أصبح فيروس كورونا تهديدًا عالميًا، تسعى الحكومات
جاهدةً للحد من انتشاره والوقاية منه لما له من تداعيات خطيرة على كافة المجالات،
بجانب أنه ذو طبيعة مختلفة عن غيره من الفيروسات لذا لا يوجد له عقار مضاد حتى
الآن وهو ما يساهم في تفاقم الأزمة وتزايد الخوف العالمي منه. وفي هذا السياق ظهرت
أقاويل متضاربة حول تأثير تغير المناخ في الفيروس فرأى البعض أن درجات الحرارة
المرتفعة تسهم في القضاء عليه، ونفى آخرون ذلك الاحتمال. وعلى الجانب الآخر توصل
البعض إلى احتمالية تأثير انتشار الفيروس على تغير المناخ من خلال تأثيره على
معدلات الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي خاصة في الدول الصناعية الكبرى مثل الصين.
ومن هذا المنطلق يحاول المقال الإجابة على عدة تساؤلات: هل يوجد تأثير متبادل بين
فيروس كورونا وتغير المناخ أم أنه تأثير من جانب واحد فقط؟ وإن كان الأمر كذلك
فأيهما الذي يؤثر على الآخر؟ هل الفيروس هو الذي يؤثر على أزمة تغير المناخ أم
العكس؟ وإن كان يؤثر عليها، فما طبيعة هذا التأثير، هل هو سلبي أم إيجابي، أي هل
يسهم في حل أزمة تغير المناخ أم يؤدي إلى تفاقمها؟ وبنفس الكيفية، هل يؤدي التغير
المناخ إلى القضاء على الفيروس أم يسهم في زيادة انتشاره؟
تغير
المناخ والحد من انتشار الفيروسات
أصبح تغير المناخ من أهم وأخطر الأزمات العالمية التي
يعاني منها المجتمع الدولي لما لها من تأثيرات على كافة مناحي الحياة بما فيها
الصحة وبخاصة على انتشار الأمراض المعدية من خلال التغيير في العوامل البيئية
والبيولوجية مثلما يؤثر على أنماط هطول الأمطار والفيضانات والجفاف ونقص
المياه...الخ. فقد أثبتت دراسات أن
التغيرات المناخية لها دور في نقل وانتشار الأمراض المعدية بشكل مباشر أو غير
مباشر، وأنها من أكثر الأمراض حساسية للمناخ(1). فيُعتقد أن العديد من العوامل
البيئية تساعد في انتقال الأمراض الفيروسية في جميع أنحاء العالم. تشمل هذه
العوامل على مستوى العالم درجة الحرارة والرطوبة وهطول الأمطار والرياح بينما في
أوروبا، وتكون درجة حرارة المناخ أكثر احتمالًا لما لها من تأثير قوي على الإصابة
بالأمراض المعدية من خلال إنتاج بيئة تكيفية لبعض الفيروسات الخطيرة. وقد يحفز
المناخ الحار ظهور ناقلات فيروسية مختلفة على مستوى العالم مثل البعوض والقراد
والذباب الرملي والقوارض. يتم ذلك بشكل أساسي من خلال تغيير دورة حياة المتجهات
والطفيليات التي تعمل كحامل للفيروسات، أو تغيير التوزيع الجغرافي لمتجهات الفيروس
ونقل العدوى إلى الدول المجاورة. على سبيل المثال، ظهور حمى الضنك وفيروس النيل
الغربي وبعض الأمراض الفيروسية المنقولة عن طريق ناقلات الأمراض في جميع أنحاء
العالم، وخاصة في أوروبا.
إن غالبية نواقل الفيروسات، مثل البعوض والقراد والذباب،
ذات طبيعة باردة، مما يجعل حدوث الأمراض المعدية يعتمد بشدة على درجات الحرارة
المحيطة التي يمكن أن تسبب تغييرات في مواقع تكاثر ناقلات الأمراض، والتوزيع،
ومعدلات العض في دورة حياتها، على سبيل المثال، تبين أن بعوض الملاريا لا يستطيع
البقاء على قيد الحياة عند درجة حرارة قصوى لفترة طويلة من الزمن (أعلى من 40 درجة
مئوية) وخاصة في حالة شديدة الرطوبة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تؤثر درجة الحرارة
على البشر من خلال التغير في طريقة الحركة وزيادة التعرض للعدوى عن طريق التغيير
في مناعة الجسم المضيف. لذلك، بشكل عام، تعتمد قدرة ناقل الفيروس على التوزيع والتكاثر
بشكل رئيسي على درجة حرارة المناخ.
ومن هذا المنطلق رأى عدة باحثون أن فيروس كورونا كغيره
من الأمراض المعدية يتأثر بدرجة الحرارة ومن المحتمل أن يؤدي ارتفاع درجة الحرارة
خلال فصل الصيف إلى القضاء عليه حيث يعتقد وفقًا لهذا السيناريو أن الفيروس يمكن
أن يعيش لمدة 4 أيام فقط على الأسطح وإذا كان في ظروف أكثر دفئًا فلن يبقى لتلك
الفترة، ويرى سيناريو آخر أن انتشاره سينخفض في الصيف لكنه سيعود مرة أخرى في
الشتاء ويصبح مستوطنًا. ومع ذلك إذا كان انتشار الفيروس سيقل بارتفاع درجات
الحرارة في نصف الكرة الشمالي فإن فرص انتشاره ستزيد في النصف الجنوبي لأنه سيكون
أكثر برودة. وعلى الجانب الآخر ؛ رأى آخرون أن فيروس (MERS) قد انتشر في المملكة العربية
السعودية في أغسطس 2003 في ظل الارتفاع الشديد في درجات الحرارة بما ينذر بوجود
احتمال بأن يزيد انتشار الفيروسات –ومن
بينها كورونا- خلال مواسم درجات الحرارة المرتفعة، ويفسر مؤيدو هذا الاتجاه تلك
النتيجة بأن بعض الفيروسات –مثل الانفلونزا- تكون أقل انتشارًا في الصيف لأن الناس
يقضون وقتًا أقل معًا في الأماكن الضيقة المغلقة، بجانب إغلاق المدارس والجامعات(2).
انتشار
الفيروسات والحد من تغير المناخ
في الوقت الذي تكافح فيه العديد من دول العالم فيروس
كورونا كمحاولة للحد من انتشاره والقضاء عليه لما له من تداعيات سلبية على
الاقتصاد وعلى الصحة وعلى الاستقرار السياسي أيضًا (3)، ظهرت عدة تقارير تؤكد أن
لانتشار الفيروس آثارًا إيجابية على أزمة تغير المناخ من خلال تأثيره على الطلب
على الطاقة وانبعاثات الغازات الدفيئة في الدول الموبوءة.
انخفاض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون
فتوصلت إلى انخفاض الطلب على الكهرباء والإنتاج الصناعي
إلى أدنى مستوياته في الصين، فقد انخفض استهلاك الفحم في محطات الطاقة بنسبة 36%،
وانخفضت معدلات تشغيل منتجات الصلب الرئيسية بأكثر من 15%، انخفض إنتاج الفحم
بنسبة 29%، انخفض استخدام فحم الكوك بنسبة 23%، كما انخفضت مستويات غاز ثاني أكسيد
النيتروجين بحوالي 30% (4). كما أسفرت تدابير احتواء فيروس
كورونا عن انخفاض في الانتاج من 15% إلى 40% في القطاعات الصناعية الرئيسية. جُل
هذا أدى إلى القضاء على ربع أو أكثر من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الصين على
مدار الأسابيع الأربعة الماضية بما قلل من مستويات التلوث في الصين كما هو موضح في
الشكل رقم (1)، في حين أنه في الفترة نفسها من عام 2019 أطلقت الصين حوالي 800
مليون طن من ثاني أكسيد الكربون، مما يعني أن انتشار فيروس كورونا تسبب في انخفاض
الانبعاثات العالمية بمقدار 200 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون حتى الآن(5).
انخفاض انتشار الجسيمات الدقيقة
وينطبق الشيء نفسه على الجسيمات الدقيقة التي اكتشفتها
خدمة مراقبة كوبرنيكوس الجوية (CAMS).
انخفضت تركيزات الجسيمات الدقيقة (PM2.5)
بشكل كبير في فبراير 2020 مقارنة بالسنوات الثلاث السابقة، "وهذا نتيجة
محتملة للانخفاض في النشاط". فبمقارنة الفرق بين المتوسط الشهري لشهر فبراير 2020 ومتوسط المتوسطات الشهرية لشهر فبراير 2017 و 2018 و 2019 ، فمن
الواضح أن هذه التحليلات تشير إلى انخفاض بنسبة 20 إلى 30٪ تقريبًا في PM2.5 في أجزاء كبيرة
من الصين في فبراير 2020، ومن المحتمل أن يعزى هذا الانخفاض جزئيًا إلى انتشار
فيروس كورونا وتدابير مكافحته (6).
يجدر الإشارة هنا إلى أن الجسيمات الدقيقة هي واحدة من
أهم ملوثات الهواء فيما يتعلق بالتأثيرات الصحية وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، لأن
هذه الجسيمات سواء كانت صلبة أو غازية أو سائلة في تركيبتها، لديها القدرة على
إثارة مشاكل صحية خطيرة عند استنشاقها في الجهاز التنفسي وتسبب أو تزيد من الأمراض
المزمنة وغيرها من مشاكل الجهاز التنفسي.
تحسن جودة الهواء
أدى إغلاق العديد من المدن في مقاطعة هوبي الصينية،
والتي بدأت في 23 يناير 2020، إلى إيقاف مجتمع بأكمله. هذا أثر على جودة الهواء،
نتيجة للانخفاض الشديد في حرق الوقود الأحفوري. صحيح أن السنة الصينية الجديدة
وفترة العطل التي تليها تتسبب في حدوث انخفاض قصير الأجل في انبعاثات ثاني أكسيد
الكربون كل عام، لكن التراجع الذي بدأ في وقت سابق من هذا العام، كان أسرع بكثير
ويستمر لفترة أطول. فعادة ما ينخفض توليد الطاقة من الفحم بمعدل 50% في الأيام
العشرة التالية لعشية رأس السنة الصينية الجديدة، ويعود إنتاج الفحم عادة إلى
مستواه الطبيعي بعد 20 يومًا وبالتالي تستمر معه زيادة الانبعاثات، ولكن على عكس
السنوات الأخرى، هذا العام استمر الانخفاض في الانبعاثات بشكل غير مسبوق (7).
تظهر السلسلة الزمنية لتركيزات ثاني أكسيد النيتروجين في
طبقة التروبوسفير فوق ووهان ونانجينج أن التركيزات حتى نهاية عام 2019 لا تزال
مماثلة للتركيزات في عام 2018. في حين أن تركيز ثاني أكسيد النيتروجين في ووهان –مركز
فيروس كورونا- بدأ فقط في الانخفاض في 5 فبراير 2019 عقب احتفالات السنة الصينية الجديدة،
ثم ترتفع التركيزات ببطء إلى مستوياتها الطبيعية، ولكن هذا العام ظلت التركيزات تستمر
في الانخفاض حتى وصلت إلى مستوى أقل 50% عن العام الماضي بسبب الإغلاق وغيرها
التدابير المتخذة للحد من انتشار فيروس كورونا. ولم يقتصر تأثير الفيروس على
الانبعاثات في هذه المدن الكبرى فقط ولكنه شمل جميع أنحاء الصين فقلت مستوياتها
بنسبة 30% عن نفس الفترة من عام 2019 كما هو موضح بالشكل رقم (4)
وفي الختام، يمكن
القول بأنه لا يوجد اتفاق حول مساهمة تغير المناخ عبر ارتفاع درجات الحرارة في
القضاء على فيروس كورونا والحد من انتشاره بشكل نهائي أو بشكل مؤقت خلال فصلي
الربيع والصيف ثم يعود في فصل الشتاء. رغم ذلك، تم التوصل إلى تأثير انتشار
الفيروس وتدابير مكافحته إيجابًا في تغير المناخ من خلال مساهمته في تخفيض نسبة
ثاني أكسيد الكربون –بسبب تراجع استخدام الوقود الأحفوري- والجسيمات الدقيقة،
بجانب مساهمته في تحسين جودة الهواء في الصين عبر تقليل نسبة ثاني أكسيد النيتروجين.
الهوامش
(1) JA
Patz, PR Epstein et al., “Global climate change and emerging infectious diseases,”
JAMA Network, 17/1/1996, Vol.275, No.3, pp.217-223.
(2)
Michael Le Page, “Will the covid-19 coronavirus outbreak die out in the
summer’s heat?,” NewScientist, 12/2/2020, available at: https://www.newscientist.com/article/2233249-will-the-covid-19-coronavirus-outbreak-die-out-in-the-summers-heat/.
(3)
للمزيد انظر: ريم عبدالمجيد، " عولمة الأمراض
المعدية .. كورونا وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية،" المركز العربي
للبحوث والدراسات، 29/1/2020، متاح على: http://www.acrseg.org/41481.
(4)
NO2 هو غاز مؤكسد قوي، يخترق بسهولة الرئتين. بتركيزات تزيد عن 200
ميكروجرام/ م 3 على مدى فترات قصيرة، ويسبب تهيج والتهابات في الجهاز
التنفسي، ويتفاعل ثاني أكسيد النيتروجين في الهواء الحضري ويساهم في تكوين
الملوثات الأخرى والأوزون والجزيئات الثانوية.
(5) Lauri Myllyvirtam
“Analysis: Coronavirus has temporarily reduced China’s CO2 emissions by a
quarter,” Carbon Brief, 19/2/2020, available at: https://www.carbonbrief.org/analysis-coronavirus-has-temporarily-reduced-chinas-co2-emissions-by-a-quarter.
(6)
“Amid Coronavirus
outbreak: Copernicus monitors reduction of particulate matter (PM2.5) over
China,” Atmosphere monitoring service, 4/3/2020, available at: https://atmosphere.copernicus.eu/amid-coronavirus-outbreak-copernicus-monitors-reduction-particulate-matter-pm25-over-china.
(7) “TROPOMI observes the
impact of the corona virus on air quality in China,” Aeronomie,
24/2/2020, available at: https://www.aeronomie.be/en/news/2020/tropomi-observes-impact-corona-virus-air-quality-china.