هل ستسهم أمننة "إرتدادات العولمة" فى إعادة هندسة "النظام الدولي"؟
تطرح الإختبارات الحالية مخاطر متصاعدة
تُنذر بإحتمالية تصدع بنية النظام العالمى الحالى، فى ظل تراخى نظام "إدارة
المخاطر" فى إنجاز التوازنات المطلوبة فى العديد من الملفات غير التقليدية
كالأزمات المالية وتداعيات الحمائية التجارية، وإشكالية ملوثات البيئة ومخاطر
التغيرات المناخية، وصولًا لانتشار الأوبئة وتنوع وتطور سلالاتها.
بالمقابل، أصبح هناك الحديث حول إعادة
تقييم "إرتدادات العولمة" فى ظل تنامى التناقضات والتوترات المصاحبة
لمخرجات أزمة فيروس كورونا "19-Covid" وانعكاساتها الإنسانية والسياسية والاقتصادية
على مختلف مكونات النظام العالمى. وكذلك الدفع بإعادة إنتاج أطر نظرية ومفاهيم
قادرة على إستيعاب الواقع الجديد، بل أن يتجاوز الأمر نحو التنظير للبدء بعملية
"فك الإرتباط" وإعادة هندسة النظام الدولى بما يتوافق مع إبستمولوجيا
الأمننة لمجتمع المخاطر.
ارتدادات العولمة
اقترنت عملية العولمة بتصاعد وتيرة الأخطار العابرة للحدود، بمختلف
أشكالها، والتي تهدد النظام العالمي ككل؛ فى ظل ضعف واضح وقصور شديد في التعاون الدولي
لمواجهتها. إذ تجلى بوضوح في ضعف أداء المؤسسات الدولية متعددة الأطراف، وصعوبة حصولها
على التمويل اللازم، بالتوازي مع تراجع حجم الدعم التنموي الذي تقدمه الدول المتقدمة
لمساعدة الدول الضعيفة على تجاوز أزماتها.
في السياق ذاته، فرضت إشكالية "مجابهة
المخاطر" وخاصة مع التمدد الديموغرافى لفيروس كورونا تبنــي العديد من الإجــراءات
الرامية لتقويض إرتدادات العولمة منها: وقــف التدفقــات الضخمــة العابـرة
للحـدود، وتفكيـك شـبكات الاتصـال العابـرة للأقاليـم (Global Interconnectedness) ، إذ دفعت تلك الأزمة بالعديد نحو تسليط الضوء على الإنعكاسات
السلبية للعولمة وارتباطها بتنامى المهددات الغير تقليدية مثل: تفشى الأوبئة
العابرة للقوميات، والتلـوث البيئـي، والاحتبـاس الحـراري، والجريمة المنظمة، والإرهاب
المُعولم، والتهديـدات السـيربانية التـي تستهدف أمن تدفق المعلومـات.
وفقاً لذلك، أصبح هناك الحاجة للتنظير
حول تداعى وتراجع نظرية "الاعتماد المُعولم"، إذ أصبح النظام الدولى فى
حالة انكشاف أمنى وسياسي واقتصادى نظرا لما أسست له مجمل التهديدات غير التقليدية
الأخيرة من هشاشة فكرة "الإعتماد المتبادل" بين مختلف فواعل النظام
الدولى، وفشل النظام فى تلبية الإحتياجات السياسية والاقتصادية والأمينة وفقا
لآلية "الإعتماد والتعاون المرن". فعلى سبيل المثال: صاحب تفشى فيروس
كورونا فى العالم إغلاق العديد من المصانع فى دول العالم مما تسبب فى تداعيات اقتصاية
متلاحقة أهمها ما تم رصدة مؤسسيا من تباطؤ معدلات النمو العالمى، وتراجع الطلب على
النفط فى الأسواق العالمية، ونقص المعروض من بعض السلع خاصة فى القطاعات
التكنولوجية، وتعمقت الأزمة بعد إقرار فواعل النظام الدولى الإغلاق التام للحدود
وتعليق رحلات الطيران، وهو ما دفع بالبعض نحو مراجعة نظرية "الإعتماد
المُعولم" وإعادة النظر فى المقولات الخاصة بـ "الحمائية"، استنادًا
على فرضية ديناميكية مفادها: "إن الإعتماد على الخارح فى تلبية الإحتياجات
الأساسية والحيوية قد لا يسهم بالنفع فى حالة الأزمات".
مُصعدات الأمننة
دائماً ما ترتبط تداعيات "إرتدادات
العولمة" بإستدعاء مفهوم "الأمننة" ومقولات مدرسة كوبنهاجن، خاصة
مع التوسع فى توظيف الجيوش فى مجابهه مختلف التهديدات الغير تقليدية والعابرة
للقوميات، والتى آخرها مايتعلق بتقويض الإنتشار الديموغرافى لفيروس كورونا، وبروز
أدوارهم فى فرض إجراءات الحجر الصحى وحظر التجوال، فضلًا عن القيام بأعمال التطهير
وتشييد المستشفيات الميدانية .. إلخ، بالإضافة إلى ما يعرف تشريعيا بـ "تفعيل
قوانين الإنتاج الدفاعى" لموازنه نقص الإمدادات الطبية، وهى تلك القوانين
التى بموجبها يتم منح المزيد من السلطات للرئيس لتحريك القطاع الخاص لتلبية
احتياجات الأمن الوطنى فى وقت الأزمات.
اتساقاً مع ذلك، وبمراجعة خطابات
القادة السياسين حول العالم فى مواجهه التهديدات الأمنية والتى منها تفشى الأوبئة،
وقياسا على الخطابات المحلية للقادة حول عرض تداعيات فيروس كورونا وخطة المواجهه،
نجد قيام العديد بتوظيف ما يسمى بـ "خطاب الحرب" كإحدى الآليات السيكولوجية لنقل الشعور
بالتهديد لإنجاز متطلبات الحشد الشعبى وقبول الإجراءات الاستثنائية الداعمة
لمسارات الأمننة غير التقليدية.
إعادة التقيم
تنبأ الأزمات - خاصة تلك الغير تقليدية - بالتوجه نحو إعادة
النظر والتقييم للنظام الدولى القائم، ويلحق
بذلك العديد من المراجعات لماهيه النسق الحالي، وتقييم خرائـط الفاعلين، وإبراز لهيـاكل
القوميات، وبحث جدوى الأيدولوجيات، وكذلك الحديث عن شـكل العــالم فيما بعد
الأزمات.
ومن ثم، فمن المرجح بعد عبور أزمة تفشى وباء الكورونا "19-Covid" أن يتم
إعادة النظر فى عدد من الملفات التى قد ترنو إلى محاولة خلق نافذة نحو إعادة هندسة
النظام العالمى، ومنها:
-
إعادة إنتاج العولمة
يذهب العديد بكون جائحة كورونا ستكون أحد أهم أسباب انحسار
"العولمة" بمختلف أذرعها، وذلك وفقا لـ "مصفوفة تصاعدية" تحتل
بها الأوبئة درجة متقدمة ، عقب التوترات التى أحدثها النزاع التجارى الأمريكي
الصينى بالهيكل الإقتصادى للنسق الدولى وما أفرزة من عوائق تجارية تحت مسمى
"الحمائية". دون إغفال البُعد البيئي وتداعيات التغيرات المناخية
المتلاحقة فى تنامى التيارات القومية المنادية بالتنصل عن تحمل "عبء
التكلفة" ، وهو ما تم ترجمته من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالإنسحاب
من اتفاق باريس للمناخ.
الجدير بالذكر، أن الحديث عن "إرتدادات العولمة"
ومسارات تطويق الاندماج فى النظام العالمى، تم إعادة الدفع به خلال ما يشهدة
العالم من "أزمة كورونا" بالتوازى مع صعود التيارات اليمينة والشعبوية وأجنداتهم
القومية بالفترة الأخيرة. إذ أنه ليس من المستبعد "انحسار العولمة"
بداية من المسار الإقتصادى وفقا للنزعة الحمائية بالتزامن مع حالة الإضطراب
المؤسسى للتجارة الدولية - وفقا لتداعيات
جائحة كورونا - وما لحق به من تخفيض
علاقات الإعتماد المتبادل بين الدول لأدنى حد مقابل التركيز على بناء القدرات
الذاتية لتلبية الاحتياجات الأساسية بما يتوافق والإستعداد لسيناريوهات العزلة
الممتدة.
فى تقديرى، أن المغالاة بالحديث عن "انتهاء العولمة"
استنادًا على أن دول العالم بدأت بالإنكفاء على نفسها بدلاً من انفتاحها على العالم
لمواجهه تداعيات إرتدادات العولمة" هو حديث منقوص والأحرى أن يتم إستبداله
بالحديث عن "إعادة إنتاج العولمة". إذ أن العولمة بمفهوم سيطرة اقتصاديات
السوق الحرة قد انتهت بداية من تداعيات ما بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008. وما
تلاها من أزمات متنوعة أخرها ما تم إختباره فى التعامل مع الانتشار الديموغرافى لفيروس
كورونا، إذ كشف ذلك عن الدور الحيوي للدولة فى إدراتها لبعض القطاعات كالصحة والتعليم
والنقل، ومن ثم أصبح هناك الحاجة لإعادة إنتاج نموذج "العولمة|" وفقا
للمعطيات الحديثة على أن تشتمل فى مساراتها على أطرز التعاون فى المجالات ذات
الصبغة الإنسانية كالوقاية الصحية ومكافحة الأوبئة، على أن تشكل العولمة - بصيغتها
الجديدة -"نافذة إندماجية" قائمة على التعاون المتبادل فى إطار العمل الجماعي
التشاركى.
-
التغير فى موازين القوى
يذهب البعض أن من إحدى تداعيات "إرتدادت العولمة" انتقال
ميزان القوى العالمية من الغرب إلى الشرق، وفقا لمعيار الدول نحو تدارك تداعيات
الأزمات والتى أخرها ما يتعلق بأزمة فيروس كورونا ، فعلي سبيل المثال: استطاعت كل
من كوريا الجنوبية وسنغافورة والصين تطويق ومحاصرة الانتشار الديموغرافى لفيروس
كورونا، مقابل تباطئ الحكومات الغربية والأوروبية فى احتواء الازمة، بما قد يدفع
بالحديث عن احتمالية انتقال "مراكز الثقل" وما يلحق بذلك من تداعيات
اقتصادية أهمها سقوط سطوة الغرب على الهياكل الاقتصادية والتجارية.
فى تقديرى، أنه لازال من المبكر الحديث عن التغير فى موازين
القوى العالمية، إذ أن العولمة بكافة تشكيلاتها – رغم ثقل إرتدادتها - بالتوازى مع الإعتماد على المنصات الإلكترونية
والتحولات الرقمية، أصبح الحديث عن سيطرة اتجاه دون الآخر مجرد حديث هزلى ، ولعل
الإختبار الأخير بين واشنطن وبكين والخاص بـ "نزاع الحمائية التجارية"
أوجد صياغات اقتصادية وتجارية مرنة استطاع من خلالها الأطراف التكيف والتعامل مع
مختلف التداعيات.
-
تقييم مشروعات الإندماج الإقليمي
من المتوقع بعد انحسار جائحة كورونا أن يتم إعادة النظر فى جدوى
هياكل التكتلات الإقليمية وفى مقدمتها الإتحاد الأوروبى، إذ كشفت الأزمة الأخيرة عن
حالة التصدع فى بنية الإتحاد بالتزامن مع توجهات التيارات القومية واليمينة نحو
الإنغلاق على الذات والتركيز على المصلحة القومية دون النظر لاعتبارات المسؤولية
الإقليمية او ما يعرف بـ "عبء الإتحاد"، وهو ما قد ينذر بإعادة النظر فى
جدوى الإتحاد، وذلك مع ضبابية إحتمالات خروج دول أخرى من الإتحاد الأوروبى بخلاف
بريطانيا مثل إيطاليا وأسبانيا والبرتغال،إستنادًا إلى ما تم تسجيله من تنامى حالة
الغضب الشعبي ضد الإتحاد الأوروبي داخل العديد من الدول الأوروبية وفى مقدمتهم
إيطاليا، كذلك ما يتعلق بردود الأفعال المصاحبة لرفض الإتحاد الأوروبي في مارس
2020 طلب تسع دول أوروبية منها إيطاليا بإصدار
ما يسمى بـ"سندات كورونا" للتخفيف من الآثار الاقتصادية للوباء. إذ أصبح
من المتوقع أن يُعاد تقييم فكرة الإتحاد وكذلك إعادة تعريف الوظيفة المؤسساتية لمثل
تلك التكتلات الإقليمية بشكل عام فى ظل تنامى مهددات الأمن غير التقليدي .
لن يتوقف الأمر فقط على مراجعة الإطار الإندماجى لقوى الغرب،
ولكن من المرجع إعادة النظر فى تقييم هيكل "الإندماج العربى"، إذ فشلت
جامعة الدول العربية فى التصدى لتحديات القرن الواحد والعشرين، حيث كانت مساهمة جامعة
الدول العربية حتى الآن للحد من انتشار وباء فيروس كورونا في إلغاء القمة العربية التي
كانت مقررة في مارس 2020 على خلفية الذكرى الـ 75 لنشأة الجامعة.
فى تقديرى، برغم فشل التكتلات الاقليمية فى احتواء تداعيات الأزمات،
إلا أنه لازال من الإفضل الإبقاء على وجود مثل تلك "الصياغات الإندماجية"
والتى تسمح بالقليل من التنسيق الإقليمي على أن يتم جدولة معايير الإصلاح المؤسسى
وفقا لما يرنو إليه الدول الأعضاء
-
مراجعة النظام الدولى
كشفت آليات التعامل الدولى لتطويق الإنتشار الديموغرافى لفيروس
كورونا على أهمية إعادة النظر فى شكل العلاقات "السياسية والاقتصادية
والأمنية والإنسانية" بين مختلف فواعل النسق الدولى، إذ أصبح هناك الحديث عن إعادة
ترتيب الأولويات، فضلا عن التغير فى شكل العلاقات السياسية بين الدول وداخلها،
وأيضا حول ما إذا كانت سطوة الحكومات ستتعاظم مقابل تقويض مسارات التحرر، فضلا عن
إحتمالية إرساء التوجه القومى نحو الانغلاق والرغبة في التمحور داخلياً.
نقطة أخرى تتعلق بهيكل النظام الدولى، وتراجع فكرة القطبية، إذ
أن الأزمة الأخيرة كشفت عن هشاشة القيادة الأمريكية للنظام الدولى فى ظل تبنيها
منظور "المصالح الذاتية" وافتقارها الفادح للكفاءة، مقابل ظهور دول أخرى
عمدت على ترسيم خطوات الدعم والتوجية للدول الأكثر تضررًا من انتشار فيروس كورونا.
وهو ما قد يدفع بالبعض نحو إعادة تقييم النظام العالمى، والحديث عن إعادة الهيكلة
إنطلاقا من فرضيات "الأمن الإنسانى" وتأسيسيا على مخرجات
"الدبلوماسية الطبية" التى تتبعها العديد من الدول وفى مقدمتها الصين
التى أرسلت خبرائها طوعًا إلى العديد من الدول المنكوبة بفيروس كورونا لتقديم المساعدة
المجانية دون أى بروباجندا دعائية، بما قد يدفع بالبعض نحو التصور النظرى بتحول مركزية
النسق الدولى من الغرب إلى الشرق .
فى تقديرى، النظام العالمي الحالى وفقا لأطره الأيدولوجية والسياسية
والاقتصادية والأمنية والإدارية يتعرض إلى اختبارات غير تقليدية تتراوح بين أزمات مالية
تعصف باقتصادات دُولِهِ، أو تلوثات بيئية تتجاوز مخاطرها نطاقها المحلي والإقليمي،
أو توترات سياسية تنذر بتحول صراعات محلية إلى إقليمية أو إلى دولية، أو أوبئة تتجاوز
قدرات العديد من الدول على التعامل معه، وبرغم هذا وذاك، لازال من المبكر الحسم بقبول
فكرة إعادة هندسة النظام العالمى ونقل المركزية القطبية إلى الشرق، إذ أن أغلب
الظن أن يُعاد تدوير "بنية النظام" نحو "التعددية" على أن
يُدار وفقا لمتطلبات "الأمن الإنسانى" دون إغفال إستمرار الطبيعة التنافسية
بين القوى العظمى، والتي لم يستطع أي فيروس أو وباء آخر المساس بها، إستناداً
للخبرة التاريخية بالإنفلونزا الإسبانية "1918-1919".
-
انحسار التيارات الشعبوية
من غير المُستبعد أن الازمة الراهنه قد تكون بداية النهاية
للتيارات الشعبوية واليمينية التى انتشرت فى عدد كبيرمن دول العالم، إذ أثبتت
الأزمة الحاجة إلى قيادات شديدة الاتزان
والعقلانية للتعامل مع الأزمات، فضلا عن إختبار العالم لمدى خطورة التضليل
المعلوماتى والشائعات، ومركزية العلم والمعرفة والتخصص فى مواجهه الأزمات وهو ما
ظهر فى التعامل الأمريكي والبريطانى مع الأزمة الأخيرة برغم ما تم تصديرة من أفكار
عن السياسات اليمينية والحمائية الإقتصادية ومعاداة الهجرة وتقويض أذرع العولمة
على نحو قد يُعيد الدفع بمنظور الدولة القومية.
فى تقديرى، أن الفشل الذى أحدثتة التيارات الشعبوية بإدارة أزمة
"فيروس كورونا" عبر تسويق ما يعرف بـ "خطاب الحرب" وبناء
مصفوفات سياسية إستنادًا إلى "نظرية المؤامرة"، قد يؤول ذلك عقب تخطى
الأزمة إلى إنحسار مثل تلك التيارات خاصة مع صعوبة تسويق مقارباتهم الفكرية محليًا
وعالميًا.
-
تصاعد نمط الدولة القومية
أثبت الأزمة الأخيرة لجائحة كورونا أن الدول القومية المركزية
هى الأقدر على التعامل مع الأزمات المفصلية التى تهدد بقاء الشعوب، وأن آليات
التعاون والتكامل الإقليمي والدولى كانت غائبة أو عديمة الجدوى فى هذه السياقات،
وكذلك فكرة أن الدولة القوية كانت الأكثر قدرة على إدارة أزمة كورونا بسبب تمكنها
من فرض إجراءات احترازية للوقاية من إنتشار الفيروس.
وفى تقديرى، أن تبنى العديد من الدول - بمختلف اتجاهاتها
- إجراءات طارئة وصارمة ونجاحها فى احتواء الإنتشار الديموغرافى لفيروس كورونا،
سيدعم ذلك من صعود نمط الدولة القومية القادرة على الإلمام بكافة مقاليد الأمور فى
إطار الدفع العالمى نحو إنجاز متطلبات "الأمن الإنسانى".
-
عودة النزعة الحمائية
ثمة حقيقــة اقتصاديــة مفادهــا أنــه فــي أوقـات الأزمـات الكبـرى
ســرعان مــا تتغيــر توجهــات الحكومــات، فتصبح أكثر إعراضًا عـن تحريـر التجـارة
وأكثر تفضيلاً للحمائيــة التجاريــة. فعلى سبيل المثال: إبـان أزمـة "الكسـاد
الكبيـر" التـي وقعـت فــي نهايــات العشــرينيات وبدايــة الثلاثينيــات مـن
القـرن العشـرين، لجـأت الحكومـات إلـى سياسات "الحمائيــة التجاريــة" كــدرع
لحماية اقتصاداتهــا المحليــة.
وفقاً لذلك، فقد تُنذر تداعيات "جائحة كورونا" بمزيد
من الآثار السلبية على حركة الإقتصاد العالمى، إذ أنه من المرجح أن تصاب المزيد من
الدول بعدوى نزعة الحمائية التجارية للصادرات خاصة تلك التى تتعلق بالإمدادات
الطبية، وهو ما قد يدفع بالبعض للنظر إلى التجارة على أنها وسيلة مضطربة لضمان الحصول
على المنتجات الأساسية. على نحو ما قد يؤسس لقاعدة إقتصادية مفاداها: أن الاكتفاء الذاتي
عبر الحمائية "فى أوقات الرخاء" هو أفضل ضمان في مواجهة الشح "في أوقات
الشدة" وهو ما نتلمسة حاليًا جراء تلك الأزمة خاصةً فيما بتعلق بالسلع الطبية
والدوائية.
في تقديرى، أن فكرة الدفع بالإجراءات الحمائية - خاصة مع التوسع
بالإنتشار الديموغرافى لجائحة كورونا -
فسيلحق في نهاية المطاف الضرر بجميع الدول ، على الأخص تلك الأكثر هشاشة. فالإجراءات المقيدة من جانب الدول تقلص حجم الإمدادات
العالمية خاصة فى مجال الإمدادات الطبية، مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار. ويدفع بفرض
قيود جديدة على الصادرات لعزل الأسواق المحلية، مما يؤدي إلى "تأثير مضاعف"
على الأسعار العالمية. فعلى سبيل المثال:
حين تصدر سبع دول 70% من أجهزة التنفس الصناعي على مستوى العالم - وهي ذات دور حيوي
في علاج مصابي فيروس كورونا. فإذا حظرت دولة واحدة الصادرات، فإن الأسعار قد ترتفع
10% في الأمد القصير، وقد تصعد أكثر بكثير من ذلك إذا قامت باقى الدول بالرد فى
إطار النزعة الحمائية .
-
مراجعة نظم الحوكمة
أثبت الأزمات المتلاحقة جراء إرتدادات العولمة أن الدول التى
لديها نظم حوكمة فاعلة هي الأقدر على مواجهة الأزمات والتغلب عليها. إذ من الصعب تجاهل
دور نظم الحوكمة في بناء الأرضية الصلبة لإنجاز متطلبات الأمن السياسي والاقتصادى
والإنسانى والاجتماعى و....إلخ. - فعلى سبيل المثال: من المُستبعد أن يتم عزل تطوير
مجال الصحة عن تطوير نظم حوكمة فاعلة في باقي المجالات، فالحوكمة لا يمكن تجزئتها،
إذ أن جُملة التهديدات الغير تقليدية التى تهدد النظام الدولى ككل تتطلب معالجات كلية
تنال المجالات كافة.
في تقديرى، تداعيات أزمة فيروس كورونا قد تكون بمثابة نافذة / فرصة
يُبنى على أثرها نظم حوكمة مختلفة في كافة المجالات، قادرة على التعامل مع التحديات
غير التقليدية فى القرن الحادي والعشرين.
إجمالًا.. لا زال من المبكر الحديث عن خطوات فعالة نحو إعادة هندسة النظام الدولى وفقا للمراجعات النوعية والأمنية لحسابات التكلفة والعائد لإرتدادات العولمة، إذ سيظل الرهان على شكل العالم في مرحلة ما بعد "جائحة كورونا" مرهونا بالتحركات النوعية للفاعلين بهيكل النسق الدولى ومدى قدرة النظام الحالى على إستيعاب الخسائر وتحجيم تداعياتها.