ظهرت العلاقة بين الدين والدولة في أوروبا على الدوام
كأنموذج يُحتذى به عند المثقفين التنويريين من العلمانيين العرب، ولسنوات ولليوم يُبشِر
العلمانيون العرب بأوروبا العلمانية كيوتوبيا للشكل الذي يجب أن
تأخذه العلاقة بين الدين والدولة. ورغم
النجاح الذي حققته أوروبا في تحييد الدين عن الحياة السياسية بدرجة لا تخطئها عين،
خاصة في ستينات القرن الماضي، لكن مع ذلك فلا يؤخذ الأمر على عناته، فالعلاقة جد
معقدة ومتوترة في غالب الأحيان، ومع توالي الشواهد التي تشي بدور يبرز للدين في
الحياة العامة الأوربية، يدعونا هذا إلى إعادة النظر في تشكلات وتمظهرات هذه
العلاقة في واقع أوروبا اليوم، ومن ثم الاستفادة من إدارة أوروبا لهذه العلاقة
المتوترة سلبًا أو إيجابًا، في حالتنا العربية.
في رأيي يلزمنا النظر بروية وشك أحيانًا أمام ما يقدمه
مثقفونا من تحليلات لحركة العلمنة الأوربية، والتي للمفارقة تضع العلمانية أمامنا
كمُسلمة متحققة في الواقع الأوربي ولا تقبل التشكيك فيها، رغم أنها نفسها المسلمة
التي يتلاسن بشأنها مفكري الغرب اليوم ويخوضون من أجلها معارك فكرية عديدة، لذا في
هذا المقال نطرح ما يمكن أن يسهم على الأقل في زحزحة هذه المقولة المُسبقة عن وجود
وتحقق علمانية أوربية نقية، إذ نجادل بأن أوروبا لا تعرف علمانية نقية أولا، ولا
تعرف علمانية واحدة بل علمانيات متعددة ثانيًا.
حركة العلمنة تاريخيًا .. الزحف
المقدس للدولة
لسنوات عديدة ظلت الكنيسة هي المهيمن الأول على الحياة
الأوربية بكافة أشكالها، حتى حدث تحول جوهري مع صلح وستفاليا في اتجاه فصل الدين
عن الدولة، لكن في الحقيقة لم يكن ما حدث اتجاهاً للفصل والتحييد كما يؤرخ كثيرون
وفقط، بل اقترن بهذا التحييد "تأميم للدين" لصالح الدولة، فالدولة
الحديثة منذ النشأة لم تشأ أن يحز أي كيان أخر قوة موازنة لها، والكيان الوحيد
الذي كان يحوز هذه القوة، كانت الكنيسة، مع ما تحمله من ترسانة رمزية يمدها بها
الدين وطقوسه، حسمت الدولة الحديثة خيارها منذ البداية باتجاه تأميم الدين لصالحها،
ومن ثم الهيمنة على رمزياته، وتطويعها بما يخدم رمزيتها هي، فباتت الدولة هي
المقدس الوحيد، مع تحييد الدين كمقدس تاريخي، بهذا الشكل لم تلغي الدولة الدين، بل
أممته لصالحها وبما يخدم توجهاتها، ومعظم نماذج العلمنة الأوربية نحت هذا المنحى، وإن
كنا نستثني فرنسا اللائكية والتي لها خصوصية في علمانيتها كما سنورد لاحقًا، لكن
خارج فرنسا فإن العلاقة بين الدين والدولة كان خطها الرئيس هو الاستفادة المتبادلة
بين الدين والدولة، فالدين ورجاله يستفيدون من الدولة وسلطتها وعطاياها، والدولة
تستفيد من رمزية الدين لإضفاء شرعية لوجودها.
وعلى الجُملة
يمكن القول أن حركة العلمنة كانت في محصلتها النهائية تعبيرًا عن انكسار
المعادلة التاريخية التقليدية القائمة على الكنيسة المستحوذة على الدولة لصالح
معادلة جديدة تحتل فيها الدولة اليد العليا فوق الكنيسة. [1]
أوروبا
اليوم .. الزحف المقدس للدين
يبدو أن الاتجاه العالمي لمسار التطورات الاجتماعية والسياسية،
يسير نحو تأكيد عودة دور الدين بشكل متصاعد في الحياة العامة بكافة تجلياتها. لقد
وصلت العلمانية عالميًا إلى ذروة غير مسبوقة في ستينيات القرن العشرين؛ غير أن
الاتجاه نحو التدين أخذ يعود بدرجات متفاوتة في الكثير من مناطق العالم. وهو تدين لم
ينحصر فيما عُرف بـ "الصحوة الإسلامية" التي اجتاحت مناطق واسعة من
العالم الإسلامي منذ سبعينيات القرن الماضي، ولكنه اتسع ليعبِر عن نفسه بأشكال
مختلفة في أوساط المسيحيين وأتباع الديانات المختلفة. وفي السنوات الماضية، أخذ
هذا الاتجاه يتزايد اجتماعيًا وسياسيًا في أوروبا والولايات المتحدة وغيرها. [2]
ففي أوروبا اليوم ثمة زحف مقابل يقوم به الدين، فيما
يمثلُ قطيعة مع مسار تاريخي ممتد كانت فيه الدولة هي المتوغلة على حساب الدين، تعيش
أوروبا اليوم مدًا عكسيًا فيه يعود الدين ليلعب دورًا محوريًا ليس في سياستها
الداخلية وفقط، بل على مستوى صناعة السياسة الخارجية أيضًا.
والبعض قد يجادل
بأن أوروبا قد قطعت علاقتها بالدين بشكل بات لا يقبل التشكيك فيه، لكن هؤلاء
يتخيلون نمطًا واحدًا لوجود الدين في الحياة العامة والسياسية، إذ يوجدون ملازمة
بين دور الكنيسة في أوروبا القروسطية، وبين دور الدين الآن، وكأن هذا هو الشكل
والتمثُل الوحيد الذي يمكن للدين أن يلعبه في الحياة العامة، لكن على الحقيقة فإن
الكنيسة تعود في عالم اليوم وبقوة، قد يختلف الشكل لكن يظل الهدف واحد وهو التأثير
في صناعة القرار بغرض تحقيق مكاسب محددة.
فإتجاه الكنيسة لمسارات تنموية وخيرية وروحية لا يمكن تسكينه فقط في باب
تهميشها الذي يؤدي بها إلى التركيز على الساحات التي تبدو هامشية وغير مؤثرة.
في رأينا ما
فعلته الكنيسة في عقودها الأخيرة يمكن تأويله بشكل أعمق من ذلك، إذ أنه يمثل فهم
عميق من الكنيسة والمؤسسة الدينية في أوروبا للمعادلة السياسية الجديدة التي
طرحتها حركة العلمنة على مدى عقود، فالكنيسة اليوم تتسابق في تقديم الخدمات الصحية
والمساعدات الاقتصادية أو المرتبطة بشبكات التضامن الاجتماعي كمحاولة لتعويض
المساحة التي انسحبت فيها مؤسسات الدولة لصالح المؤسسات الرأسمالية، لذا فإن كل
أرض تخسرها الدولة وتتركها للمجتمع المدني فإن الكنيسة تكسب منها جزءًا كبيرًا، وهي
معادلة متفق عليها بشكل من الأشكال في معظم نماذج المواءمة الأوربية للعلمنة، لذا
فليس من الغريب أن يخرج علينا البنك الدولي في أكثر من مناسبة للإشارة إلى أهمية
دور المؤسسات الدينية في عملية التنمية ومحاربة الفقر، وهو ما يؤكد على تبدل
الأدوار التي يلعبها الدين بتغير السياق وأدوات اللعبة.
للزحف المقدس أشكال أخرى عديدة ربما لا يتسع المجال هنا
لدراستها بشكل معمق، فصعود اليمين الأوربي اليوم يمثل في جزء كبير منه استعادة
للدين في الحياة السياسية، فاليمين ينطلق من مخاوف هوياتية على مسيحية أوروبا التي
يهددها كما يرى جل رجالات اليمين انتشار الدين الإسلامي في العديد من دول أوروبا
خاصة فرنسا وبلجيكا.
فالأوربيون يشعرون
اليوم أكثر من أي وقت مضى بهذا التهديد الناعم للهوية الأوربية، فقد شهدت أوروبا
منذ ستينيات القرن الماضي تحولات كبيرة قطعت بشكل كبير مع التاريخ المسيحي للقارة
العجوز. وفي زمن انهيار الإرث المسيحي، يبرز الإسلام كقوة دينية يصنفها بعض
الأوروبيين تهديدًا لما تبقى من هويتهم المسيحية، وإرثها الذي فقد كثيرًا من
بريقه. [3] ويرى البعض أن هذه المخاوف على مسيحية أوروبا قد تنعكس مستقبلًا على
شكل ارتداد عكسي للمسيحية احتماًء بها، وكفعل قد يكون في جزء منه لاشعوري أمام الخوف
من هذا التهديد الهوياتي.
وتأكيدًا على فكرة عودة الدين يذكر الفيلسوف الفرنسي
ريمي براغ، في سياق لقاء أجرته معه جريدة "لوفيغارو" الفرنسية: "أن
الدين لم يذهب دون رجعة، كما نعتقد خاطئين، وعودته مؤكدة في مرحلة، وبقوة أكثر.
وهنا لابد من استعمال الكلمات الصحيحة، لابد من مشروع فكري للتمييز بين ما يذهب
ولا يعود، بل ويُدفن في ظلمة الزمن، وبين ما يذهب ويختبئ ثم يفاجئنا بعودة أقوى
وأكثر رسوخًا، كما هو حال الدين". [4]
علمانيات
أوروبا المتعددة
في أوروبا لا يمكن أبدًا الحديث عن علمانية واحدة، بل عن
علمانيات متعددة، فلدينا العلمانية الفرنسية ذات الخصوصية الفريدة كواحدة من أشد
النماذج العلمانية حدية في الفصل بين الدين والدولة، فهي نموذج ثقيل لا ينحو فقط
نحو فصل ما هو سياسي زمني عن ما هو ديني متجاوز، بل إلى فصل الدين عن كل مناحي
الحياة وفي كل تقاطعاتها، فلا تكتفي الدولة في هذه الحالة بفصل الدين عن السياسة
بل تعمل على اجترار الدين من الثقافة العامة ومؤسسات الدولة ومناهج التعليم، وتُجرم
وتمنع ظهوره في الفضاء العام كممارسات جماعية، لذا فهي تعيد الدين إلى فضاء
الكنيسة ودُور العبادة بشكل عام، والعمل على تنقية مؤسسات الدولة والتوجهات العامة
من أي طابع ديني قد تتسم به.
ولدينا علمانية
ألمانية تميل إلى الاعتدال والربط بين الدين والدولة في علاقة متناغمة تحقق
للطرفين الكثير من المصالح، إذ نرى قدرًا من الفصل المعتدل بين الدين والدولة، فلا
نرى تدخلًا من الدولة للهيمنة على المؤسسة الدينية والكنسية، وإن كان هذا الأمر
سيظل نسبيًا إذا سلمنا بقاعدة أن العلمانية منذ النشأة الأوربية كانت تأسيسًا
لهيمنة الدولة على الدين.
لدينا أيضًا العلمانية البريطانية، وهي النموذج الأشد
ربطًا بين الدين والدولة، إذ يتيح النظام الملكي نوعًا من الامتياز الخاص للكنيسة
الأنجليكانية، ولا تتردد هذه الأخيرة في إسناد الملكية بطقوسها ورمزياتها الدينية،
لذا فبريطانيا على الضد من فرنسا الجارة تمثل أنموذجًا فريدًا في الربط بين
الكنيسة والدولة[5]، ولها كنيستها الرسمية التي يُجمع عليها البريطانيون، وترأسها
الملكة، ولها تمثيلها المعتبر في مجلس اللوردات بعدد 26 من الأعضاء المعينين.
هل العلمانية عالمية؟
إذا كنا
نتحدث عن علمانيات أوربية متعددة، وأشكالًا متباينة من العلاقة بين الدين والدولة،
فهل بعد هذه النسبية، يمكن للبعض أن يتحدثوا عن حتمية الحل العلماني؟ وعن أن
العلمانية أفق إنساني، سيمتد لكل دول العالم، وأنه عاجلًا أو أجلًا سينحصر الدين
من الشأن العام، فعند هؤلاء إذا كان نيتشه قد أعلن موت الإله، فإن عصورنا الحالية
ستعلن موت الدين هو الأخر، وتصفيته من الثقافة الإنسانية بشكل كامل.
وفي
الحقيقة هذا السؤال هو جدال متجدد، فالفيلسوف مارك تايلور في كتابه «في رحاب الرب»
يعتقد بأن العلمانية «ظاهرة دينية مستقاة من التقاليد المسيحية التقليدية». ويضيف
أن العلمانية والحداثة متلازمتان ولكن كلتاهما متجذرتان في دين الغرب. وتكمن
المغالطة عنده في حقيقة أن الحداثة، وخاصة التنوير، جعلانا نظن أن العلمانية مفهوم
عالمي. لكن أول ظهور لتلك المبادئ كان في المجتمعات المسيحية. وحتى مع فصل الدين
عن الدولة، فلا يمكن اقتلاع قرون من التقاليد من الثقافة.
ما يطرحه
تايلور هنا هو ببساطة تشكيك في حتمية الحل العلماني، خاصة بنمطه اللائكي الفرنسي،
لكنه يبقى جدال ممتد على كل حال، لا يحسمه غير مستقبل العلمانية، خاصة في العالم
الشرقي وخارج أوروبا، حيث المجتمعات التي يتجذر الدين في بنيتها الثقافية، وتعلو
فيها الروحانية بدرجة تتجاوز مثيلتها الأوربية.
خاتمة
يتضح من
هذا العرض للعلمانية في أوروبا، أن العلمانية كممارسة هي في طور التطور والتحديث
المستمر، فهي متجددة بطبيعتها، وتواجه إشكالاتها بما يشبه حالة الانفعال الذاتي
المتجدد، فهم هذا التطور، يساعدنا في التخفيف من جلد الذات الذي يقدمه لنا مثقفونا،
فيما يخص رداءة العلاقة بين الدين والدولة في عالمنا العربي والإسلامي، فثمة نماذج
عديدة يمكن لعالمنا الاستفادة منها، لا تقتصر على العلمانية الفرنسية وحدها، بل
تمتد لعلمانيات أخرى أكثر اعتدالًا، ويتم اختيارها بناءً على سياقات متداخلة، مرة
يتقدم الدين لتتأخر الدولة، وفي أخرى يتراجع الدين ليترك المجال للدولة، وهكذا في
تداولية سياقية.
وفي النهاية يظل الأخذ بالعلمانية من عدمه هو نقطة جدال أولية قبل الدخول في نوعها ودرجتها، لكنها نقاشات لابد منها وتخرج للسطح مع كل تمظهر جديد للدين ومؤسساته في النقاش العام.
قائمة
المراجع
1- رقيق عبد السلام: السياسة والدين في
الغرب الحديث، المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث،
على الرابط: https://2u.pw/8TNpr
2- محسن محمد صالح: ما بعد العلمانية.. العودة إلى الدين
(1)، عربي 21، على الرابط: https://2u.pw/mrhY7
3- مصطفى فرحات: “أوروبا... هل هي مسيحية؟ “.. صراع الدين
والعلمانية في القارة العجوز، الجزيرة، على الرابط: https://2u.pw/IJbep
4- محمود عبد الغني: الفيلسوف الفرنسي ريمي براغ: عودة الدين مؤكدة.. بقوة أكثر!، العربي الجديد، على الرابط: https://2u.pw/ZRNnE
5- Francois Foret and Xabiar Itcaina: Politics and Realign in Western Europe: modernities in conflict? London and New York، Routledge، first published 2012، P. 127.