متطرفو الساحل والصحراء والقوات الفرنسية .. مصالح مشتركة أم عداء ممتد؟
يُحدد الساحل الافريقي بأنه المنطقة الفاصلة بين شمال إفريقيا و
افريقيا جنوب الصحراء. فهو يمتد من البحر الأحمر شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا
شاملًا بالتالي: السودان، تشاد، النيجر، مالي، موريتانيا والسنغال، الجزائر.
وتعد منطقة الساحل والصحراء الإفريقية، محط أنظار الدول الكبرى
نظراً لما تتمتع به من موقع استراتيجي، إضافة إلى مواردها الغنية، ويُعدّ
استقرارها الأمني نقطة مفصلية لاستقرار عدد من الدول الأخرى. خاصة أن هذه الدول
منبع الهجرات التي تفرّ إلى جنوب القارة الأوروبية. ومع تفكك الدولة
وضعفها في هذه المنطقة، أصبحت مع الوقت ملاذًا أمنًا للجماعات المتطرفة. لترزح
المنطقة تحت نارين، نار التطرف الذي يهدد بأكل الأخضر واليابس، ونار التدخل
الأجنبي الذي يستنزف خيرات البلاد ومواردها.
بدايات
الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء
شكلت منطقة الساحل والصحراء واحدة من أهم بؤر التطرف في إفريقيا
في السنوات الأخيرة، إذ ينشط فيها متطرفو تنظيمي «القاعدة»، و«داعش»، و«بوكو
حرام»، مستغلين حالة التردي الأمني، ومستفيدين من إمكانية التنقل بحُرية وسهولة
بين بلدانها. وقد أسهم الفراغ الأمني في ليبيا في تنامي وتيرة التطرف في إفريقيا،
فازداد حجم التنظيمات المتطرفة، وازدادت قوتها، فاندفعت للتخريب في الدول
المجاورة، ولقيت دول شمال إفريقيا الكثير من المصائب، لكن نجاح هذه الدول في ردع
المتطرفين جعل هؤلاء يركزون على الدول الضعيفة في منطقة الصحراء تحديدًا، مثل تشاد
والنيجر ومالي وبوركينا فاسو، وهذه الدول، في أساسها، تشهد انقسامات عرقية بين
العرب والأفارقة. وقد أخذت المواجهة المفتوحة ضد التنظيمات المتطرفة في منطقة
الساحل والصحراء، منعطفاً خطِراً بعد دخول تنظيم «داعش» إلى ساحة الصراع، منذ
العام الماضي، حينما أعلن زعيمه المقتول أبوبكر البغدادي، مباركة وجود عناصره في
تلك المنطقة، وتأسيس ولاية غرب ووسط إفريقيا، ومنذ ذلك التوقيت، كثفت عناصر
التنظيم المسلح وجودها من خلال شن عمليات إرهابية ضد المدنيين والعسكريين في تلك
المنطقة. وقد نجح «داعش» في الوصول إلى مناطق ظلت محتكرة من طرف جماعة «بوكو
حرام». ما يوحي بأن «داعش» قد يخلف تلك الجماعة في نيجيريا، والدول المجاورة.[1]
التدخل
الفرنسي في المنطقة
منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، التزمت
فرنسا التزامًا حازمًا من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي. وفي كانون الثاني/يناير
2013، تدخّلت فرنسا في شمال مالي عبر عملية سيرفال بغية منع الجماعات المتطرفة
التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد. ومنذ ذلك الحين، توحّدت العمليات
الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية برخان. وتعمل القوات الفرنسية في
هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلّحة في منطقة الساحل.[2]
وتكمن الميزة الإستراتيجية لإفريقيا وخاصة الساحل الإفريقي التي
تعدها فرنسا كمنطقة نفوذ لها في موقعها الجغرافي والجيوبولتيكي فهي تطل على كل من
المحيط الأطلسي الذي لعب دورًا محددًا في توازن القوى العظمى وذلك من خلال
إستراتيجية الردع المتبادل.
لكن يرى البعض أن التدخل الفرنسي في المنطقة له أسباب أخرى
تتمثل في أن المنطقة تعد إحدى أهم المجالات الجيوسياسية في العالم، والتي جعلت
منها محل أطماع القوى الكبرى والمتنافسة نظرًا لما تتميز به من موقع إستراتيجي مهم،
بالإضافة للثروات النفطية والغازية، وما تتوفر عليه دول الساحل من موارد معدنية
خاصة: مالي والنيجر وموريتانيا الجزائر.. وهذا ماجعلها محط إهتمام القوى الكبرى و
ساحة لتنافس الفواعل الدولية وصولًا للنفط في أفريقيا.
وترسخ الإرهاب والوجود
الفرنسي في المنطقة يرجع كلاهما إلى الإنفلات الأمني الذي تشهده هذه المنطقة في
السنوات الأخيرة لما تعيشه من أزمات داخلية وصراعات إثنية وقبلية التي غالبًا ما تؤدي
إلى غياب مفهوم الدولة وحالة الهشاشة والإنكشاف الأمني والإقتصادي وما ينتج عنه من
أزمة هوية، بالإضافة إلى التحديات الجديدة "الهجرة السرية والجريمة المنظمة"
التي باتت تشكل تهديدات أمنية خطيرة
للمنطقة عمومًا .
من
أين يأتي السلاح للتنظيمات المتطرفة؟
مع تزايد العمليات الإرهابية في منطقة الساحل والصحراء خاصة في
دولة مالي، ثارت تساؤلات عديدة حول مصدر السلاح الذي تستخدمه هذه الجماعات، ما زاد
من هذه التساؤلات أن العمليات نفسها باتت نوعية، وبأسلحة ثقيلة، والإجابة على هذا
التساؤل هي ما نتصدر له في محاولة لفك هذا اللغز.
ثمة عديد من التحليلات التي تحاول فهم مصدر سلاح هذه الجماعات، أول
هذه التحليلات يعتبر أن مصدر هذه الأسلحة هي ليبيا التي قامت فيها ثورة على نظام
القذافي، وتحللت من بعدها الدولة وازدهرت فيها تجارة السلاح نتيجة ما تم التحصل
عليه من مخازن السلاح التابعة للقذافي، تلك المخازن التي ظل يجمعها ل40 سنة هي
تاريخ حكمه، تحصلت الجماعات الإرهابية في مناطق الساحل والصحراء على هذه الأسلحة، نتيجة
لضعف الرقابة الحدودية وتفكك الدولة في هذه المناطق، وهو السبب الذي يجعل من هذه
المساحة الجغرافية منطقة مثالية لتمدد الجماعات الإرهابية نظرًا لحرية الحركة
والتنقل بين دول هذه المنطقة.
التحليل الثاني يرجع الحصول على هذه الأسلحة أنها تأتي من
التكتلات والمعسكرات التي تهاجمها هذه الجماعات والتابعة للأمم المتحدة أو فرنسا
أو غيرها من الدول المتواجدة في هذه المنطقة، فهي تهاجم هذه التكتلات والمعسكرات
بأعداد كبيرة، ومن ثم تحاصرها، لتنقض عليها وتحصل على ما لديها من أسلحة وأحيانًا
يكون من بينها أسلحة ثقيلة، وهكذا تتحصل هذه الجماعات على أسلحة نوعية ومصنعة على
أحدث طراز، تساهم في تمددها وزيادة بطشها وسيطرتها على المناطق التي تنشط فيها.
هل
فرنسا متواطئة في دعم الجماعات التي تحاربها؟
التحليلان السابقان يستبعدان منطق المؤامرة في إمداد هذه
التنظيمات بالسلاح، ويستبعدان أي تعاون بين هذه الجماعات وبين دول أو تنظيمات أخرى،
لكن ثمة تحليل يحمل شجاعة طرح نظرية المؤامرة على الطاولة على عاتقه، يذهب هذا
التحليل إلى أن المستفيد الأول من وجود هذه الجماعات هي فرنسا على الحقيقة وعلى
عكس ما قد يبدو من تهديد لمصالحها من هذه الجماعات، إلا أن المتفحص يرى أن زيادة
نشاط هذه التنظيمات في نهاية العام 2012 وبداية العام 2013 كان بوابة لعودة النفوذ
الفرنسي لمنطقة الساحل والصحراء، ومعروف أن فرنسا قد استعمرت هذه المنطقة لعقود
فيما يعرف بالحزام الفرانكفوني، ومع قيام حركات التحرر لطرد الفرنسيين، أضطرت
فرنسا للخروج في النهاية، لكن مع تعهدات بحماية مصالحها الاقتصادية في هذه المنطقة
الغنية بالموارد كما أسلفنا، لذا فالوجود الفرنسي في هذه المنطقة هو الأكبر من بين
القوى العظمى في العالم، بل إن البعض يذهب للقول أن فرنسا ما تزال ترى هذه الدول
على أنها مقاطعات فرنسية. هذه الأهمية التي تمثلها المنطقة لمصالح فرنسا ليست
بخافية، وهو ما يعود بنا للتحليل القائل أن فرنسا ربما تكون المستفيد الأول من
نشاط هذه الجماعات لأنه ببساطة يضمن لفرنسا وجودًا عسكريًا دائمًا في منطقة الساحل
والصحراء لتراقب وتدعم مصالحها عن كثب.
هذا التحليل يقودنا للشك في الطريقة التي تتحصل بها هذه
التنظيمات على السلاح عن طريق مهاجمة أرتال عسكرية ومعسكرات تابعة لفرنسا، فالبعض
يطرح علامات إستفهام حول السهولة التي تتم بها هذه العملية؟ ولماذا لا يتم تأمين
هذه المعسكرات بالشكل الكافي؟ هذه الشكوك تذهب بالبعض للقول أن فرنسا تمد هذه
الجماعات بالسلاح عن طريق شركات أمن خاصة تتواجد في الساحل الأفريقي، ورغم أنه لا
دليل قاطع على هذا التحليل، إلا أن البعض يدافع عنه من منطق تحليل للسياق الذي تدور
به العمليات على الأرض، ومن واقع رؤية المصالح الحيوية الفرنسية على الأرض.
تواجه فرنسا رغم الدعم الحكومي من حكومات منطقة الساحل والصحراء،
رغم هذا الدعم الذي وصل بالرئيس المالي لاستدعاء فرنسا مباشرة لدعمه ودعم حكومته
في مقاتلة هذه الجماعات، رغم هذا الدعم إلا أن فرنسا تواجه بمظاهرات مستمرة
تطالبها بالرحيل عن مالي والمنطقة، وهو سجال قائم بين من يرى أن الوجود الفرنسي هو
أصل المشكلة، حيث يستنزف خيرات البلاد وثرواتها، وبين تيار يرى في الوجود الفرنسي
حائط الصد الأخير أمام توحش هذه التنظيمات الإرهابية وسيطرتها على كامل البلاد، ومن
بين هؤلاء الرئيس المالي الذي يؤكد مرارًا أن من يطالب برحيل فرنسا وقواتها لا
يدرك الوضع على الأرض على الحقيقة.
الوجود
الأمريكي في منطقة الساحل والصحراء
ثمة وجود دولي أخر في منطقة الساحل والصحراء يبدو مهددًا وإن
كان بطريقة أخرى، وهو الوجود الأمريكي في هذه المنطقة، وهو وجود محدود في الحقيقة
ويقتصر على تقديم الدعم اللوجيستي والمخابراتي وتدريب قوات أمنية وعسكرية لدول
المنطقة، يبدو هذا الوجود مهددًا من الداخل الأمريكي نفسه، الذي تنقسم فيه الإدارة
حول جدوى البقاء في هذه المنطقة، وثمة تياران في الإدارة الأمريكية يتنازعان على
هذا الوجود، يرى التيار الأول أهمية هذا الوجود لحماية الداخل الأمريكي من
العمليات التي قد تهدد بها هذه التنظيمات مستقبلًا، وأن إيقاف هذه الجماعات في
موطنها يقلل من خطرها مستقبلًا على الداخل الأمريكي، وأنها الضريبة التي تدفعها أمريكا
لحماية العالم ومن ثم لحماية نفسها، يرى هذا التيار أيضا أن الأمر ضروري لدعم
حليفة مهمة هي فرنسا في حربها على هذه التنظيمات، وأن التخلي عنها في هذه اللحظة
يهدد كثيرًا علاقة التحالف التاريخي بين البلدين. التيار الأخر يرى في الوجود
الأمريكي في هذه المنطقة مضيعة لمجهود حربي من الممكن توجيهه لمناطق أهم خاصة تلك
التي تتجه إليها أمريكا بقوة مؤخرًا حيث التواجد الصيني والروسي، لذا يرى هذا
التيار ضرورة سحب القوات الأمريكية من هذه المنطقة في أسرع وقت.
خاتمة
في الأخير يبدو أن هذه المنطقة الحيوية ستظل على هذه الدرجة من
التعقيد الذي يحدثه أهميتها الكبرى، لدول غربية على رأسها فرنسا، وأيضا لتفكك
الدولة فيها، وهو ما يجعلها منطقة مثالية لتمدد التنظيمات الإرهابية، وعلينا أن
نتمهل كثيرًا في رؤيتنا للعلاقة بين الإرهاب والقوى الغربية، فالعلاقة ليست عدائية
على طول الخط كما قد يبدو، فثمة مصالح تغلب في النهاية على طبيعة العلاقة وحتى لو
لم تخرج هذه التحالفات إلى السطح فإنها تظل موجودة منتظرة من يفتش عنها ليخرجها
للعلن، ولدينا هنا إشكالية الإمداد بالأسلحة لهذه التنظيمات المسلحة كواحدة من
الأسئلة التي تُطرح كشبهة تعاون بين فرنسا وهذه التنظيمات، وإن غاب الدليل القاطع
عن هذه العلاقة، فلا دخان بدون نار.
المراجع
1-
محمد
خليفة: الإرهاب في الساحل والصحراء، مجلة الخليج، بتاريخ: 25\1\2020 ، للمزيد:
2-
التهديد
الإرهابي وأنشطة فرنسا في منطقة الساحل، للمزيد: