي خوفا من أن تتمكن الولايات
المتحدة من التأثير على القرار الأوروبي من خلال بريطانيا. وفي عام 2018، اقترحت
فرنسا إنشاء جيش أوروبي موحد ليكون بديلا للناتو في حماية أوروبا، وذلك بعدما
تفاقمت الأزمة بين أوروبا والولايات المتحدة؛ حيث طالبت الأخيرة الدول الأوروبية
بزيادة إنفاقها العسكري وتحمل مسئولياتها المالية تجاه الأدوار العسكرية التي يقوم
بها الناتو. ونستدل من ذلك على أن فرنسا تقوم بدور قوي من أجل قيام أوروبا بدور
مستقل في العلاقات الدولية.
وقد شكلت العلاقات
التركية الأوروبية معضلة لفرنسا؛ حيث ترفض باريس الإبتزاز التركي المتمثل في
ممارسة أقصى الضغوط على أوروبا من أجل إجبارها على تقديم تنازلات سياسية ومادية.
ورغم أن فرنسا تدرك أهمية الموقع الجيوسياسي لأنقرة، إلا أنها ترفض انضمامها بشكل
قاطع للإتحاد الأوروبي، خوفا من بروز الدور التركي في أوروبا. بعبارة أخرى، تدرك
فرنسا أن انضمام تركيا للإتحاد الأوروبي سوف يسهم في تحسين أداء الإقتصاد التركي،
كما سوف يمنح تركيا القدرة على ممارسة نفوذها على الدول الأوروبية، خاصة أن
القرارات المتعلقة بالدفاع والسياسية الخارجية تتخذ بالإجماع. علاوة على ذلك، ترى
فرنسا في انضمام تركيا للإتحاد مصدرا لتعاظم قوة تركيا الناعمة خاصة في دول
البلقان التي تعتبرها تركيا عمقا استراتيجيا لها.
في 2019، اعترفت
فرنسا بإبادة العثمانيين للأرمن خلال القرن العشرين، الأمر الذي أغضب الأتراك
بشدة. وقد ازداد الأمر حينما خصصت فرنسا يوم 24 ابريل من كل عام لإحياء ذكرى
الإبادة. الرد التركي كان قويا، حيث اتهمت تركيا فرنسا بأنها صاحبة تاريخ أسود في
أفريقيا إبان حقبة الإستعمار، قبل أن تقوم تركيا بمطالبة فرنسا بالكف عن محاولة انتقاد
غيرها من الدول. في الوقت ذاته، دعت تركيا المجتمع الدولي لإجراء تحقيق شفاف وعادل
حول ابادة الأرمن، مدعية أن لديها وثائق تثبت أن ما تم كان مجرد عمليات قتل غير
ممنهجة في إطار حرب ثنائية بين الأتراك والأرمن، لكنّ المجتمع الدولي لم يعر هذه
المطالبات أي اهتمام.
وتمثل
ليبيا أهمية استراتيجية لكل من فرنسا وتركيا على حد سواء. بالنسبة لأنقرة،
تعد ليبيا بوابة ترسيخ النفوذ التركي في شرق المتوسط، خاصة إذا وضعنا في الإعتبار
أن تركيا تخوض نزاعًا باردًا مع كل دول شرق المتوسط، بما فيها مصر وقبرص واليونان.
علاوة على ذلك، تأمل تركيا أن يمكنها اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع حكومة
الوفاق من قطع الطريق على أي محاولة من دول شرق المتوسط لتصدير الغاز إلى أوروبا.
وينبع ذلك من الإدراك التركي أن إيجاد سوق لبيع الغاز لا يقل صعوبة عن استكشاف
واستخراج الغاز في شرق المتوسط، خاصة أن العالم به العديد من الدول المصدرة. علاوة
على ذلك، تدرك تركيا أن تصدير الغاز لأوروبا بأسعار تنافسية سوف يزيد من النفوذ
التركي داخل القارة العجوز. على صعيد آخر، تدرك تركيا أن وجودها في ليبيا سوف
يمكنها من تقوية علاقاتها بدول المغرب العربي كمقدمة لمزاحمة فرنسا في مناطق
الصحراء والساحل الأفريقي.
بالمقابل من ذلك،
تمثل ليبيا نقطة هامة في للسياسة الفرنسية في أفريقيا؛ حيث تعد ليبيا بوابة لدول
الصحراء الأفريقية التي تعد مناطق نفوذ فرنسية. كما تعد ليبيا نقطة هامة لغاية في
ترسيخ النفوذ الفرنسي في شمال أفريقيا. وفقا لذلك، ترى فرنسا أن أي جود تركي على
الأراضي الليبية سوف يشكل تهديدا مباشرا لمناطق نفوذها التقليدية.
ثانياً- آليات المواجهة
تمتلك كلتا الدولتين
عضوية كاملة في حلف الناتو، الأمر الذي يقلل من احتمالية المواجهة العسكرية
المباشرة، لكنه لا يلغي فكرة الحرب بالوكالة التي تعد قائمة بالفعل على الأرض.
فرنسا من جانبها حاولت إثارة المخاوف الأوروبية من ازدياد النفوذ التركي في
المناطق الواقعة جنوب المتوسط، لكنّ الخطأ الذي وقعت فيه باريس دون أن تدرك هو
قيامها بالتنسيق مع الروس من أجل تحجيم النفوذ التركي؛ حيث قامت تركيا باستغلال هذا
الأمر وقدّمت نفسها للغرب على أنها دولة معادية للنفوذ الروسي في أوروبا. هنا تجدر
الإشارة أن أوروبا ترفض بشكل قاطع أي وجود روسي بالقرب من حدودها الجنوبية.
المحاولات الفرنسية
لتقييد النفوذ التركي في ليبيا لم تقتصر فقط على أوروبا، حيث حاولت فرنسا توثيق
علاقاتها مع دول الجوار الليبي فيما يخص الصراع في ليبيا. ففي زيارة لباريس الشهر
الماضي، أكد الرئيس التونسي قيس سعيد أن شرعية حكومة الوفاق هي شرعية مؤقتة يجب
استبدالها بأخرى دائمة، دون أن يحدد آلية واضحة لكيفية تعيين الحكومة الجديدة. وفي
نفس الصدد، أكد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في 4 يوليو أن حكومة الوفاق لم
تعد تمثل الليبيين، كما طالب بضرورة انتخاب مجلس رئاسي جديد. وفي يوليو 2020، خرج
الرئيس الجزائري ليؤكد دعمه لوقف إطلاق النار على خطوط التماس الحالية، كما أعلن
تقديم الجزائر لمبادرة سياسية من أجل التوصل إلى حل سلمي للنزاع وفق مؤتمر برلين
الذي عقد في يناير 2020.
على
المستوى الأوروبي، حاولت فرنسا استغلال حادثة تحرش البحرية التركية بفرقاطة فرنسية
من أجل دفع الإتحاد الأوروبي إلى اتخاذ موقف مضاد لسياسة تركيا في ليبيا، إلا أن
الناتو بعد التحقيق في الأمر لم يجد ما يستدعي اتخاذ قرار ضد تركيا. وفي نهاية
المطاف، قررت فرنسا الانسحاب من عملية إيريني المكلفة بمراقبة حظر توريد السلاح
إلى أطراف النزاع في ليبيا، لكنّ هذا الأمر لم يدفع الأوروبيون إلى تغيير موقفهم
من تركيا.
في
النهاية، لن يتوقف التنافس التركي الفرنسي لأنه تجسيد لتوتر العلاقة بين تركيا
والإتحاد الأوروبي؛ فكلا الطرفين يمتلك أجندات مختلفة رغم تلاقي المصالح المشتركة
في عدد من الملفات.
John Irish, AS ties fray, Turkey accuses France of
bias over Libya, Reuters, at:
France 24, Macron accuses turkey of playing a
dangerous game in Libya, at: