المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د. شريف درويش اللبان
د. شريف درويش اللبان

أسئلة بلا إجابات .. حلم الخليفة والإمبراطورية الضائعة (2-3)

الثلاثاء 31/مارس/2020 - 07:43 م
المركز العربي للبحوث والدراسات

لا يوجد أدنى سبب لوجود العثمانيين الجدد في ليبيا والاتفاق مع فايز السراج ذي الأصول التركية سوى محاولة إحياء الأطماع الجديدة لدولة فقدت كل مقوماتها وبدأت في الانكشاف سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا؛ فمن الناحية السياسية فشل الخليفة الواهم رجب طيب أردغان في انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي رغم تقديمه كل فروض الولاء والطاعة للاتحاد الأوروبي ودوله المختلفة، وانضمام تركيا إلى حلف شمال الأطلنطي وإنشاء قاعدة "أنجرليك" على الأراضي التركية، ليرضي الحلف والولايات المتحدة الأمريكية ولكن كل ذلك فشل في أنيُرضي أردوغان أسياده ويساعدوه في الانضمام للاتحاد الأوروبي، وهو الحلم الذي راود العثمانيون الجدد منذ عقود.

وقد انكشفت تركيا اقتصاديًا بعد هبوط قيمة الليرة التركية في العاميْن الأخيريْن بعد نضوب البترول الرخيص الذي كانت تنقله الشاحنات التركية من آبار النفط في المناطق التي كان يسيطر عليها تنظيم "داعش الإرهابي" علاوة على الأزمة الأمريكية التركية بعد احتجاز تركيا لقسٍ أمريكي، وطلب الولايات المتحدة الاإفراج عن هذا القس، إلا أن أردوغان رفض طلب الأمريكان، فما كان من ترامب إلا أن كتب "تويتة" على "تويتر" ينتقد فيها تركيا ويهددها بفرض عقوبات مؤلمة، فانخفضت قيمة العملة التركية وكاد الاقتصاد أن ينهار حتى أفرجت تركيا عن القس الأمريكي صاغرةً ذليلة .. تخيلوا اقتصاد دولة ينهار بتويتة واحدة على السوشيال ميديا.

ويتمثل الانكشاف الاجتماعي في تركيا في الأحوال الاجتماعية السيئة التي يعشها الشعب التركي الذي يرزح تحت نير حكم أردوغان، ولعل هذه الأحوال هى التي أدت إلى زيادة معدلات الانتحار في الدولة التي كانت تباهي العالم بمتوسط دخل المواطن فيها، وكانت تمثل النموذج للدول العربية في إنجازاتها الاقتصادية، فإذا بهذه الأحوال الاجتماعية تتردى وتتزياد معدلات البطالة، وأصبح المواطن التركي لا يأمن على غده ومستقبله، لدرجة أن هناك أُسر كاملة تنتحر في تركيا بعد انهيار فرص العمل وارتفاع تكاليف المعيشة، وعلاوة على ذلك زادت معدلات الدعارة في تركيا لدرجة أنه لا يخلو شارع في أنقرة واسطنبول من بيوت الدعارة وبائعات الهوى.

كل هذا ولا يزال حُلم الخلافة يسيطر على الخليفة الواهم، الذي تساقطت أحلامه مرتيْن؛ مرة في عدم انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي ليكون جزءًا من هذا الاتحاد، ومرة ثانية عندما وصلت جماعة "الإخوان" إلى الحكم في مصر، حيث أيقن أنه يستطيع من خلالها السيطرة على مصر والشمال الأفريقي ليعيده تارةً أخرى إلى حظيرة الدولة العثمانية، وهو الحلم الذي حطمه الشعب المصري عندما قام بثورة 30 يونيو 2013.

ولحُلم الخلافة تاريخ طويل، حيث حلم بها كثيرون، فقد بدأت حركات الإسلام السياسي بمفهومها الحديث في أعقاب انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى وقيام مصطفى كمال أتاتورك بتأسيس جمهورية تركيا على النمط اﻷوروبي وإلغائه لمفهوم الخلافة الاسلامية في الثالث من مارس 1924، وتعطيل العمل بالشريعة الإسلامية، وقيامه أيضًا بحملة تصفية ضد كثير من الرموز الدينية. ويرى رفعت السعيد أن قيام أتاتورك بإنهاء الخلافة ترك بصمات بالغة الأهمية في مصر، وعلى مفكريها وسياسييها، فبعد أربعة أيام فقط من قرار أتاتورك بإلغاء الخلافة اجتمع بعض علماء الأزهر وأصدروا بيانًا أعلنوا فيه بطلان ما قام به الكماليون – نسبة إلى كمال أتاتورك - لأن الخليفة قد بويع من المسلمين ولا يمكن خلعه.

 لكن موقع الخليفة الشاغر أسال لُعَابَ كثيرٍ من الحكام المسلمين كل منهم ينشد المنصب لنفسه، ومن أمثلة هؤلاء الحكام الملك أمان الله ملك الأفغان، والملك حسين بن علي ملك الحجاز، وكان هنا أيضًا الملك فؤاد الأول ملك مصر الذي تحصن بالثقل الحضاري والثقافي لمصر وبأزهرها الشريف وسارع بالمطالبة بالخلافة، وهنا تغير موقف بعض شيوخ الأزهر فنسوا بيعة الخليفة المخلوع واهتموا بطموحات الملك فؤاد، وقرروا دعوة ممثلي جميع الأمم الإسلامية إلى مؤتمر يُعقد في القاهرة برئاسة شيخ الأزهر، للبحث فيمن يجب أن تُسند إليه الخلافة، وحددوا شهر شعبان من العام التالي لانعقاده، ودارت عجلة الإعداد لهذا المؤتمر مستمدة حماسها من حماس الملك فؤاد وشغفه بأن يكون خليفةً للمسلمين.

 وفي ربيع أول 1343- أكتوبر 1924 صدرت نشرة سُميت "المؤتمر"، وأعلن أصحابها أن الهدف منها هو الدعوة لحضور المؤتمر وإنجاحه وتحديد أهدافه، وفي صدر العدد الأول من هذه النشرة نُشر مقالٌ للشيخ رشيد رضا يؤكد ضرورة عقد المؤتمر لأنه "أول مؤتمر إسلامي عام يشترك فيه علماء الدين والدنيا من كل الأمم الإسلامية، خاصةً أن مهمته هي وضع قواعد للحكومة الإسلامية المدنية التي يظهر فيها عُلو التشريع الإسلامي واختيار خليفة وإمام للمسلمين"، لكن قوى عديدة تكاتفت لإفشال هذا المؤتمر، فالملوك تنافسوا على موقع الخليفة، والدول التي كنت تحكمها الخلافة تسارعت إلى إعلان قيام كِيانات وطنية، والقوى الاستعمارية سيطرت على عديدٍ منها، وكان هناك في مصر رئيس وزراء شديد العداء للفكرة هو سعد زغلول، أما حلفاء الملك فؤاد في حزب الأحرار الدستوريين فقد كانوا بسبب موقفهم الليبرالي خصومًا للفكرة، وكتبت جريدتهم (السياسة) "أن الدستور ينص على أنه لا يجوز لملك أن يتولى مع مُلك مصر أمورَ دولةٍ أخرى بغيرِ رضا البرلمان، ومن ثم يتعين ترك بحث هذه المسألة للسياسيين، وأن يَعْدِلَ علماءُ الأزهر عن دعوتهم لهذا المؤتمر".

 وفي صحيفة "السياسة" لسان حال حزب "الأحرار الدستوريين" كتب "الشيخ علي عبد الرازق الذي كان ينتمي للحزب نفسه مقالاً كشف فيه كل أوراق اللعبة، مؤكدًا "أن الحماس للخلافة ليس حماسًا للإسلام، وإنما مساندة لمطامع الملك فؤاد"، كذلك شنت الصحفُ الوفدية حملاتٍ ضارية على المؤتمر وعلى فكرة الخلافة ذاتها، وكان انعقاد المؤتمر في 13 مايو 1926 إشهارًا لوفاته.

ولم تزل حتى عصرنا الحديث تستخدم فكرة الخلافة، برغم إصرار كبار الفقهاء على رفض الفكرة وعلى رأسهم في العصر الحديث الإمام محمد عبده الذي قال "إن الإيمان بالله يرفع الخضوع والاستعباد للرؤساء الذين استذلوا البشر بالسلطة الدينية، وهي دعوى القداسة والوساطة عند الله، دعوى التشريع والقول على الله بدون إذن الله، فالمؤمن لا يرضى أن يكون عبدًا لبشرٍ مثله"، ومع ذلك وحتى بعد أن اختفت دولة الخلافة العثمانية ظل موضوع الخلافة محل جدل، بل وحاول البعض إقامتها تبعًا لذات الفكرة التي أوحت لحاكم مدينة صغيرة أن يسمي نفسه أميرًا للمؤمنين.

 لكن وهم الخلافة يبقى، بل ويتحقق لأمير آخر في أفغانستان هو "الملا عمر" ثم ينتقل إلى طامع آخر في لقب الخليفة هو أبو بكر البغدادي زعيم إرهابيي تنظيم داعش، وتمثل جماعة "الإخوان" الإرهابية أحد أهم القوى المعاصرة التي تنادي بفكرة الخلافة وضرورة بعثها، وقد أقامت تنظيمًا دوليًا على نمط الخلافة المنشود كان يهدف إلى إعادة الخلافة الإسلامية إلى العثمانيين بتولية رجب طيب أردوغان خلافة المسلمين، وهو الوهم الضائع الذي هوى بأردوغان والدولة التركية في أغوارٍ سحيقة لا قاعَ لها.. لتبقى تركيا دولة بلا هوية.. فلا أتاتورك استطاع أن يجعلها دولةً أوروبية تأخذ بالحداثة، ولا استطاع أردوغان والعثمانيون الجدد أن يجعلوها دولةً إسلامية بأن يُعيد إليها الخِلافةَ.

عندما تولي باراك "حسين" أوباما الذي تم تصعيده ليشغل منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في توقيتٍ مقصود ليقوم بترويض الإسلام بشكلٍ عام والإسلام السياسي بشكل خاص بما يتفق مع مصالح بلاده، لم يكن مستغربًا أن يبدأ أوباما رئاسته للولايات المتحدة بمخاطبة العالم الإسلامي من تحت قبة جامعة القاهرة ومن على أرض أكبر دولة عربية وإسلامية، وهو الخطاب الذي تلاه الوصول لاتفاقات وتوافقات مع الإسلام السياسي في المنطقة العربية من خلال مساندته في الحلول محل النظم المتداعية في بعض البلدان العربية في مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن.

وقد حاول أردوغان تقديم نفسه للولايات المتحدة الأمريكية على أنه يستطيع أن يقوم بالدور الأكبر في ترويض الإسلام السياسي بما تمتلكه تركيا من تأثير ديني وعاطفي وتاريخي على المنطقة العربية في ظل أن الخلافة العثمانية كانت آخر عهدٍ لهذه الدول بالخِلافة الإسلامية، وفي ظل تواجد التنظيم الدولي لجماعة "الإخوان" بتركيا، وقيادة أردوغان لحزب "العدالة والتنمية" الإخواني الذي كان يمثل أيقونة النجاح للإسلاميين ويحاولون محاكاته في البلدان الأخرى التي يرنون لحكمها بعد إزاحة الأنظمة الحاكمة لها بموجة ما يُسمى بثورات الربيع العربي، وهى الفرصة التي واتت أردوغان والعثمانيين الجدد في إحياء فكرة الخلافة الإسلامية والوثوب إلى منصب خليفة المسلمين المنتظر، وهو ما يحقق أحلامه في السيطرة على الدول العربية ليفتح سوقًا واسعة لمنتجاته ونهب ثروات البلدان العربية.

وشهدت العلاقات التركية المصرية ازدهارًا كبيرًا من هذا المنطلق أثناء حكم الإخوان، فقد التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع الرئيس المعزول الراحل محمد مرسي في قمتيْن الأولى بأنقرة فيما كانت الثانية بالقاهرة خلال العام 2012. وشهدت العلاقات بين البلديْن عقب انتخاب مرسي في يونيو 2012 تطورًا سريعًا في فترة وجيزة لم تتجاوز العام الواحد حيث وضع الجانبان أٌسس العلاقات الرسمية والاقتصادية لتكون لبنة أساسية يُبنى عليه عهدًا جديدًا من العلاقات بين البلديْن.

وبرز التقارب مع بدايات الثورة المصرية، عندما أعلن رئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان في خطابه أمام البرلمان التركي 2 فبراير2011 دعم بلاده للثورة المصرية، ومطالبة الرئيس الأسبق حسني مبارك بالاستجابة لمطالب الشعب برحيله عن الحكم، في أقوى دعم للثورة المصرية في ذروتها.

وفي 12 سبتمبر 2011، قام أردوغان بزيارة لمصر، والتي تُعد الأولى له عقب فوزه مجددًا في الانتخابات البرلمانية التي أجريت يونيو 2011، وهو الوقت الذي بدأ فيه ظهور "الإخوان" كقوة صاعدة على المسرح السياسي المصري، وبالطبع كانت هذه الزيارة ليست لدعم مصر بقدر ما كانت لتقديم الدعم المعنوي للجماعة الصاعدة لسُدة الحكم في مصر بما يتفق مع المشروع الأردوغاني والعثمانيين الجدد.

واصطحب أردوغان في زيارته لمصر عديدًا من الوزراء والمستشارين والدبلوماسيين وما يزيد على 250 من رجال الأعمال والمستثمرين، بهدف تعزيز التعاون بين البلدين في مختلف المجالات. وخلال زيارة أردوغان الأولى لمصر، تم عقد المنتدى الاقتصادي المصري التركي، بمشاركة نحو 500 من رجال الأعمال من كلا البلدين، لبحث التعاون الاقتصادي في مختلف المجالات. وأعرب رئيس الوزارء التركي عن رغبته فى زيادة حجم التبادل التجاري إلي 5 مليارات دولار خلال عامين‏،‏ مؤكدًا ضرورة أن يعمل الطرفان علي تحقيق هذا الهدف المنشود من خلال إزالة كل العقبات التي تعترض طريق رجال الأعمال والمستثمرين.

ومنذ انتخاب الرئيس المخلوع الراحل محمد مرسي في يونيو 2012 بدأت العلاقات التركية المصرية بالتطور، وشهدت تحسنًا سريعًا في فترة وجيزة لم تتجاوز العام الواحد حيث وضع الجانبان أٌسسًا للعلاقات الرسمية والاقتصادية لتكن لبنة أساسية يُبنى عليه عهدًا جديدًا من العلاقات الرسمية وغير الرسمية بين دولة يحكمها جماعة "الإخوان" الأم ودولة يحكمها التنظيم الدولي للإخوان، وأجرى الرئيس الراحل في سبتمبر 2012 زيارة إلى تركيا والتقى أردوغان في أنقرة، كما دعمت تركيا الاقتصاد لمصري بإيداع قرض بـ 2 مليار دولار. في البنك المركزي المصري في وقتٍ كان الاحتياطي النقدي الأجنبي يشهد تراجعًا متزايدًا، وكان أردوغان يعلم بالطبع أن كل هذا الدعم سوف يسترده أضعافًا مضاعفة بعد تحقيق مشروعه المزعوم الخاص بالخلافة الإسلامية.

كما زار أردوغان مصر ثانيةً في نوفمبر 2012 بصُحبة عددٍ من رجال الأعمال الأتراك بهدف فتح أبواب الاستثمار التركي في مصر وتعزيز الاقتصاد المصري، والتقى، خلال الزيارة، مرسي وألقى كلمة تاريخية بجامعة القاهرة العريقة دشنت مرحلة جديدة من التعاون الاستراتيجي بين الجانبين وتم توقيع 27 اتفاقية في العديد من المجالات.

وخلال العام المالي 2012/2013، إبان حكم محمد مرسي، سجلت الاستثمارات التركية بمصر 4.5 بالمائة بقيمة 169.2 مليون دولار من إجمالي صافي الاستثمارات الأجنبية المباشرة البالغة حينذاك نحو 3.753 مليار دولار. وفي السنوات التالية، لعزل مرسي، تراجعت الاستثمارات التركية من حيث القيمة والنسبة لإجمالي صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مصر لتصل إلى 35.5 مليون دولار من إجمالي 7.8 مليار دولار في العام المالي 2016/2017.

وكانت دويلة قطر وحاكمها تميم بن حمد آل  ثان وشيخ الفتنة يوسف القرضاوي تمثل التابع الأمين لخطوات أردوغان في دعم مصر "الإخوانية" ورئيسها الذي يتبع التنظيم الدولي للإخوان، وكان وهم "الخلافة الإسلامية" يبدو من بعيد لهذه الأنظمة الثلاثة بعد وصول الإخوان لحكم مصر، وبعد الحراك السياسي في تونس وصعود حركة "النهضة" الإخوانية، وبعد ما حدث في ليبيا واليمن، والأكثر من ذلك محاولة مرسي توريط الجيش المصري في الأزمة السورية للإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد حتى يصل "الإخوان" إلى سدة الحكم في سوريا، لتكتمل تهيئة الأرض لإعلان الخلافة المزعومة وتسمية أردوغان خليفةً للمسلمين لنهب خيرات بلاد العرب والمسلمين مثلما فعل أجداده من سلاطين بني عثمان.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟