دوافع متعددة.. لماذا شنت تركيا عملية عسكرية جديدة على كرستان العراق؟
لا تزال القضية
الكردية تشكل معضلة حقيقية للقائمين على السياسة الخارجية في تركيا. فبعد حرب
استمرت أكثر من ثلاثين عامًا، حاول حزب العدالة والتنمية وضع حدا للنزاع المسلح مع
حزب العمال الكردستاني من خلال اتفاقية سلام داخلية يتم على إثرها دمج الأكراد في
الحياة العامة والسماح لهم بتولي مناصب قيادية في المؤسسات الحكومية، فضلا عن
السماح بتدريس اللغة الكردية في المدارس.
لكنّ هذا التفاهم لم
يتبلور أبدا إلى اتفاق حقيقي بين الطرفين، حيث لعبت الإنتخابات البرلمانية التي
عقدت في يونيو 2015 دورا هامًا في إعادة الأمور إلى نقطة الصفر؛ حيث فشل حزب
العدالة والتنمية لأول مرة (منذ 2002) في الحصول على الأغلبية البرلمانية، ما جعله
في حاجة إلى عقد تحالف مع الأحزاب الثلاثة الأخرى التي دخلت البرلمان من أجل تشكيل
حكومة ائتلافية.
رد حزب الحركة
القومية كان رفضًا قاطعًا بسبب تقارب العدالة والتنمية مع الأكراد، بينما حزب
الشعوب الكردي لم يقبل أن يتحالف مع العدالة والتنمية وفضل التقارب مع حزب الشعب
الجمهوري من أجل اسقاط حزب العدالة والتنمية، ما جعل أردوغان يدعو لإنتخابات
مبكرة، تم على إثرها فوز العدالة والتنمية بأغلبية مكنته من تشكيل الحكومة
منفردًا. لاحقا، قام الجيش التركي بشن هجمات جوية على المعسكرات التابعة
لحزب العمال الكردستاني، في إعلان جديد للحرب ودحض لكل محاولات السلام السابقة.
وفي هذا الإطار، تأتي
عملية "مخلب النسر" التي أطلقتها تركيا في 15 يونيو بشكل رسمي ضد حزب
العمال الكردستاني في شمال العراق بهدف إنشاء منطقة عازلة من أجل دفع التنظيم
الكردي لأبعد مسافة ممكنة عن الحدود العراقية التركية. وفي 17 يونيو، احتجت
الخارجية العراقية بشكل رسمي على العملية العسكرية التركية وقدمت مذكرة احتجاج
رسمية للسفير التركي في بغداد، لكنّ ذلك لم يكن كافيا لدفع أنقرة للتراجع.
أولاً- دوافع متعددة
تحاول تركيا استغلال
الأوضاع المتأزمة في الشرق الأوسط من أجل فرض أجندتها السياسية الخارجية في الدول
العربية الملاصقة جغرافيا لها. وبما أن العراق لا يزال يعاني على المستوى الأمني
كنتيجة حتمية للحرب على تنظيم داعش، الذي لا يزال تهديده موجودًا حتى هذه اللحظة،
فقد حاولت تركيا استغلال الأمر لصالحها من أجل توجيه ضربة مفصلية لحزب العمال
الكردستاني.
وفي ضوء ذلك، تهدف
تركيا إلى تشكيل منطقة عازلة على طول حدودها الجنوبية بمحاذاة كل من سوريا
والعراق، بهدف إبعاد الأكراد لمسافة لا تقل عن 30 كيلومتر، على أن تقوم لاحقًا
بإحداث تغيير ديموجرافي في هذه المنطقة بهدف تغيير في التركيبة السكانية لصالح
المواطنين العرب. وتهدف تركيا من ذلك إلى قطع الترابط الجغرافي الخاص بالأكراد،
الأمر الذي يجعل أكراد تركيا بمعزل عن أكراد العراق وسوريا.
ولا يخفي على أحد أن
تدعيم الوجود العسكري التركي في شمال العراق هو هدف رئيسي؛ حيث أعلنت تركيا عن
اعتزامها إنشاء عددا من القواعد العسكرية الدائمة في شمال العراق، في انتهاك واضح
للسيادة العراقية، بحجة مواجهة حزب العمال الكردستاني، دون أن تشير التصريحات
الرسمية إلى احداثيات هذه القواعد أو عددها.
من الجدير بالذكر أن تركيا
تمتلك حاليا نحو 10 قواعد عسكرية غير دائمة في شمال العراق، ما يؤكد أن الأمر لا
يتعلق بمواجهة حزب العمال الكردستاني بقدر ما يتعلق بتدعيم النفوذ التركي في
الشمال العراقي بصفة عامة. علاوة على ذلك، سوف تمكن هذه القواعد، في حالة انشائها،
تركيا من لعب دور لوجستي في العمليات العسكرية للجيش العراقي في هذه المنطقة
مستقبلا، ما يعد نفوذا مباشرا لتركيا على العراق في أمر سيادي. كما قد تشكل هذه
القواعد نقطة انطلاق لتركيا من أجل ممارسة دور استخباري فعّال في شمال العراق، على
أن يتعدى هذا الدور حدود مواجهة حزب العمال الكردستاني.
ولأن النفط والغاز
يعدان نقطة محورية في النزاع الكردي مع العراق، فإن تركيا تهدف لاستغلال وجودها العسكري
من أجل تدعيم استثمارها في مجال الطاقة داخل الإقليم، الأمر الذي يمكنها من فرض
رؤى سياسية على إدارة الإقليم الذي يتمتع بحكم ذاتي. من الأهمية أن نشير هنا أنه
في أعقاب إعلان إقليم كردستان الاستقلال عن العراق في 2017، قامت تركيا بإيقاف
صادرات النفط الكردي الذي كان يتم تصديره للخارج عبر ميناء جيهان التركي، وذلك
بالتنسيق مع الحكومة العراقية. لكنّ، أنقرة في الوقت ذاته، كانت متخوفة من أن
يتمكن أكراد العراق من تصدير نفطهم إلى الخارج عبر سوريا، خاصة أن الإقليم كان
أنذاك ينتج قرابة 600 ألف برميل يوميا. ويؤكد ذلك أن الغزو التركي للأراضي
الشمالية من سوريا لم يكن عبثيا، بل جاء وفق خطة مدروسة تهدف لمحاصرة الأكراد في
كل من العراق وسوريا.
في الوقت ذاته، يرغب
حزب العدالة والتنمية بتدعيم تحالفاته الداخلية مع حزب الحركة القومية ( يميني
متطرف معادي للأكراد)، فضلا عن تعبئة النزعة القومية لدى المواطنين الأتراك من أجل
دفعهم للتغاضي عن التراجع الذي أصاب الإقتصاد التركي مؤخرًا بفعل تراجع قيمة
العملة المحلية. ولا يخفي على أحد أن مجرد إشغال الجيش التركي بحروب خارجية في عدد
من الدول كفيل بتحويل أنظاره بعيدا عن مجريات السياسة الداخلية، ما يقلل من
احتمالية حدوث انقلاب جديد على النظام الحاكم.
كما تعي تركيا ضرورة
استغلال وجودها في العراق من أجل اقامة أواصر صلة قوية مع الشعب الكردي، في محاولة
لضرب الحاضنة الشعبية لحزب العمال الكردستاني.
ثانياً- انعكاسات محتملة
من المتعارف عليه أنه
في حالة قيام أي دولة بعملية عسكرية خارج حدودها، فإن ذلك قد يكون سببا في زيادة
الالتفاف الوطني حول الحزب الحاكم. لكنّ الأمر في تركيا قد يأتي بنتائج عكسية خاصة
إذا امتدت العملية العسكرية في اقليم كردستان العراق لوقت طويل دون أن تحقق
أهدافها المرغوبة، الأمر الذي سوف يشكل استنزافا للاقتصاد التركي الذي يعاني
بالفعل من إشكاليات كبيرة تتعلق بقدرته على جذب المستثمرين في ضوء تراجع قيمة
التصنيف الائتماني للاقتصاد الوطني.
على صعيد آخر، من
المتوقع أن تأتي عملية" مخلب النسر" بأثر مضاد على الكتلة التصويتية
التركية ذات الأصول الكردية، الأمر الذي قد يسهم في زيادة التقارب بين الأكراد
وحزب الشعب الجمهوري. هذا الأمر، في حالة تحققه، فإنه سوف يشكل معضلة حقيقية أمام
حزب العدالة والتنمية في الإنتخابات المقبلة، خاصة بعد أن برهنّ الأكراد قدرتهم
على حسم المعرك التصويتية الهامة (حدث هذا الأمر في الإنتخابات المحلية في
اسطنبول، حيث لعبت أصوات الأكراد دورا هاما في ترجيح كفة أكرم أوغلو على بن على
يلدرم).
علاوة على ذلك، سوف
تسهم هذه العملية في تقوية الشراكة والتعاون بين تركيا وإيران في مواجهة الملف
الكردي. فكلتا الدولتين يتشاركان نفس الرؤى بخصوص منع الأكراد في العراق من إقامة
دولة مستقلة بين الطرفين، لكنّ اقامة قواعد عسكرية تركية دائمة في العراق سوف تكون
نقطة خلافية لأن تشكل تهديدا مباشرا للنفوذ الإيراني في العراق.
في الوقت ذاته، عدم
نجاح العملية التركية في تحقيق أهدافها أو انتقال المعارك إلى جنوب شرقي تركيا سوف
يقلل من المشاريع التنموية التي تقوم بها الحكومة من أجل استقطاب الأكراد وتعزيز
الشعور القومي لديهم، الأمر الذي سوف ينعكس سلبا على أداء حزب العدالة والتنمية في
الإنتخابات القادمة.
كما قد تسهم العملية
العسكرية التركية في اضافة زخم جديد إلى العلاقات بين أنقرة وواشنطن، خاصة إذا
تمكنت أنقرة من تسويق وجودها في كردستان العراق واظهاره كوسيلة لزيادة نفوذ الناتو
ضد ايران في المنطقة.
في النهاية، يتضح أن
تركيا تتخذ من محاربة حزب العمال الكردستاني وسيلة لتعميق نفوذها في شمال العراق
وتشكيل منطقة عازلة بهدف عزل الأكراد الأتراك عن الأكراد العراقيين. ومن هنا، يجب
على جامعة الدول العربية أن تتخذ موقفا حاسما من التدخلات التركية المتكررة في
الدول العربية وانتهاكاتها لسيادة الدول الأعضاء.
المراجع
-
The Defense Post, Turkey hits PKK in Iraq:
Why now and how far could it go? https://www.thedefensepost.com/2020/06/18/turkey-pkk-iraq/
- DW, Turkey launches offensive against Kurdish rebels in Iraq:
https://www.dw.com/en/turkey-launches-offensive-against-kurdish-rebels-in-iraq/a-53838078