قبل البدء في الكتابة،
حاولنا قراءة قدرًا لا بأس به عما كتب عن المهرجانات، فالكتابة هي قراءةٌ من نوع
ما هكذا نراها، وخلصنا إلى أن لدراسة المهرجانات اقترابات عديدة، وهي أخذٌة في
الزيادة والتوسع، وتضمُ لها حقولًا معرفية جديدة تهتم بالظاهرة وتعالجها من
منظورات سوسيولوجية وثقافية وسياسية وغيرها. ونحن هنا بصدد الاشتباك مع كثير مما
أنتجته هذه الاقترابات من نتائج وتحليلات لظاهرة المهرجانات.
يرى البعض في المهرجان
انحدارًا للذوق العام، ويرى فيه أخرون فنًا شبابيًا نجح في جذب الفئات الأقل عمرًا،
بتركيز جلي على الإيقاع. ويذهب أخرون لنقد مضمونه، ليتحدثوا في الأخير عن سرديات
كبرى لهذا الصنف الغنائي، وإطار عام يُكتب من خلاله، مع تركيز على قضايا القوة، والاستعداد
للتضحية، وخيانة الحبيبة، والرفاق، إلى أخره. وهو في التحليل الأخير عندهم خطاٌب
شعبي وشعبوي في آن، مع ما تحمله الكلمتان من حمولات سلبية جما.
ما الجديد؟
ما الجديد الذي نطرحه نحن
خلافًا لما كُتب؟ الاجابة بسيطة: إنه العنوان "المهرجانات: الخارجون من
التاريخ يعودون". هذا طرحنا.
فلسنوات تمدد الهامش حتى
ابتلع مساحات جغرافية وسكانية كبيرة، هامش يحيا تحت الخط الأدنى للشروط الإنسانية،
حاول هذا الهامش بطرق مختلفة مرارًا وتكرارًا التمرد والخروج من هذا الأفق
الجغرافي والتاريخي الضيق، والعودة لكتاب آصف بيات "الحياة سياسة: كيف يغير
بسطاء الناس الشرق الأوسط؟"[1] تكون وافية في شرح الكيفية التي قاوم بها سكان الهامش
-منشأ المهرجان- التهميش والاقصاء المتعمد
اللذين مورسا ضدهم لعقود. لكن بشكل عام كانت المحاولات تُصنع بأدوات صلبة، فقوبلت
على الدوام بالصد والوأد في مهدها، فما المختلف هذه المرة، ولماذا يحقق الهامش
وأصواته هذا الاختراق للمركز؟
في رأينا الموسيقى هي
الإجابة عن هذا السؤال، فوجودية الموسيقى ترتكز في بداهة أنها لا تحتاج لغة
لتفهمها، وما هو أوضح أنها لا تحتاج ثقافة أو قومية أو طبقة معينة لنفهما، بإمكان
المرء أن يحب الأغاني الهندية رغم أن معرفته بالهند ولغتها لا تتعدى أميتاب باتشان،
الموسيقى هنا خصيصتها الرئيسة التجاوز لكل ما هو خصوصي ثقافي، لذا فهي عالمية، وإنسانية
بالمقام الأول المجرد، ولهذا السبب برأينا لم يجد المهرجان أي صعوبة في اختراق كل
الطبقات الاجتماعية في مصر، بل انتشر بسرعة الصاروخ وفي سنوات قليلة وفي كل البقاع.
عاد الهامش إذا بأصوات
مطربيه إلى هامش الحديث والجدل، هل كان قاصدًا؟ هل قصد حمو بيكا ومجدي شطه وحسن شاكوش
وأوكا وأورتيجا وفيجو الدخلاوي وغيرهم أن يتحرشوا بالمركز؟ أم كل ما قصدوه هو
الغناء، حتى لو نفى عنهم "حلمي بكر" ونقابة المهن الموسيقية لقب
المغنواتيه. ومرة أخرى من يحدد ما هو غنائي؟ وما المعايير؟
بالنسبة لنا، المهرجان هو
تجلي لعودة المهمشين إلى قلب التاريخ، عودة الخارجين من التاريخ والجغرافيا، مرة
أخرى إلى ما يستحقوه، أن يحكوا حكايتهم، والحد الأدنى من احترام الحقوق لأفراد
المجتمع هو الحق في حكاية الذات، قد نتعارك بعد ذلك على مضمون الحكاية، ونتائجها
على المجتمع، لكن ما لا يجب أن نختلف عليه البتة، هو حق الجميع في حكاية الذات.
المهرجان برأينا هو حكاية المهمشين، والملفوظين من على عتبات التاريخ، بلا صفة ولا
وصف، الفقراء الذين يعيشون على حواف المدينة، بلا زاد للغد، أو أمل فيه، هؤلاء هم
كُتاب وملحني المهرجان.
من القلقون؟ وما
هي دوافعهم؟
ظهرت المهرجانات في العام
2007، ومن ثم انتشرت على فترات زمنية متعاقبة، خاصة بعد ثورة يناير 2011، ولكن انتشارها
الأهم جاء مع تبني شركات الاتصالات لمهرجانات في إعلاناتها واسعة الانتشار، وتطور
المهرجان بقفزة أخرى مع دخوله لقاعات السينما، مع نجوم شباك، ومع تزايد انتشار
المهرجانات واستقطابها لقطاع كبير من الشباب، بدأ البعض في القلق، لكن من القلقون؟
ولماذا يقلقون؟
هذا السؤال في الحقيقة من
أهم ما يجب طرحه عند الشروع في قراءة هذه الظاهرة، فقد حُملت المهرجانات في رأينا
أكثر مما تحتمل، فباتت هي سبب الجريمة والتحرش والانفلات الأخلاقي في المجتمع، وشنت
لأجلها حملات من هنا وهناك لوأد هذا الانتشار الهائل للمهرجان، الذي زاحم بل وتخطى
أباطرة الغناء المتربعين على عروش وقصور الغناء لعقود. مرة أخرى، من القلقون؟
يتمثل القلقون في رأينا في
ثلاث فئات. الأولى: المنصبون أنفسهم حماة للهوية المصرية، وينطلق هؤلاء من فكرة
أساسية وهي أن المهرجانات تهدد الهوية المصرية، لأنها تضرب في جذور الشخصية
المصرية. وبعيدًا عن جدل تعريف الهوية المصرية وتقاليدها، لكن في رؤية هؤلاء لنوع
من الفن على أنه تهديد لهوية ترسخت في رأيهم لألاف السنين، يطرح سؤالًا بديهيًا، أي
هوية هذه التي يهددها نوع غنائي؟ لننتهي بالقول أن هذا الخوف الهستيري من المهرجان،
لا مبرر له كخطر على هوية ترسخت منذ آلاف السنين.
الفئة الثانية: هم أباطرة
الفن، أولئك الذي يخافون على عروشهم التي زُلزِلت بفعل نجوم المهرجان -هؤلاء
الملاقيط بلا نسب ولا نسبه في أعين نقادهم من أباطرة الصناعة-، يكيل هؤلاء
الفنانين وتتقدمهم نقابة المهن الموسيقية النقد اللاذع للمهرجان باعتباره انحدارًا
للذوق العام، وإن اتفقنا تجاوزًا على هذا الاتهام، فهل يحق لنا أن نسأل، هل ما سبق
المهرجان من غناء في سنواتنا الأخيرة كان رفعًا للذوق الفني؟ هل ساهمت الأغنية
اللبنانية بتقاليدها في رفع الذائقة الفنية للجماهير لتأتي المهرجانات لتنحدر بها؟
ولماذا لا تُهَاجم الأغنية اللبنانية رغم أنها تحمل ذات الانحدار في رأي كثيرين؟
بل وأين النقابة من دعم الفرق الموسيقية المستقلة؟ ولماذا تموت كثير من هذه الفرق
الواعدة تحت وطأة المبالغ الهائلة التي تُطلب منها؟ لماذا لا تدعم النقابة البدائل
الفنية التي ترى فيها رفعًا للذوق العام لتواجه المهرجان؟ لماذا يكون الحل دائمًا
قمعيًا يستسهل قصف القلم بديلًا عن صناعة قلم أفضل منه؟ ما دامت هذه الأسئلة بلا
إجابات، فإننا نكون ملزمين بالنظر لاتهامات وحملات هؤلاء الأباطرة بكثير من الشك
والريبة، لأننا لا يمكن أن نأمن على اللحن والكلمة اللذين يسموان بالروح بأيدي
أشخاص لا يمانعون في الحجر على أخرين لمجرد امتلاكهم القوة والقانون في لحظة ما.
الفئة الثالثة: هي
البرجوازية ومعها جزء من الطبقة الوسطى، التي ترى في المهرجان تهديدًا لتقاليدها، وغزوًا
للخارجين كما في يوتوبيا توفيق، إننا لا ريب نعيش جزءًا من هذه اليوتوبيا، ولدينا
جماعة متخيلة بلفظة أندرسن، ترى في نفسها جماعة متميزة ذات نطاق جغرافي وثقافي
مختلف عن الهامش الذي يأتي منه المهرجان، متحرشًا بيوتوبيا البرجوازية. لكن مع هذه
الاتهامات للمهرجان بالتحرش بالمركز، فإننا لا نتخيل أن مستمعي المهرجان هم من
الطبقة المهمشة وفقط، الأرقام التي تأتي من منصات المشاهدة والسماع الإلكترونية
تشي بلا ريب بأن المهرجان تمدد بشكل أفقي إلى كل الطبقات الاجتماعية، المهمشة
والمتوسطة والعليا في السُلم الاجتماعي، وإن كان انطلاقه الاساسي يأتي من الهامش
بشكل عمودي إلى الطبقات الأعلى.
هل ندافع عن
المهرجانات؟
سؤال يستحق الطرح بعد ما
قلناه في الأعلى، ونجيب بأننا لا ندافع عن المهرجان كخطاب، بل ندافع عنه كنوع من
الغناء له الحق في الوجود، المهرجان في رأينا لا يعدو أن يكون ظاهرة غنائية ترتبط
ببنى العصر الحداثي الذي نحياه والذي يُعلي من السرعة في ايقاع الحياة، وبالتالي
في ايقاع الغناء والموسيقى، وإن عدنا لتطور الأغنية المصرية سنلاحظ أن الايقاع
السريع هو السمة المتطورة مع مرور الأيام، ولنسأل كم عدد المستعدين لسماع أغنية
"أنت عمري" لأم كلثوم حتى قبل ظهور المهرجان؟ العدد يقل بالتأكيد مع
مرور السنوات، ليس انحدارًا للذوق الفني بالضرورة، بقدر ما هو داعي العصر وضرورته.
النقطة الأخرى المهمة هي
في سؤال ماذا نطلُب من صناع المهرجانات؟ نحن أمام هامش يعيش بنمط معين، ولديه
ثقافة ترسخت عبر سنوات، وينتج فنونًا تعبر عنه، والمهرجان هو أحد هذه الفنون، هل
نطلب من صناع المهرجان أن يتركوا غناء المهرجان، ويعتكفوا على كتابة سمفونيات؟ هل
بإمكان مؤلفي وملحني المهرجان اليوم أن يكتبوا كأحمد رامي ويلحنوا كبليغ حمدي؟،
وتجاوزًا حتى لو استطاعوا، هل سيسمع لهم الهامش؟ كيف لمن لا يجد ما يصلُب أوده أن
يفكر في وجوده وماهيته؟ إنه السياق يصنع مواضيعه، في بيئة كل من فيها يبحث عن
البقاء على قيد الحياة، يجب أن تكون قضايا الرجولة والصداقة هي المرتكز.
إذن، تواجه الساحة الفنية والأدبية والثقافية في مصر أزمة
بنيوية في خطابها، وهو خطاب ينحدر يومًا بعد الأخر، وظاهرة عامة لا ترتبط بفن
بذاته، الأمر سيان في السينما والرواية والأغنية، وهذا ما يجب أن يفهمه الجميع،
الأزمة عامة وشاملة، ولا يكمُن حلها أبدًا في منعٍ هنا أو هناك، بل بتصحيح الخطاب،
وإيجاد خطابات بديلة، تحمل ثقافة وفكرًا مختلفًا. ومرة أخرى الحل ليس في كسر
الأقلام بل في صناعة أقلام بديلة. وعن تقديم البدائل ونقد خطاب المهرجان، يأتي
مقالنا الثاني من هذه السلسلة ليضطلع بهذه المهمة.
الهوامش
1-
آصف
بيات: الحياة سياسة كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط. ترجمة، أحمد زايد،
القاهرة، منشورات المركز القومي للترجمة، سلسلة العلوم الاجتماعية للباحثين،
(2014)