ملخص
يتناول هذا المقال قضية الدين في ظل تحدي كورونا. ويتطرق
إلى الظاهرة الدينية كظاهرة فردية قبل ان تكون جماعية أو مؤسساتية مفترضا ان مستجد
كورونا سيقود إلى إعادة بناء معنى الدين في الواقع الاجتماعي الاسلامي.
الغرض من هذا المقال هو إبراز الطبيعة الذاتية للدين
اولا وخضوعه للتاريخ ثانيا. مع لفت الانتباه الى أن محاولات تسييج المعتقد
الإسلامي داخل تأويليات ماضوية ولا زمانية أساسي في صعوبة التجديد في الفكر الديني
الإسلامي وبناء قراءات جديدة؛ بعيدا عن التكرار اللامتناهي للقراءات اللاهوتية. ولعل
كورونا يمثل صدعا في ذلك الانغلاق على التطور.
كلمات مفتاحية
الدين-المجتمع-الفرد-المعنى-البناء.
مقدمة
فرض فيروس كورونا وما رافقه من تباعد اجتماعي الغاء
الصلوات الجامعة في المساجد. واستمر الوباء ليحرم جموع الصائمين من اقامة صلوات
التراويح في اغلب البلاد الاسلامية. وهذا ما استنفر الوشائج الدينية مؤكدا ان العالم
الاسلامي يتشكل داخل جدل الدين.
فكيف لكورونا ان يكون فرصة لإعادة بناء معاني الدين في
المجتمع الاسلامي؟
إلى اي حد أسهم هذا الوضع في فتح النقاش حول الطقوسية في
الاسلام؟
وكيف لوباء ان يسهم في إعادة بناء فهم جديد للدين؟
نقترح لهذا الغرض قراءة تزاوج بين الاجتماعي،
الأنثروبولوجي والهيرمينوطيقي كون الظاهرة الدينية ظاهرة مركبة محاطة بسياج من
الرهبة والتقديس بالأخص في العالم الإسلامي. ستسمح لنا المناولتان السوسيولوجية والانثربولوجية
بالاشتغال على الظاهرة الدينية في عموميتها. اما القراءة الهيرمينوطيقية فتتيح امكانية
بناء المعنى بعيدا عن أي تسييج منهجي. سنحاول ان نقدم لبعض القراءات التي تعرضت
لمفهوم الدين دون ان نستدعي استيفاءها. لا يهمنا من هذه القراءات الا ما تقدمه من
تحديدات لإشكالية التدين في الواقع الاسلامي.
أولاً- بين
الدين ودلالاته
الدين تشبيك مفهومي جامع دون ان يكون مانعا ،اذ يفترض امتدادات
عديدة. اذ لا ينفصل الدين عن: المعتقد، العقيدة، التدين، الايمان، التسليم،
الشريعة، المقدس، الاسطورة......وعليه فإن كل اشتغال على الدين يجد نفسه ملزما
باستدعاء مفاهيم ثانوية هي في حد ذاتها موضوع مساءلة تأويلية، لينتهي الاشتغال على
الدلالات دون الوصول إلى بناء المعنى. لذلك فالدين قد يكون مفهوما يستلزم التصنيف
قبل التأويل، بمعنى الحسم مع الدلالات قبل الإشكالات. وان كان هذا التشابك الدلالي يذهب في اتجاه
تأكيد تعقيد الظاهرة الدينية.
لغويا
في لسان العرب تحتمل كلمة دين معاني كثيرة. فهي تدل تارة
على: الجزاء، الحساب، العادة، وتارة أخرى على: الطاعة، الملة، الغلبة، القهر...تعدد
الدلالات وتشتتها قد يؤشر للطبيعة المركبة المفهوم ووتيرة تداوله في سياقات متنوعة.
في الفرنسية ترتبط كلمة دين كما يعرفها قاموس Larousse
بمعاني متعددة منها: الدين
بوصفه "مجموع المعتقدات والعقائد التي تحدد علاقة الانسان بالمقدس". انه أيضا: "مجموع الممارسات والطقوس
الخاصة بمعتقد ما". وهو كذلك: «انتماء عقدي وايمان". نجد لمفهوم الدين
في اللسان الفرنسي نفس التشتت الدلالي.
في الانجليزية، معجم اوكسفورد هو الاخر نلمس فيه نفس
تعدد المداخل. يتعلق الدين: ب:” فعل او سلوك، اعتقاد، طاعة او خضوع لإله او
الهة او أي قوى خارقة. التزام بطقوس دينية او مراعاة لها". في مدخل آخر يتعلق الدين ب:"ايمان او اعتراف بقوة او قوى
خارقة يتمظهر من خلال الطاعة، المراعاة، التقديس، العبادة. هذا الاعتقاد يحدد ضوابط
العيش بغرض جعل الحياتين
الروحية والمادية أفضل ".
ما تسمح باستنتاجه هذه القراءة الأولى لمفهوم الدين على
مستوى التداول اللغوي ان: الدين يجمع بين بارديجمين: -الاعتقاد الجواني. والفعل
البراني. إلى جانب كونه يفترض علاقة عمودية بين طرف إنساني وآخر فوق إنساني. بهذا
المعنى يتأطر الدين داخل المجال الجماعي وهذا ما يبيح المناولة السوسيولوجية اولا والانثربولوجية
لاحقا.
سوسيولوجيا
على مستوى مقاربة العلوم الإنسانية، تطور مفهوم الدين في
الثقافة الغربية وتحرر أبستمولوجيا من سلطة اللوغوس اللاهوتي إلى رحابة التأويل المتنوع.
مما سمح بتعدد المقاربات وأمكن بكل تأكيد بناء فهم أوضح عن المكون الديني للإنسان الغربي.
وان كانت هذه القراءات في اغلبها ما تزال تتنازع حول مشروعية نمط الوجود الديني للإنسان.
وقد يكون في ذلك تعبير عن بقايا لصراع اللاهوت والعقل التنويري ومشروعه الحداثي.
وانتصار للذاتية على حساب موضوعية جافة.
شكل مفهوم الدين قضية دسمة لعديد من مدارس العلوم
الإنسانية بدءا بعلم النفس، السيسيولوجيا، سوسيولوجيا الدين، الاتنولوجيا والأنثروبولوجيا....
وان كان الدين لم يفارق الهم الفلسفي منذ بداية الفكر الانساني دون أن يكون
قضيته الأولى معبرا عن صراعات اللوغوس و الميتوس ،صراعات الأرض و السماء .وتعددت
مقاربات الدين في الفلسفة الغربية مفصحة عن استعصاءه الإشكالي .
ومهما يكن فقد انطلقت العلوم الإنسانية في بدايتها الوضعية من تشخيص إنكاري لمشروعية
المكون الديني مبشرة بنهاية الدين مع س. فرويد (S. Freud) وزوال سحر الدين
Entzauberung der
Welt مع ماكس فيبر Max Weber).) قبل ان تنتقل لاحقا إلى الإقرار بأن "الدين مقاوم
للموت". (Lacan.1974).و" ان العالم متدين اكثر من ذي قبل)” 2001 .(.Berger.
ورغم هذا، لنلق نظرة على بعض هذه القراءات. نقف بداية
عند المقاربة السوسيولوجية و نقول مع القراءة الوضعية لأوغست كونت (Auguste Comte)بأن الدين: "حالة الوحدة المتكاملة التي تميز وجودنا،
الفردي و الاجتماعي، عندما تتجه كل هذه العناصر الأخلاقية و الفيزيائية ،عادة نحو مصير مشترك ".بهذا المعنى
فالدين توليف فيزيائي- اخلاقي- اجتماعي .انه بناء إنساني دون متعالي. هو "دين
الانسان".
(Comte.1966)
قراءة كونت احياء للفيتيشة كما يصفها بوتروEmile.Boutroux) (اذ يرى انها سعت الى تأسيس دين الإنسانية الذي ينطلق من
المحسوس نحو المجرد مع اعتبار الانسان
مقياسا لكل شيء.((Boutroux.1973.
بخلاف
القراءة الطوطيمية للسوسيولوجي الفرنسي اميل دوركايم ((E.Durkheimالتي تميل الى اعتبار الدين: " نظاما تضامنيا لمعتقدات و ممارسات مرتبطة بالمقدس ،اي
معزولة ،محرمة ،معتقدات و ممارسات توحد جماعة أخلاقية تنتمي لما يسمى كنيسة "(Durkheim.2008).بهذا
المعنى يربط دوركايم بين الظاهرة الدينية و المجتمع .فهي من
منظوره شأن اجتماعي غايته تماسك المجتمع . وتثير ايضا
قراءة دوركايم الانتباه للشق المؤسساتي في الدين. حيث تحول الدين من الاعتقاد
الفردي الى التنظيم داخل مؤسسة تلعب دور الوصي على طقوسية الدين. ما يمكن استخلاص من المناولة السوسيولوجية ان الدين ظاهرة
فردية تتحقق داخل جماعة وينطلق الدين كفعل جماعي من الانتماء لمشروع عقدي لجماعة
ما اولا والتسليم بمشروعها الأخلاقي مع الالتزام به سلوكيا. هو اذن فعل انتماء.
في سوسيولوجيا الدين يميز الاب المؤسس لوبرا ( G.Le Bras)
في قراءته التصنيفية بين اشكال متعددة من
الفعل الديني بناءا على انتظامه .فنجده يتحدث في درجة أولى عن :المتدين المداوم
،المتدين المناسباتي، المتدين الموسمي ،المتدين
الظرفي... (Le
Bras,1955)
ما يهمنا من هذا التصنيف هو الوقوف عند الانتقال
البارديجمي من الدين كفعل جماعي إلى التدين كفعل إرادي فردي يفترض القيام بالفعل
أو الامتناع عنه مع التركيز على الجانب الطقوسي فيه. معناه بالأساس ان الدين يتشكل
ضمن بنية الانا قبل بنية النحن لكنه لا يأخذ معناه الكامل الا ضمن الفعل الجماعي.
قد يعترض البعض على قراءة المدرسة السوسيولوجية الفرنسية
للظاهرة الدينية نظرا لإلحادها المنهجي، تطرفها الموضوعي ومنشآها الاثنولوجي رافضا
إسقاطها على واقع الدين الإسلامي المتفرد.
دون الدخول في تفاصيل قد تجرنا بعيدا عن إطار تساؤلنا
كان لابد ان نقف عند هذه القراءة رغم بطانتها الأيديولوجية كونها اجتهادا مؤسسا في
دراسة الظاهرة الدينية. لذاك كان لا يد من استدعاء المدارس الانثربولوجية الأنجلوسكسونية
والتي شهدت في بدايتها نفس المسار الانكاري للدين قبل ان تتحول مع بدايات ستينيات
العقد الماضي الى قراءة اقل حساسية من المعطى الديني أو إلى ما يسميه :Maurice Bloch قراءات
بينذاتية intersubjective)).اي قراءات لا تلغي
التمركز الذاتي للباحث .هذا الاختلاف المنهجي بين السوسيولوجيا
الفرنسية و الأنثروبولوجيا الأنجلوسكسونية قد يبرر ثراء هذه الأخيرة من جهة و غنى
مباحثها من جهة أخرى .فالمقاربة الأنجلوسكسونية هي بالأساس تطورية
.
أنثروبولوجيا
تنطلق القراءة الانثربولوجية من الاعتراف بتلقائية التدين
في الإنسان في ظل مبدا السببية الطبيعية وان كانت تتناول الدين بالأساس من زاويتي
التأسيس والطقوسية. وهذا ما ذهب إليه منهج هربرت سبنسر اللاادري (Herbert Spencer (للقول
بأن الدين ينتمي الى فئة المجهول Category of unknowable: ؛ كونه ينطوي على عديد مما لا يمكن معرفته معرفة حقيقية موجبة و محسوسة . رابطا بين الدين والمطلق الذي يتجاوز الفهم الإنساني.
لينتقل بعد ذلك سبنسر للبحث في لحظة النشأة أي الواقعة الأولية لظهور الدين مصرحا
بان " الدين بدأ كعلاقة بالأسلاف”. وفي ذلك
نفي لكل خوارق الطبيعة. وعليه يكون الدين من منظور سبنسر: «النمو
الطبيعي-المطابق للقانون العام للتطور-لواقعة اولية وطبيعية أيضا Boutroux)” 1973.). هكذا ينتقل هربرت سبنسر من مبدا اللادري نحو مبدا التطور في
قراءته لتشكل الظاهرة الدينية. فالدين كمعطى انساني ارتهان للماضي.
في هذا الاطار يميل بلوش Maurice Bloch في مناولة راهنة للظاهرة الدينية إلى اعتبار
ان: " الدين ليس جوهريا في الحياة الانسانية لكنه مركزي " .انه خاصية مميزة للكائن البشري رافضا ذلك التقابل بين الانسان البدائي و بعض
أصناف القردة كما هو الشأن في بعض القراءات الانثربولوجية المتأثرة بالداروينية .هذا من جهة أولى
،و من جهة ثانية فهو تعبير عن
قدرة خاصة بالإنسان لتخيل عوالم أخرى في
إطار ما يسميه بلوش : "عملية تأقلم للإنسان
مع الواقع" و التي تشكل البناء الأساسي للمجتمع. انه تأقلم عصبي neurological adaptation لا يستبعد منه بلوش دور الخيال.
ليكون الدين من منطلق قراءة بلوش المعاصرة: "اجتماعيا متعاليا “social transcendental. يقابله "اجتماعي تعاملي social
transactional ". وهذا
الاجتماعي المتعالي هو ما يميز صنف الانسان عن صنف القردة المستغرقة في وجود
تعاملي فقط. ذلك ان الوجود الاجتماعي الإنساني وجود مزدوج تعاملي ومتعالي. ليخلص
بلوش الى ان الواقع الأنثروبولوجي للإنسان يتشكل داخل جدلية المتعالي-التعاملي.لكن
المتعالي لا يأخذ معنى غيبيا او ميتافيزيقيا بل هو نتاج علاقة "ميت وحي".
انه يتأسس ضمن عبادة للأسلاف" “ancestor worship.(بلوش.2008)
وفي الشق الثاني من مناولته
للظاهرة الدينية يؤكد بلوش على ذلك التداخل بين المتعالي الاجتماعي (أي الدين) والدولة
لافتا الانتباه الى دور أطماع السلطة والحكم في مأسسة الظاهرة الدينية.
وعليه، فان الدين تعبير عن ازدواجية
الوجود الإنساني كوجود متعالي عمودي يتجه نحو الماضي ونحو اللحظة الأولى المؤسسة
ووجود افقي علائقي يتجه نحو الاخر الإنساني ضمن زمانية الحاضر.
المقاربة الانثربولوجية وضعتنا
أمام أسئلة قرائية جديدة تتعلق بارتباط الدين بالخيال، بالتاريخ وبالسلطة. وحتى لا
نطيل في متاهات الامتدادات المفاهيمية ونغرق في إشكالات أكبر نقتصر على ربط الدين
بمعنيي الفعل والاعتقاد في هذه المرحلة من التحليل.
هيرمينوطيقياً
في تعريفه لمفهوم الدين يبتعد شلايرماخر عن الدلالات الموضوعية
التي تربط الدين بالمتعالي أو بتأليه ميتافيزيقي أو حتى منظومات أخلاق وقيم. في رفض صريح من قبله لموقف العقل
التنويري من الدين. ويرى
بالمقابل ان الدين ينطلق من معنى ذاتي إنساني. يكتب شلايرماخر في" Über die Religion » عن الدين : " و الدين هو الإحساس بالتواصل مع المطلق. والطعم
اللانهائي للمعنى. ولا يتحقق فهم الدين من دون كمال هذه الدائرة". ليضيف مسترسلا مخاطبا منتقدي الدين من التنويرين: «أقول هل تتذكرون ان كل تصور او ولوج لعوالم الدين مرتبط بشكل او
اخر بالشعور. اعضاؤكم الجسمانية هي التي تتوسط العلاقة بينكم وبين
الأشياء..." (شلايرماخر.2017)
عند شلايرماخر يتعلق الدين بالشعور (Gefühl) كإحساس بالوجود في العالم "من هنا تأتي ضرورة
حضور الدين فيه يتسنى للإنسان تقبل فكرة انه جزء من الكل. ويكون المحدود او
النهائي ماثلا امامه. كما لو انه مطلق لا متناه."
ثم يربط شلايرماخر الدين بالحدس
(Anschauung). هذا الحدس لا يتعلق لا بفكر ولا بفعل. بل
هو حدس منفتح على الكلي المطلق الخير والجمال. ليعود شلايرماخر إلى معنى التجربة الذاتية.
يكتب شلايرماخر: "الدين هو التجربة الفورية المثقلة بالوجود والأفعال
الكونية." ."
هكذا ينفي
شلايرماخر عن الدين تلك الموضوعية الجافة ويعود به الى معناه الانطولوجي كتجربة
انفعالية تنفتح من خلالها الذات على المطلق لا عن طريق التحليل العقلي وانما كشعور
وحدس. نقرا عند شلايرماخر " ان من يدرج فهم الدين بنهج. ووفقا لمبدأ وغاية
ثابتة. ويحاول ان يضفي على الوجود نسقا من المعالم الثابتة. فهو انما يقوم بمحاصرة
سيرورة عملية التأويل والفهم وتحجيمها. ويدخل من حيث يدري او لا يدري في مواجهة
مستمرة مع كل ما لا ينسجم وايقاعه فيعده نشازا مثيرا للاشمئزاز". يبدو
اذن ان الدين من منظور شلايرماخر يتجاوز حدود العقل الأداتي ويستعصي على منهج
التفسير الموضوعي. ليكون منشأ الدين هو روح الإنسان Gemüth في المقاربة الهيرمينوطيقية
لشلايرماخر. انه الطريق الى الحقيقة «فالدين مدخل لكل الصور التي تفتح أبوابها
على الحقيقة والوجود والبعد اللانهائي". (شلايرماخر.2017)
يذهب شلايرماخر
للقول بذاتية الحقيقة وعليه يعارض صراحة مطالب الموضوعية في الدين والإيمان.
فالدين هو الذاتية، وفي الذاتية وحدها توجد الحقيقية طالما ان "جوهر ما
ينهض به الدين هو معالجة سؤال الوجود وعلاقة الانسان بروح الكون". سؤال
الدين هو بهذا المعنى سؤال وجودي. والدين ما هو الا تمظهر للذات في العالم عبر تجربة الايمان.
والقول مع شلايرماخر بان الدين شعور حدس وتجربة ذاتية
يعيده الى زاوية الخاص والفردي ويخرجه من تقييد الطقوسية الجماعية او التوجيه الاجتماعي.
فما ركزت عليه كل من المقاربتان السوسيولوجية والانثربولوجية هو الانطلاق من
الجماعة أولا للعودة الى الانسان الواحد ثانيا. خلافا لقراءة الهيرمينوطيقا مع
شلايرماخر والتي اعادت للدين معناه كتجربة فرد قبل ان يكون مظهرا لتنشئة جموع او
تنميط لأفعالها ومعتقداتها.
وعليه يأخذ الدين كامل معناه الأنطولوجي والوجودي مع
المقاربة الهيرمينوطيقية ويصبح شكلا من اشكال فهم الانسان للعالم ومعنى من معاني
الوجود.
فأي معنى للدين في العالم الإسلامي؟
ثانياً- الخصوصية الاسلامية
في الفكر الإسلامي مسألة الدين كإشكال نظري تخضع لتسييج
منهجي صارم مثير لنعرات المدارس والانتماءات المعرفية بل وحتى المذهبية. وهذا ما
يبرر تخبط القراءات المعاصرة لمفهوم الدين من جهة، هيمنة
تأويلات خاصة (أصولية غالبا)، الإسقاط المتسرع لاستنتاجات مدارس الغرب من جهة، أو الوقوف
عند قراءات محتشمة مترددة أو أخرى جريئة لكن دون أن تستثمر مشروعها النقدي كما هو
الشأن بالنسبة لمحمد عابد الجابري، محمد اركون، حسن حنفي، عبد الله العروي، مالك
بن نبي أو ابو يعرب المرزوقي... علما ان المناولة النقدية لإشكالات الدين مع ابن رشد،
ابن باجة، ابن سينا، ابن مسكويه أو حتى ابن الرواندي كانت أكثر جراءة وعمقا. ولعل
حصار منطق الفقه على منطق العقل في العالم الإسلامي يبرر لهذه الانتكاسة المعرفية.
لنقول بان مقاربة المسلمين النقدية للدين وفقا لمناهج العلوم الإنسانية تعتريها
صعوبات جمة وتعترضها عراقيل منهجية وأيديولوجية. لكن هذا لا يعني انغلاق المعطى
الديني الإسلامي على المقاربة النقدية بقدر ما يعبر عن حساسيات فكرية ترى في
القراءات النقدية شكوكية هدامة.
وعموما إذا أردنا
ان نبدأ حديثنا عن الظاهرة الدينية في معناها الإسلامي سننطلق من حيث بدأ محمد
اركون في كتابه: «القران.
من التفسير الموروث الى تحليل الخطاب الديني". يقر اركون في بداية كتابه
بأن هناك كثيرا من اللامفكر فيه في الفكر الإسلامي مناديا بضرورة إعادة قراءة
الخطاب الديني انطلاقا من زاوية العلوم الإنسانية. ويعترف اركون بسيادة "عقيدة
تبسيطية" في الفكر الإسلامي مع مطلع القرن العاشر مسؤولة عن انغلاق التفكير
في الدين من زاوية التطور والتغير. بل ويذهب اركون التأكيد على أن "الإنتاج
في علوم الإنسان والمجتمع لايزال قليلا في هذه المجتمعات الإسلامية، بل ولا يزال
سطحيا مقلد ا، بعيدا عن الإبداعات والتحولات والطفرات". (اركون.2005) دون أن تكون هذه القراءات مسا بمشروعية
الخطاب الديني أو بمحتواه بقدر ما هي انتقال ابستيمولوجي. فالدين الاسلامي من
منظور اركون اسير قراءة أولى تحولت الى سلطة معرفية متعالية على النقد والتجديد.
نفس الموقف نجده عند معاصره محمد عابد الجابري الذي يميل
هو الاخر للتأكيد على ان الفكر الإسلامي مرتهن للحظة تاريخية ترتبط بعصر التدوين ومطالبته
ببناء سردية نقدية عن الموروث العربي الإسلامي. فاذا كان شلايرماخر ينتقد أداتيه
العقل التنويري الغربي فان الجابري بدوره ينتقد لازمانية العقل العربي ضمن ما يسميه
هو زمن الثقافة؛ مصرحا بان أشياء كثيرة لم تتغير في الثقافة العربية منذ الجاهلية
الى اليوم تشكل في مجموعها ثوابت هذه الثقافة وتؤسس بالتالي بنية هذا العقل الذي
ينتمي اليها. (الجابري.2009)
وفي ظل غياب مقاربات العلوم الإنسانية
للظاهرة الدينية في الواقع الاسلامي المعاصر ستظل إشكالات من قبيل صعود التطرف، الاستلاب
الفكري، التعصب العقدي، الجهل المؤسس…راهنة ومستعصية.
3- وكورونا؟
فرض التباعد الاجتماعي للحد من انتشاره الوباء الغاء
الصلوات الجامعة في المساجد بل وحتى في الحرم المكي. فأوصدت أبواب المساجد
دون أن توصد أبواب العبادات. وشكل هذا القرار السياسي ذو البعد الصحي زعزعة لثوابت
اجتماعية. فقد تعود المسلمون ان تجمعهم جنبات المعابد وبالأخص في رمضان حيث يكثر المؤمنون
المناسباتيون كما رأينا سابقا مع Le Bras.
ومع كورونا غابت الطقوسية الجماعية وظلت العبادة الفردية.
لقد تعود المسلمون ان لا يأخذ الإيمان معناه الا داخل المنظومة الاجتماعية ولا
يتحقق إلا كفعل انتماء. اذ اختزلت الظاهرة الدينية في بعدها الاجتماعي وهي
في غالبها طقوسية
شكلية. لكن التباعد الاجتماعي فرض
العودة إلى فردية الفعل. لقد أعاد كورونا إلى الأذهان فكرة الدين كتجربة فردية وليس
مجرد موروث اجتماعي وهو ما ساهمت في تكريسه العقيدة التبسيطية التي ادانها محمد
اركون.
زد على ذلك أن كورونا نبه المسلمين إلى زمانية الدين وخضوعه
لمنطق التحول. فالدين لم يتشكل الا ضمن حقبة تاريخية وعليه فان فهم الدين سياقي تأويلي.
فالظاهرة الدينية إلى جانب كونها ظاهرة سوسيولوجية انثربولوجية وهيرمينوطيقية هي
أساسا ظاهرة تاريخية. وعليه فهي تخضع لمنطق التحول والتغير. لهذا لا يعقل أن تقف تأويلات
الظاهرة الدينية وقراءاتها عند الثابت دون أن تتعداه للمتحول. فمسلمو اليوم يعيشون
في سياف عولمة حداثية، فردانية، تكنولوجية...تشهد فائضا في المعرفة من جهة واباحية
لضوابطها من جهة أخرى. وهذه الاطلاقية في الفهم والتأويل التعسفي من شأنها أن تعزز
من ادلجة الخطاب الديني كما خطاب منتقديه. ولن تكون الضحية الا الحقيقة.
على المستوى الابستيمولوجي، شجع هذا المستجد الوبائي العودة
إلى نبش الماضي بغرض الوقوف عند أحداث مشابهة في تاريخ الإسلام تؤكد أن إغلاق
المساجد وإيقاف الصلوات فيها لا يشكل ظاهرة فريدة. وفي هذا تعزيز للقراءة
التاريخية للظاهرة الدينية وان كان من المفترض فيها ان تتحرر من منطق العبرة والنموذج
نحو الفهم والنقد. قراءة التاريخ إنما تقتضي أساسا فهم ترسباته في الحاضر. ولان
حاضرنا مرهون لماضيه فالقطع مع خطاب الموعظة التاريخية أساسي للانتقال من لحظة التأسيس
إلى لحظة النقد والتحليل. اذ لا ينبغي أن تكون قراءتنا للظاهرة التاريخية قراءة
التاريخ بل قراءة للراهن.
من جهة ثانية، تحولت العبادة من الشأن العام وما يرافقه
من "تعاملي اجتماعي " إلى الشأن الخاص. فانتقلت مسؤولية الواجب الديني من
تبعية الجماعة والحشد إلى مهمة فردية. فتحقق معنى الدين كفكرة ذاتية وكفعل فردي.
بهذا المعنى يكون التدين الفردي الذي فرضه مستجد كورونا ليس الغاءا للآخر أو تطرفا
فردانيا بقدر ما هو إعادة بناء للدين كفعل
ايمان فردي قبل ان يكون التزاما اجتماعيا.
تركيب
وإن كان الكل يجمع على أن ما بعد
كورونا لن يكون كما قبلها، فإن هذا لا يعني بالضرورة تحولا جذريا في النظام البشري،
بقدر ما يؤشر لبداية معنى جديد عن الوجود، عن المجتمع وعن الذات. وليس المشكل في
كورونا بقدر ما هو في التباعد الاجتماعي والانتقال من وجود مع الحشد والآخرين إلى
وجود بعيدا عنهم. الغت كورونا امكانات التقارب والتواصل الجسدي مع الأشباه لكنها
احيت امكانات التواصل مع الذات. وكأنها أوقفت الظهور وأطلقت العنان للكينونة. ولم
يسلم الدين هو الآخر من امتحان كورونا. ولأننا أكبر الممتحنين كوننا أكثر شعوب
العالم من حيث نسب التدين فإن كورونا شكل استنفارا لمسلماتنا وثوابتنا الاجتماعية
بالأساس. أدركنا مع كورونا ان الدين ليس منغلقا على الزمن وعلى التغير وانه شأن
فردي قبل ان يكون رباطا اجتماعيا.
ومهما يكن، قد لا يحق لنا أن نأمل في قطيعة إبستمولوجية مع تأويلات نكوصية في ظل الصراع الأيديولوجي بين خطابات الأصالة والأصولية وخطابات التجديد.
فكيف ننتقل من التعلق العاطفي الانفعالي إلى التحليل
العقلي الابستيمولوجي المعطى الديني في الواقع الاسلامي؟
كيف لنا ان ننتقل
من القراءة الأيديولوجية إلى البحث الابستيمولوجي؟
كيف نجنب قراءتنا للظاهرة الدينية متاهات تأويلية؟
وكيف نتجاوز مأزق الموضوعية في الظاهرة الدينية؟
مراجع
-https://www.larousse.fr/dictionnaires/francais/religion/67904
-https://www.oed.com/viewdictionaryentry/Entry/161944
-Lacan.J.(1974) .Conférence de presse du docteur Jacques
Lacan au Centre culturel français, Rome. Les Lettres de l’École freudienne(1975).n°
16. (p. 6-26)
-Berger.P .le réenchantement du monde.Bayard.2001
-Comte.A.(1966) .Catéchisme
positiviste. (p 59) Paris :
Arnaud. Garnier-Flammarion.
- Bourdeau. M.(2003). Revue des sciences
philosophiques et théologiques .Tome 87.( p 5- 21)
- Durkheim.E.(2008)
Les formes élémentaires de la vie religieuse. Le système totémique en Australie.(p65-48).Paris :PUF
- Le Bras.G.(1955) Études
de sociologie religieuse. Tome I. Sociologie de la
pratique religieuse dans les campagnes françaises. Broché.
-BLOCH.M.(2008).Why religion is nothing special but is central . Philosophical
Transactions of the Royal Society B: Biological Sciences no 363/1499. (p. 2055-206)
-بوتر.ا. )1973(العلم والدين في الفلسفة المعاصرة. الهيئة المصرية للكتاب.) ص.64 .53 79.76. 84.)
-
Swenson .D.F.(1905).The Category of the Unknowable.The Journal of
Philosophy, Psychology and Scientific Methods, Vol. 2, No. 19(p505-512), Published
by: Journal of Philosophy, Inc. Stable URL:
https://www.jstor.org/stable/2011478 Accessed: 29-04-2020 10:00 UTC
- شلايرماخر. ف. )2017( عن الدين .خطابات لمحتقريه من المثقفين.
. )18.7.8ص(. بغداد .دار التنوير .
-محمد اركون. (2005)
القران من التفسير الموروث الى تحليل الخطاب الديني. لبنان: دار الطليعة.
-محمد عابد الجابري(2009). تكوين العقل العربي. (39) بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.