تتواصل الأزمة السياسية في
العراق منذ اندلاع الحركة الاحتجاجية مطلع تشرين الاول اكتوبر الماضي، في ظل فشل
الاداء السياسي لحكومة السيد عادل عبد المهدي وتراكم المشكلات السياسية
والاقتصادية والاجتماعية، التي ترافقت مع انعدام الخدمات الاساسية وغياب العدالة
الاجتماعية و فقدان فرص العمل وزيادة معدلات البطالة، ونتيجة لعدم الاستجابة
الحكومية لمطالب المتظاهرين والقسوة التي مارستها اجهزة السلطة، تحولت مطالب
المتظاهرين الى مطالب سياسية وانتقلت من مرحلة الى اخرى حتى وصلت الى إجبار رئيس
الحكومة على تقديم استقالته في الأول من كانون الاول ديسمبر الماضي.
وطوال المدة من استقالة
حكومة عادل عبد المهدي ، لم تنجح المشاورات التي أجرتها القوى السياسية في الوصول
الى حل توافقي في اختيار مرشح جديد لرئاسة الحكومة، على الرغم من اضطلاعها بمشاورات
مكثفة تداخلت معها المنافسات الداخلية وأثرت فيها المتغيرات الخارجية، والتي حالت
دون الوصول الى مرشح توافقي بين القوى المكّونة للكتلة الشيعية الأكبر في البلاد،
اذ تم رفض مجموعة من المرشحين تارةً لعدم توافق البيت السياسي الشيعي عليهم وتارةً
لرفضهم الصريح من قبل ساحات التظاهر التي مثلت الرقم الأصعب في المعادلة السياسية
العراقية قبل ان يقضي فايروس كورونا على الحياة في هذه الساحات، و تواصلت سلسلة المشاورات
بين الفرقاء السياسيين متجاوزةً التوقيتات الدستورية وهدد على اثرها رئيس
الجمهورية برهم صالح بتقديم استقالته اذ ما أصرت القوى السياسية على تقديم مرشح
مرفوض من قبل المتظاهرين، وكان الحديث حينها يدور حول محافظ البصرة أسعد العيداني،
الذي رشّحته القوى المقربة من ايران في العراق.
علّاوي يفرّق البيت السياسي الشيعي
بعد الرحلة الطويلة من
المباحثات والمشاورات ظهر اخيراً توافق سياسي بين كتلتي سائرون (التابعة للزعيم
الشيعي السيد مقتدى الصدر) والفتح (التي تجمع الفصائل المسلحة المقربة من ايران) بترشيح
محمد توفيق علاوي البرلماني و وزير الاتصالات الأسبق- الذي استقال من وزارته في
عام 2012 في حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي الثانية، بعد توجيه اتهامات له بالفساد
اثبت القضاء براءته منها فيما بعد- لرئاسة الحكومة الجديدة التي قيل انها ستحدد
بمدة قصيرة مهمتها الرئيسة اجراء انتخابات برلمانية مبكرة، وعلى الرغم من محاولات علّاوي
الحثيثة الحصول على دعم الفرقاء من مختلف الجهات بيد أن حقيقة ما تجّلت لتثبت فشل
كل جهود ومحاولات إصلاح المشهد السياسي العراقي، و تتمثل تلك الحقيقة بتمسك القوى
السياسية بمصالحها ورفضها التنازل عنها، ويمكن القول في هذا الصدد ان الدور
المحوري في إفشال تشكيل حكومة علاوي تمثل في الدور الكبير الذي قام به رئيس
الوزراء الاسبق نوري المالكي الذي رفض تكليف علّاوي منذ البداية، ليظهر بشكل جلي
الخلاف في البيت السياسي الشيعي كأول محصّلة لغياب الجنرال قاسم سليماني ونائب
رئيس هيئة الحشد الشعبي ابو مهدي المهندس عن الساحة العراقية، ثم عزز هذا الموقف
رفض أقطاب مهمة في المشهد السياسي التنازل عن مكاسبها ومصالحها وفي مقدمة ذلك
الموقف الكردي المتمثل بالسيد مسعود البارزاني وموقف رئيس البرلمان محمد الحلبوسي،
وبعد سلسلة طويلة من المشاورات التي اجراها السيد علّاوي اعلن في اخر يوم من المدة
الدستورية الممنوحة له اعتذاره عن تشكيل الحكومة الجديدة.
كورونا و العراق
تزايدت مخاطر فايروس
كورونا في العالم مع تفاقم حدة الازمة السياسية العراقية في ظل فشل المكّلف بتشكيل
الحكومة الجديدة، وقد دخل الفايروس الى العراق من خلال طالب ايراني يدرس في محافظة
النجف في نهاية شباط فبراير الماضي، ثم تضاعفت الأعداد بعد ذلك بسبب رفض الاجهزة
الحكومية إغلاق الحدود بوقت مبكر مع ايران، الامر الذي أسهم في انتشار الفايروس في
مختلف المحافظات العراقية، وترافق مع تحدي فايروس كورونا الانخفاض الكبير في أسعار
النفط العالمية، من جرّاء تداعيات انتشار فايروس كورونا وتوقف معظم الصناعات العالمية،
و الذي تزامن بذات الوقت مع الفشل الروسي- السعودي في الوصول الى اتفاق جديد لتحديد
كميات الانتاج، وفي إطار مناقشة تداعيات انخفاض اسعار النفط العالمية على العراق، من الاهمية بمكان القول إن الاقتصاد العراقي
يعتمد على صادرات النفط بشكل رئيس يصل الى ما يقارب 90% من حجم الموازنة العامة في
البلاد، لتنذر في نهاية المطاف هذه التحديات بمخاطر جسيمة على العراق سياسياً
واقتصادياً واجتماعياً وصحياً، دون ان تشكل تلك المخاطر حافزاً للقوى السياسية
المتزعمة للسلطة للتغلب على صراعاتها الداخلية وتشكيل الحكومة الجديدة.
الزرفي بديلاً لعلاّوي
ساهم تعقيد الازمة
السياسية العراقية في زيادة الضغط على القوى السياسية الشيعية لترشيح بديل لتشكيل
الحكومة، وسادت أجواء من التعقيد مباحثات هذه القوى التي تكشف عن حقيقة الصراع
والانقسام الذي يواجهه البيت السياسي الشيعي، مما دفع رئيس الجمهورية برهم صالح
لتبني تكليف مرشح جديد في تشكيل الحكومة مستنداً الى تأييد دستوري من المحكمة
الاتحادية العليا يقضي بصلاحية رئيس الجمهورية بتكليف المرشح الجديد في حال فشل
المكلّف الاول دون الرجوع للكتلة الأكبر، تمثل ذلك من خلال تكليف رئيس كتلة
النصر النيابية عدنان الزرفي الذي اثار جدلاً واسعاً في الاوساط السياسية لاسيما
من خلال رفض عدد من القوى الشيعية لتكليف الزرفي، حتى وصل الحال الى اتهام رئيس
الجمهورية بمخالفة الدستور وتبنى عدد من نواب كتلة الفتح حملة واسعة ضد الرئيس صالح
محاولين من خلالها الضغط عليه لسحب تكليف الزرفي، وفي هذا الصدد فأن ابرز الكتل
السياسية التي رفضت تكليف الزرفي هي كتل ( الفتح ودولة القانون والحكمة)، التي تعد
من القوى المقربة من ايران، على الرغم من
وجود عدد كبير من نواب هذه الكتل من مؤيدي الزرفي، و بمقابل ذلك لاقى الزرفي تأييد
عدد واسع من نواب البرلمان من مختلف الكتل السياسية حتى ساد الاعتقاد بأن كابينة
الزرفي سيصوت عليها اذ ما عرضت في البرلمان، بيد أن المتغير الذي اسهم في افشال
تكليف الزرفي تمثل في المخاوف التي واجهتها القوى الشيعية هذه التي عدّت الزرفي
خطراً حقيقياً على نفوذها السياسي في العراق لما ابداه الاخير من قوة وصلابة في
ابداء مواقفه السياسية لاسيما في سعيه لتحقيق الاصلاح والحفاظ على علاقات متوازنة
للعراق مع دول العالم، الامر الذي تعده هذه القوى خطراً داهماً كونها تبحث عن مرشح
يحافظ على علاقات قوية للعراق مع ايران بشكل دائم.
الكاظمي مرةّ اخرى
شكل تكليف عدنان الزرفي
دافعاً كبيراً لتجمع عدد كبير من القوى السياسية الشيعية في العراق التي اعلنت
رفضاً صريحاً له وفقاً لطبيعة المخاطر التي صورتها هذه القوى في المكلّف الزرفي، فقد عمدت الى الاجتماع
والاتفاق بالإجماع على تكليف رئيس جهاز
المخابرات مصطفى الكاظمي لتشكيل الحكومة الجديدة، و الذي سبق لها ان رفضت ترشيحه
عندما ترشح للمرة الاولى على اثر استقالة حكومة عبد المهدي، و وجهت له اتهامات
عديدة نظراً لطبيعة علاقاته مع الولايات المتحدة، و عقب اتفاق البيت السياسي الشيعي على ترشيح الكاظمي بارك كل من تحالف
القوى العراقية الذي يضم معظم القوى السنية بزعامة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي،
الى جانب رئاسة اقليم كردستان ترشيح الكاظمي، الامر الذي افضى الى تحقيق الإجماع
الوطني في سابقة سياسية لم يشهدها العراق منذ اندلاع الاحتجاجات، و فعلاً قدم
الزرفي اعتذاره عن تشكيل الحكومة في 9 نيسان ابريل واجتمعت القيادات السياسية في
ذات اليوم في قصر السلام لتشارك الرئيس برهم صالح في تكليف الكاظمي.
ماذا للكاظمي وماذا عليه
يعد مصطفى الكاظمي شخصية
براغماتية تمكن من تحقيق عدة نجاحات في قيادة جهاز المخابرات ابرزها القضاء على
سياسات التمييز الطائفي التي اتبعها سلفه، الى جانب دوره في تأهيل وتطوير كوادر
الجهاز عبر ادخال برامج ومنظومات علمية حديثة لم يألفها الجهاز في المراحل
السابقة، فضلاً عن ذلك فأن ابرز ما يحسب للكاظمي على المستوى السياسي انه ومنذ
ترشيحه للمرة الاولى لم ينخرط في الصراع السياسي الذي يشهده العراق ولم يقترب من أي
كتلة سياسية ساعياً في الحصول على تأييدها، كما انه لم يقدم اي وعود بتحقيق مكاسب حزبية
على حساب برنامجه السياسي مما جعله يحظى بمقبولية واسعة في الاوساط العراقية، كما
شهدت عملية تكليفه ترحيب اوساط اقليمية ودولية عديدة بما يفصح عن رؤية الكاظمي
المتوازنة في ادارة علاقات العراق الخارجية.
وفي اطار ذلك بات لزاماً
على الكاظمي اجتراح رؤية استراتيجية في ادارة المرحلة الانتقالية لاسيما من خلال اختيار
كابينة وزارية منسجمة ومستجيبة لطبيعة التحديات التي يواجهها العراق، في الملفات
الرئيسة السياسية والامنية والاقتصادية والاجتماعية، والتي تتمثل في الاتي :
1-
اجراء انتخابات برلمانية حرة ونزيهة ترسخ التداول السلمي
للسلطة وتحافظ على القيم السياسية الديمقراطية في العراق.
2-
إيقاف نشاط الفصائل الولائية وحصر السلاح بيد الدولة
مهمة لا يجب التنازل عنها.
3-
تقديم قتلة المتظاهرين الى القضاء وتعويض الشهداء
والجرحى الذين سقطوا خلال هذه التظاهرات.
4-
انهاء ملف النازحين والمهجرين قسراً والكشف عن مصير
المفقودين من ابناء المحافظات المحررة.
5-
الحفاظ على سيادة العراق
واحترام اتفاقاته الدولية واقامة علاقات متوازنة مع القوى الاقليمية والدولية.
6-
النجاح في مواجهة التحدي
الاقتصادي في ظل انخفاض اسعار النفط العالمية والحفاظ على الاستقرار الاقتصادي
والاجتماعي.
في ضوء ما تقدم تتضح صعوبة الملفات التي تواجه السيد كاظمي في قيادة العراق للمرحلة الانتقالية وهي تتطلب بلا شك دعم القوى السياسية للحكومة الجديدة التي تشير اغلب الترجيحات لغاية الوقت الحاضر عن توافر هذا الدعم والتوجه لتمرير الكابينة الوزارية من خلال جلسة البرلمان القادمة ما لم تحدث متغيرات جديدة تنسف الاتفاقات السياسية العراقية التي تسعى لإنجاح الكاظمي في انهاء الازمة السياسية العراقية.