في نقد المهرجانات .. عن الجهاد الأصغر الذي لا يُغني عن الجهاد الأكبر (2-2)
أسسنا في مقالنا الأول
لفكرة أن منع المهرجان من الوجود، هي فكرة لا تتحلى بالحد الأدنى لا من الحكمة
وحدها، بل حتى من البرجماتية، فالمنع في عالم اليوم، هي فكرة على أقل تقدير تتسم
بقدر كبير من السذاجة، في عالم معولم أصغر حتى من القرية الصغيرة. لذا فأننا في
هذا المقال الثاني والأخير من هذه السلسلة، نطور فكرة أخرى للتعاطي مع الظاهرة
الناشئة، وهي فكرة لا تعالج الأثار السطحية للظاهرة، ولا تنحو للاشتباك المباشر مع
الظاهرة، بل تثبر عمقها، لتبحث عن حلول لجذور الأزمة لا نتائجها.
جدل لا ينضب .. المهرجان بين الحرية والخصوصية
يواجه المهرجان كفن مشاكل
أكبر تتعلق ببنية المجتمع نفسها، وهو ما يخلق وجاهة للنقد الموجه للمهرجان من
نقاده المعتدلين، ففي مجتمع كمجتمعنا يواجه بالأساس مشكلة في احترام الخصوصية
الفردية، يجعل ذلك من المهرجان وخطابه شيئًا غير قابل للتحكم في انتشاره، فيمكن
للمرء أن يسمع المهرجان في وسائل المواصلات أو في الطريق بشكل غير متحكم فيه، وهنا
نتحدث عن ضعف في تَشرُب ثقافة الخصوصية والحدود الفاصلة بين ما هو فردى وما هو
آخروي.
وبالتأكيد من يسمع بعض أغاني المهرجانات سيتأكد
أن جزءًا كبيرًا منها يحمل خطابًا مسيئًا للمرأة، وخارجًا عن كثير مما يُجمع عليه
قطاع عريض من أفراد المجتمع، وهو القطاع الذي يرى في المهرجان خطرًا على مستقبل
أبنائه، وإذا نافحنا في المقال الأول عن حق المهرجان وصناعه في الوجود، فمن
المنطلق ذاته نَشرع هنا لندافع عن حق هؤلاء في ضرورة تنظيم الفضاء الذي ينتشر فيه
المهرجان.
لا يمكن أن يُمنع المهرجان
من الفضاء الخاص للفرد، فتلك مسألة متعلقة بالحرية الفردية التي يلزمنا التأكيد
على احترامها، ولنفهم ولتفهم النقابة أن محاولة المنع القطعي لهذا الخطاب تكاد
تكون مستحيلة في عصرنا الحالي، لوجود الإنترنت ببساطة، لذا فالمنع فكرة ساقطة
أخلاقيًا وتؤسس لأنواع أوسع من المنع، قد تطال موسيقى الاندرجراوند والسينما
المستقلة وغيرها فيما بعد، وإذا توسعنا في المنع، فعن قريب سنكون أمام
"صوابية فنية" على غرار "الصوابية السياسية" التي تجتاح
العالم اليوم، والتي ستؤدي لا محالة لخنق المجال الفني وتقييده، وهذه المرة سيكون
الخنق بأيدي رجالات المجال أنفسهم في نقابة الموسيقيين وليس غيرهم.
لذا،
فما قد ندعو له هنا، لن يتعدى التأكيد على احترام الخصوصية لمن لا يستمع للمهرجان
أو يعترض على خطابه، والتأكيد على حقه، في ألا يسمع المهرجان جبرًا في الشارع أو
وسيلة المواصلات أو غيرها، من حق محبي المهرجان ومعجبيه في سماع المهرجان وحضور
حفلاته وغيرها، لكن طالما لا يُجبر الآخر على سماعه، وعلى صناع المهرجان وعلينا
جميعًا أن نتشرب هذه النقطة كأبجدية من أبجديات الخصوصية.
ومرة أخرى سيتضح أن الإشكال
متعلق هنا بشكل نظري بسؤال كيف نحترم الحرية الفردية التي تؤكد على حرية الجميع عن
التعبير عن ذواتهم بما يناسبهم، وفي الوقت نفسه احترام الخصوصية للأخر الفرد،
وأيضًا للمجتمع ككيان له منظوماته الأخلاقية والثقافية والدينية؟
في قابلية
المهرجان للتطور
في فيديو أخير لأحد أهم
مطربي المهرجانات حاليًا "حمو بيكا" يتحدث بيكا عن فكرة هامة تخدم ما
نرمي إليه في هذا التقرير، حين يتحدث عن أن المشكلة تكمن في أن النقابة لم تخاطبهم
أولا لتعديل الكلمات، أو نصحهم بتحسين خطاب المهرجان، بل قامت بالمنع مباشرة، ويذكر
كيف أن زميله "حسن شاكوش" قد غير كلمات في أغنيته الأخيرة بعد توجيه
النصح له بذلك.
بالتأكيد لست مع هذا النوع
من التدخل في تصحيح المحتوى، لكن أوردت كلمات بيكا، لنفهم أن كُتاب المهرجان،
مستعدون لهذا النوع من تصحيح الخطاب، إن وجه الحديث معهم لا بالتعالي والمنع، بل
بنقاش لتصحيح الخطاب، وبعض رسائله.
وكلام بيكا يؤكد على حقيقة
يراها متتبعي ظاهرة المهرجانات، وهي أن المهرجان تطور على منذ النشأة ككلمات
وكموسيقى، وبالتالي هو قابل دائمًا لهذا النوع من المراجعات، وهو ما ينقل
المسؤولية ويرمى بالكرة في ملعب النقاد الموسيقيين الجادين، أو حتى أولئك المدعين
حماية الذوق العام، في توجيه نقد جوهري لصميم خطاب المهرجان، ونقد ما يُرى فيه من إساءة
لشرائح مجتمعية عديدة، وبالتالي الإسهام في تطويره وتحسينه.
في نقد خطاب
المهرجان: أين المعركة؟
في الحملة على المهرجان
تهويل إذا، فالمهرجان كالراب، فنون حداثية تنتشر في العالم كله وليس في مصر وحدها،
لكن إن كان ثمة معركة فهي تدور في الأرض الخطأ، ومع العدو الخطأ، المعركة في رأينا
تدور الآن ضد المهرجان، كفن ونوع غنائي، لكن في رأينا المعركة الحقيقة ليست هنا،
وإنما محلها هو خطاب المهرجان وليس المهرجان ذاته، ندرك تمامًا أن خطاب المهرجان
تواجهه اتهامات كثيرة بالإساءة للمرأة، والتقليل منها، والاحتفاء بالجريمة في بعض
السياقات، وغيرها. وهي اتهامات لا تخطئها أذن تسمع هذه المهرجانات.
الجهاد الأكبر
لا يُغني عن الجهاد الأصغر
لكن ورغم أننا نرى أهمية
كبرى لنقد خطاب المهرجان وتفكيكه بما يطور منه ليكون أكثر صدقًا في التعبير عن
الطبقات التي يتوجه لها، لكننا نرى في هذا النقد رغم ذلك جهادًا أصغر لا يغني عن
جهاد أكبر.
والجهاد الأكبر في رأينا
هو تطوير الهامش، ففي حين قد يرى البعض في المهرجان وخطابه فرصة لجلد الهامش، وتصفية
حسابات معه، من مثقفين برجوازيين يتأففون من هذا الحيز الذي يجض عليهم مضجعهم
أحيانًا بمشاهد وسلوكيات تخالف ما هم فيه وعليه من ترف العيش وسمو ثقافوي مدعى، لكننا
نرى في انتصار المهرجان كهامش هزيمة لسكان الهامش أنفسهم، نحن لا نعتقد حين نتحدث
عن نجاح الهامش في اختراق المركز، لا نعتبر هذا الانتصار ذا جدوى مستقبلية، خاصة
لسكان الهامش، ورغم أننا نرى في المهرجان تعبيرًا عن الهامش، فلا نراه تعبيرًا
حقيقيًا وكاملًا عن الهامش وتطلعاته، فللهامش تطلعات حياتية في العيش الكريم
والترقي الاجتماعي والثقافي بالتأكيد لا يعكسها صناع المهرجان لأنهم بالأساس يأتون
من أسفل السلم الثقافي الهامشي، لكن ما ميزهم هو امتلاك الأداة الأقوى للتعبير وهي
الموسيقى.
لذا ففي رأينا يجب أن يعود
الهامش ليكون أولوية، لأن الهامش حتى عند من يتغنون بجمالياته، هو قنبلة موقوتة
على كافة الأصعدة الاجتماعية والثقافية، وهو هامش يتمدد، وتنحدر بناه الثقافية،
فالمهرجان كفن ورغم تطوره الموسيقي، لكنه تراجع تعبيري عن الأغنية الشعبية
التقليدية، التي حملت على الدوام خطابًا تعبيريًا أقوى خاصة من حيث الكلمات
وعذوبتها، لكن يتعلق الأمر في رأينا بتردى الهامش نفسه وسوء أحواله.
بدون حل الأزمة الحقيقة، في
تطوير الهامش وتحديثه، سيظل الهامش يخرج علينا بوسائل تعبيرية أخرى، قد لا يكون المهرجان
في المرة القادمة لكنه شيء أخر، يجب أن نكف عن التعامل مع المهرجان والهامش بشكل
عام كمرحاض نغطيه مرة بعد المرة حتى لا نشم رائحته السيئة، في غض الطرف عن الهامش
ومشاكله تأثيرات مستقبلية لا يعرف أحد عقباها، سيكون من الجيد إذا نظرنا للمهرجان
كإنذار لن أقول مبكر، لأن الإنذارات التي خرجت تعبيرًا عن الأزمة قديمة وأكثر من أن
تُعد.
خاتمة
جاء انتشار المهرجان
كانتصار للمهزومين، لكنه انتصار ما قبل الموت، فحقيقة الأمر أن المهرجان هو نداء
أخير من سكان الهامش لما يعيشونه، من تردي على كافة الأصعدة، بلا مبالغات أو تحسس
للجمال في هذا الوسط المليء بالقبح، والذي يعاني من التهميش والاقصاء.
ولدي رغبة جادة في ألا يُفهم المقال أنه احتفاء بالمهرجان وخطابه، أحاول هنا أن أخرج من هذا الاستقطاب الحاد بين مؤيدي المهرجان ومعارضيه، لسنا بهذا الصدد من الجدل ولا نسلك مسالكه، لدينا ثلاثة حقائق حاولت المقالتين التأكيد عليها. الأولى: أن منع المهرجان لا يمكن أن يُفهم كقرار حكيم، بل نراه مخالف لحق هؤلاء في حكي الذات. الثانية: التأكيد على مشاكل خطاب المهرجان، وما يحمله من قيم سلبية تضر يقينًا أكثر مما تنفع. الثالثة: التأكيد على أن المهرجان يجب أن يُفهم كصرخة القاع، حتى يُسمع صوته، فخطاب المهرجان في النهاية مُعبر عن حالة تردي وصل إليها القاع، وليس مُنشِئًا لها.