البيئة الأوروبية بين الوضع الراهن والتوقعات .. المعرفة للانتقال إلى أوروبا مستدامة
تواجه أوروبا احتمال تعرضها لخطر تغير عنيف في المناخ ما
لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة لمواجهة ظاهرة الاحتباس الحراري، هذا السيناريو هو ما
أوضحته الوكالة الأوروبية للبيئة (EEA) في
تقريرها الذي أصدرته في نهاية العام الماضي 2019(1)، والذي يرصد حالة المناخ
في أوروبا والكوارث الطبيعية المحتمل أن تصيبها من جفاف وفيضانات وحرائق غابات
وارتفاع منسوب مياه البحر، ومستقبلها وسبل مواجهة هذا الخطر. وفيما يلي عرض لأبرز
ما جاء في التقرير.
أوروبا
في سياق عالمي متغير
تكمن جذور
التحديات البيئية والاستدامة التي تواجهها أوروبا اليوم في التطورات العالمية التي
امتدت على مدار عقود. فقد أدى التسارع الكبير للنشاط الاجتماعي والاقتصادي إلى تحول
في علاقة الإنسان بالبيئة. فمنذ عام 1950، تضاعف عدد سكان العالم ثلاث مرات ليصل إلى
7.5 مليار، تضاعف عدد السكان الذين يعيشون في المدن أربعة أضعاف إلى أكثر من 4 مليارات
شخص مقارنة بسكان الريف؛ توسع الناتج الاقتصادي بمقدار 12 ضعفًا مترافقًا مع زيادة
مماثلة في استخدام الأسمدة النيتروجينية والفوسفات والبوتاسيوم، وزاد استخدام الطاقة
الأولية خمسة أضعاف. وبالنظر إلى المستقبل، يبدو أن هذه التطورات العالمية ستستمر في
زيادة الضغوط على البيئة. فمن المتوقع أن يرتفع عدد سكان العالم إلى 10 مليارات بحلول
عام 2050. وقد يتضاعف استخدام الموارد بحلول عام 2060، مع زيادة الطلب على المياه بنسبة
55 ٪ بحلول عام 2050 وزيادة الطلب على الطاقة بنسبة 30 ٪ بحلول عام 2040.
حقق هذا التسارع الكبير فوائد عدة، حيث
خفف من المعاناة وعزز الرخاء في أجزاء كثيرة من العالم. على سبيل المثال، انخفضت نسبة
سكان العالم الذين يعيشون في فقر مدقع بشكل حاد من 42٪ في عام 1981 إلى أقل من 10٪
في عام 2015. ومع ذلك، تسببت نفس التطورات أيضًا في أضرار واسعة النطاق للنظم الإيكولوجية.
فنحو 75٪ من البيئة الأرضية و40٪ من البيئة البحرية قد تغيرت الآن بشدة. هذه التغييرات
التي طرأت على نظام المناخ العالمي والتي لوحظت منذ خمسينيات القرن الماضي ناتجة إلى
حد كبير عن انبعاثات غازات الدفيئة الناتجة عن الأنشطة البشرية، مثل حرق الوقود الأحفوري
والزراعة وإزالة الغابات. وبشكل مباشر وغير مباشر، تُسبب هذه الضغوط ضررًا
كبيرًا على صحة الإنسان ورفاهه. على سبيل المثال، يزيد العبء العالمي للأمراض والوفاة
المبكرة المرتبطة بالتلوث البيئي، ثلاث مرات عن عبء الإيدز والسل والملاريا مجتمعين.
ويمكن لاستمرار التسارع الكبير أن يخلق تهديدات بعيدة المدى إذا تسببت الضغوط في انهيار
النظم الإيكولوجية مثل القطب الشمالي والشعاب المرجانية وغابات الأمازون. فالتحولات
المفاجئة التي لا رجعة فيها من هذا النوع يمكن أن تعرقل بشدة قدرة الطبيعة على تقديم
الخدمات الأساسية مثل توفير الغذاء والموارد، والحفاظ على المياه النظيفة والتربة الخصبة،
وتوفير حاجز ضد الكوارث الطبيعية.
وبصفتها رائدة في مجال التصنيع، لعبت أوروبا دورًا محوريًا
في تشكيل هذه التغييرات العالمية. فإلى اليوم، ما زالت تستهلك موارد أكثر وتسهم في
تدهور البيئة أكثر من مناطق العالم الأخرى. ولتلبية هذه المستويات العالية من الاستهلاك،
تعتمد أوروبا على الموارد المستخرجة أو المستخدمة في أجزاء أخرى من العالم، مثل المياه
والأراضي والكتلة الحيوية وغيرها من المواد. نتيجة لذلك، تحدث العديد من الآثار البيئية
المرتبطة بالإنتاج والاستهلاك الأوروبيين خارج أوروبا.
السياسات
البيئية في أوروبا في عام 2020
في عام
2020، تواجه أوروبا تحديات بيئية ذات حجم وإلحاح لم يسبق لهما مثيل. على الرغم من أن
سياسات البيئة والمناخ في الاتحاد الأوروبي قد حققت فوائد كبيرة خلال العقود الأخيرة،
إلا أن أوروبا تواجه مشاكل مستمرة في مجالات مثل فقدان التنوع البيولوجي، واستخدام
الموارد، وتأثيرات تغير المناخ والمخاطر البيئية على الصحة والرفاه. وتؤدي الاتجاهات
الكبرى العالمية مثل التغير السكاني إلى تكثيف عديد التحديات البيئية، بينما يؤدي التغير
التكنولوجي السريع إلى ظهور مخاطر وشكوك جديدة.
هدفت
السياسات البيئية للاتحاد لتحقيق ثلاثة أولويات: حماية رأس المال الطبيعي للاتحاد
الأوروبي والحفاظ عليه وتعزيزه، تحول الاتحاد إلى الاقتصاد غير قائم على الكربون
يتميز بالكفاءة في استخدام الموارد، وأخيرًا حماية مواطني الاتحاد الأوروبي من
الضغوط والمخاطر المرتبطة بالبيئة على صحتهم ورفاههم. ولكن رغم هذه السياسات، لم
تحرز أوروبا تقدمًا كافيًا لمواجهة التحديات البيئية المتسارعة. فرأت الوكالة
الأوروبية للبيئة أن رأس المال الطبيعي لم يتم حمايته والحفاظ عليه وتعزيزه، فتوجد
نسبة صغيرة من الأنواع المحمية (23% فقط)، وأكدت أن أوروبا ليست على المسار الصحيح
لتحقيق هدفها العام المتمثل في وقف فقدان التنوع البيولوجي في عام 2020، وأن الاتحاد
الأوروبي بعيد عن تحقيق وضع إيكولوجي جيد لجميع المسطحات المائية في عام 2020. فرغم
تحسن إدارة الأراضي، الزيادة المستمرة في تجزئة المناظر الطبيعية أدت إلى تدمير الموائل
والتنوع البيولوجي. كما لا يزال تلوث الهواء يهدد التنوع، حيث يتعرض 62٪ من مساحة النظام
البيئي في أوروبا لمستويات النيتروجين المفرطة مما يتسبب في القضاء على أنواع
كثيرة. وتستمر أنشطة مثل الزراعة ومصايد الأسماك والنقل والصناعة وإنتاج الطاقة واستخراج
الموارد والانبعاثات الضارة في التسبب في ضياع التنوع البيولوجي.
وفيما
يتعلق بالاقتصاد فقد أقرت الوكالة الأوروبية أن الاتحاد حقق تقدمًا في خفض استهلاك
المواد وتحسين كفاءة استخدام الموارد مع زيادة الناتج المحلي الإجمالي. وانخفضت انبعاثات
غازات الدفيئة بنسبة 22٪ بين عامي 1990 و2017، وذلك بسبب كل من تدابير السياسة والعوامل
الاقتصادية. وزادت حصة مصادر الطاقة المتجددة في الاستهلاك النهائي للطاقة بشكل مطرد
إلى 17.5٪ في عام 2017. وقد تحسنت كفاءة استخدام الطاقة، وانخفض الاستهلاك النهائي
للطاقة إلى ما يقرب من المستوى في عام 1990. كما وتم تخفيض انبعاثات الملوثات في الهواء
والماء، في حين أن إجمالي استخراج المياه في الاتحاد الأوروبي انخفض بنسبة 19٪ بين
عامي 1990 و2015. ولكن الاتجاهات الحديثة تعكس تراجعًا
كبيرًا، فعلى سبيل المثال؛ زاد الطلب على الطاقة فعليًا منذ عام 2014، وإذا استمر ذلك،
فقد لا يتم تحقيق هدف الاتحاد الأوروبي لعام 2020 الخاص بكفاءة الطاقة. كما ارتفعت
الانبعاثات الضارة الناجمة عن النقل والزراعة، وزاد إنتاج واستهلاك المواد الكيميائية
الخطرة. وتشير التوقعات لعام 2030 إلى أن معدل التقدم الحالي لن يكون كافيًا لتحقيق
أهداف المناخ والطاقة لعامي 2030 و 2050. بالإضافة إلى ذلك، لم تكن معالجة الضغوط البيئية
من القطاعات الاقتصادية من خلال التكامل البيئي ناجحة، كما يتضح من الآثار المستمرة
للزراعة على التنوع البيولوجي وتلوث الهواء والماء والتربة.
ورغم
تحقيق أوروبًا نجاحًا نسبيًا في حماية الأوروبيين من المخاطر البيئية على الصحة والرفاه،
لا تزال هناك مستمرة في بعض المناطق. على سبيل المثال، على الرغم من أن انبعاثات ملوثات
الهواء قد انخفضت ، فإن ما يقرب من 20٪ من سكان الحضر في الاتحاد الأوروبي يعيشون في
المناطق التي تتركز فيها ملوثات الهواء على مستوى واحد على الأقل من معايير جودة الهواء
في الاتحاد الأوروبي. ولا تزال صحة الإنسان ورفاهه تتأثر بالضوضاء والمواد الكيميائية
الخطرة وتغير المناخ. من المرجح أن يؤدي تسريع التغير المناخي إلى زيادة المخاطر ،
خاصة بالنسبة للفئات المستضعفة. بالإضافة إلى ذلك، لا تؤثر المخاطر البيئية على الصحة
على الجميع بنفس الطريقة، فهناك اختلافات محلية وإقليمية واضحة في جميع أنحاء أوروبا
من حيث التعرض لمخاطر الصحة البيئية.
نحو تفسير استمرار
التحديات البيئية:
يمكن تفسير
استمرار التحديات البيئية الرئيسية من خلال مجموعة متنوعة من العوامل، أولها أن
الضغوط البيئية لا تزال كبيرة رغم التقدم المحقق في الحد منها. يضاف لذلك تباطؤ
وتيرة التقدم في بعض المجالات المهمة مثل انبعاثات غازات الدفيئة والانبعاثات الصناعية
وتوليد النفايات وكفاءة الطاقة وحصة الطاقة المتجددة. كما أن تعقيد النظم البيئية يسبب
في وجود فارق زمني كبير بين تقليل المخاطر البيئية وملاحظة التحسن في رأس المال
الطبيعي وصحة الإنسان ورفاهه. ومن بين العوامل دوافع التغيير، فلا تزال آثار
التطورات التكنولوجية والجيوسياسية غير واضحة مما يؤدي لعدم تحفيز الحكومات،
القطاع الخاص، والشركات متعددة الجنسيات للاستجابة للتحديات البيئية بتغيير
سياساتهم.
يضاف لما
سبق، ارتباط التحديات البيئية والاستدامة المستمرة في أوروبا ارتباطًا وثيقًا-في
حلقة متصلة- بأنشطة وأساليب الحياة الاقتصادية والنظم الاجتماعية التي توفر
للأوروبيين ضرورات مثل الغذاء والطاقة والنقل، فيرتبط استخدام الموارد والتلوث
بالوظائف، والاستثمارات الرئيسية في البنية التحتية والآلات والمعارف، والسلوكيات
وطرق المعيشة، والسياسات والمؤسسات العامة. وتعني هذه الروابط وجود حواجز كبيرة
أمام تحقيق التغيير السريع، والبعيد المدى اللازم لتحقيق أهداف الاستدامة في
أوروبا، إحدى تلك الحواجز تتمثل في أن معالجة المشكلات في قطاع ما يؤدي إلى ضرر
غير مقصود في القطاعات الأخرى. على سبيل المثال، للحد من الاعتماد على الوقود
الأحفوري عبر استخدام الوقود الحيوي يتم إزالة الغابات ويتسبب ذلك أيضًا في زيادة
أسعار المواد الغذائية.
سبل
المواجهة لتحقيق الاستدامة
برغم التحليل الوارد في الأجزاء الثلاثة من التقرير الذي
يؤكد استمرار التحديات التي تواجه أوروبا رأت الوكالة في الجزء الأخير أن تحقيق
الاستدامة مازال ممكنًا ولكنه سيتطلب تحولًا جذريًا من خلال تنفيذ الإجراءات
التالية:
تعزيز تنفيذ وتكامل واتساق السياسات: حيث سيتطلب التنفيذ الكامل للسياسات البيئية الحالية
وحتى عام 2030، زيادة التمويل وبناء القدرات، إشراك رجال الأعمال والمواطنين، تنسيق
أفضل للسلطات المحلية والإقليمية والوطنية، وقاعدة معرفة أقوى. وبعد التنفيذ، ستحتاج
أوروبا إلى معالجة الثغرات والضعف في السياسات، وكذلك تحسين دمج الأهداف البيئية في
السياسة القطاعية، وكذلك تعزيز تماسك السياسات.
تطوير المزيد من السياسات
العامة طويلة الأجل والأهداف الملزمة: تعتبر السياسات الاستراتيجية التي تتناول الأنظمة
الرئيسية (مثل الطاقة والتنقل) وتشجيع التحول إلى اقتصاد منخفض الكربون ودائرية أدوات
مهمة لتحفيز وتوجيه العمل المترابط عبر المجتمع. لكن السياسة الطويلة الأجل تحتاج إلى
توسيع نطاقها لتشمل أنظمة وقضايا مهمة أخرى، مثل الغذاء والمواد الكيميائية واستخدام
الأراضي. هناك حاجة أيضًا إلى استراتيجيات شاملة قابلة للمقارنة على مستويات الحكم
الأخرى- بما في ذلك البلدان والمناطق والمدن.
قيادة العمل الدولي نحو الاستدامة: انطلاقًا من كون المشكلات البيئية عالمية وليست محلية
فقط، لا يمكن لأوروبا تحقيق أهداف الاستدامة بمعزل عن غيرها، لأن هذه المشكلات العالمية
تتطلب استجابات عالمية. وقد ينجح الاتحاد الأوروبي في القيام بهذا الدور لتمتعه بنفوذ
دبلوماسي واقتصادي كبير يمكن استخدامه للترويج لاعتماد اتفاقيات طموحة في مجالات مثل
الطاقة النظيفة، التنوع البيولوجي واستخدام الموارد.
تعزيز الابتكار في جميع
أنحاء المجتمع: يعتمد
التغير نحو الاستدامة بشكل حاسم على ظهور وانتشار
أشكال متنوعة من الابتكار التي يمكن أن تؤدي إلى طرق جديدة للتفكير والمعيشة، طرق
مختلفة للإنتاج والاستهلاك. هذا الابتكار سيكون نتاجًا عن تضافر جهود الشركات
ورجال الأعمال والباحثين بجانب المؤسسات العامة التي تلعب دورًا حيويًا في تمكين
التغيير المنهجي المستدام.
زيادة الاستثمارات وإعادة توجيه التمويل: على الرغم من أن تحقيق التغير نحو الاستدامة سيتطلب استثمارات
كبيرة، فإن الأوروبيين سيحققون مكاسب هائلة - بسبب تجنب الأضرار التي تلحق بالطبيعة
والمجتمع، وبسبب الفرص الاقتصادية والاجتماعية التي يخلقونها. من هذا المنطلق يجب
على الحكومات دعم الاستثمار في الابتكارات والحلول القائمة على الطبيعة،
والشراء بشكل مستدام، ودعم القطاعات والمناطق المتأثرة. ولهم أيضًا دور أساسي في تعبئة
وتوجيه الإنفاق الخاص من خلال تشكيل خيارات الاستثمار والاستهلاك، وإشراك القطاع المالي
في الاستثمار المستدام.
إدارة المخاطر وضمان
الانتقال العادل اجتماعيًا: تتطلب
الإدارة الناجحة لتحولات الاستدامة أن تعترف المجتمعات بالمخاطر والفرص الناشئة المتعلقة
بالتطورات التكنولوجية والمجتمعية مع الطرق التكيفية، القائمة على التجريب والرصد والتعلم. على سبيل المثال، التطورات التكنولوجية تؤثر سلبيًا على حجم ونوعية الوظائف وفرص العمل
المتاحة بما يؤدي لاختفاء وظائف (خطر)، ولكنها في ذات الوقت تؤدي إلى استحداث
وظائف جديدة (فرص) وبالتالي على الحكومات لتحقيق "تحولات عادلة"، أن
تقوم بتدريب تحويلي على سبيل المثال للموظفين المهددين.
ربط المعرفة
بالإجراءات: يتطلب تحقيق
انتقالات الاستدامة معرفة جديدة متنوعة حول الضغوط البيئية، مسارات الاستدامة،
المبادرات الواعدة والمعوقات التي تحول دون إحداث التغيير، الخ.
وختامًا، يجب التأكيد على أن أوروبا لن
تحقق رؤيتها المستدامة حول "العيش الجيد، داخل حدود كوكبنا" عن طريق
تشجيع النمو الاقتصادي والسعي لإدارة الآثار الضارة له باستخدام أدوات السياسة
البيئية والاجتماعية، بل من خلال جعل الاستدامة المبدأ الموجه للسياسات والإجراءات
في جميع أنحاء المجتمع. وسيتطلب تمكين التحول المستدام أن تعمل جميع الجهات
الرسمية وغير الرسمية معًا لتحقيقه.
المصدر
(1) European Environment Agency, “The European environment state and outlook 2020: knowledge for transition to a sustainable Europe,” (Luxembourg: Publications Office of the European Union, 2019)