المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
فاتن فايز الصفتي - فردوس محمد
فاتن فايز الصفتي - فردوس محمد

الشخصية القانونية الدولية لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي (OSCE)

الأربعاء 12/فبراير/2020 - 10:23 م
المركز العربي للبحوث والدراسات

ملخص

في إطار التطورات التي شهدها التنظيم الدولي، فلم تعد الدول وحدها هي التي تتمتع بصفة أشخاص القانون الدولي، وانضمت لها المنظمات الدولية، لكن بشخصية أضيق نطاقًا وأقل درجة. ورغم ذلك فهي تلعب دورًا نشطًا وبارزًا على المستوى الدولي.

ولكي تتمتع المنظمة الدولية بالشخصية القانونية الدولية لابد من توافر مجموعة من الشروط، نذكرها في المبحث الأول مع تفصيل للتطورات التي نشأت على مفهوم الشخصية القانونية، وتطبيق الخصائص الواردة على الشخصية القانونية لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي في المبحث الثاني، وتوضيح العوائق التي تواجه المنظمة وتوصيات في خاتمة الدراسة.

تمهيد

شهدت ظاهرة التنظيم الدولي تطورات، من أهمها أنه لم يعد التمتع بصفة أشخاص القانون الدولي قاصرًا على الدول، وانضمت لها المنظمات الدولية.

وإذا كان صحيحا أن المنظمات الدولية لا تتمتع بالشخصية القانونية ذاتها الثابتة للدول؛ فشخصيتها القانونية أضيق نطاقا وأقل درجة، إلا أنها باتت تلعب دورا نشطا وبارزا على صعيد المجتمع الدولي، وتجاوز عددها عدد الدول.

ولكي تتمتع المنظمة الدولية بالشخصية القانونية الدولية لابد من توافر مجموعة من الشروط، وعليه تركز الدراسة الحالية على الشخصية القانونية لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي وذلك وفقا للتقسيم التالي:

المبحث الأول: ماهية الشخصية القانونية الدولية للمنظمات الدولية.

المبحث الثاني: الشخصية القانونية الدولية لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي.

المبحث الأول- ماهية الشخصية القانونية الدولية للمنظمات الدولية

تعرف الشخصية القانونية في الفكر القانوني بأنها الصلاحية لاكتساب الحقوق والتحمل بالالتزامات. كما تعني من ناحية أخرى قدرة الوحدة المعنية على الإسهام –بما لها من إرادة شارعة- على إرساء قواعد القانون الدولي(1).

ولقد كانت الدول وحدها تتمتع بالشخصية القانونية الدولية، ولكن برزت المنظمات الدولية كشخص من أشخاص القانون الدولي، والتي تبدأ شخصيتها القانونية باعتراف القانون بهذه الشخصية، ويترتب على هذا الاعتراف أن تزاول المنظمات حياتها كشخص من أشخاص القانون إلى حين انقضائها أو زوالها.

يمكن تناول ماهية الشخصية القانونية للمنظمات الدولية وفقا للتقسيم التالي:

أولاً- أركان قيام الشخصية القانونية الدولية

الراجح في فقه القانون الدولي العام أن معيار الشخصية القانونية الدولية يقوم على ركنين:

1.      أن تكون الوحدة من المخاطبين بأحكام القواعد القانونية الدولية بمعنى أن تكون لها أهلية الوجوب وأهلية التمتع بالحقوق، وأهلية الالتزام بالواجبات:

أهلية الوجوب: اختلف فقه القانون الدولي العام حول أهمية الاعتراف بالنسبة للوحدة الدولية، ومدى تأثيره على قيام شخصيتها القانونية الدولية، فذهب الاتجاه التقليدي إلى أن الاعتراف هو الذي ينشئ الدولة، وينشئ شخصيتها القانونية في مواجهة من يعترف بها من الدول، وأنها لا تعتبر موجودة في نظر من لم يعترف بها من الوحدات الدولية الأخرى. وقد كانت هذه النظرية التي تعرف باسم النظرية المنشئة مقبولة عندما كانت فكرة المجتمع الدولي المغلق سائدة، ولكن في عصر التنظيم الدولي فإن الاتجاه الغالب في فقه القانون الدولي يأخذ بالنظرية المقررة في الاعتراف، تلك النظرية التي تقول أن الوحدة الدولية توجد متى اجتمعت عناصرها الموضوعية من إقليم وشعب وسلطة حاكمة ذات سيادة، وان الاعتراف ليس إلا امرا مقررا لحقيقة قائمة، وان أهمية الاعتراف لا تنصرف إلى الشخصية القانونية للدولة وإنما تظهر أهمية الاعتراف في مجال العلاقات الدولية بين وحدات المجتمع الدولي. وهكذا فإن وجود الوحدة الدولية مستكملة أركانها الموضوعية من شعب وإقليم وسلطة ذاتية مستقبلة يجعل هذه الوحدة قادرة على الدخول مع غيرها في اتفاقات منشئة لقواعد قانونية دولية ويجعلها في الوقت نفسه مخاطبة بأحكام القانون الدولي، ومن ثم شخصا قانونيا دوليا(2).

                أهلية التمتع بالحقوق، وأهلية الالتزام بالواجبات: تعد القدرة على اكتساب الحقوق وأداء الالتزامات، أي الأهلية القانونية الدولية من مميزات الشخصية القانونية الدولية. وعند جمهور الفقهاء الدوليين تعد الأهلية القانونية أحد ركني الشخصية القانونية الدولية إلى جانب القدرة على إنشاء القواعد القانونية الدولية. ويمكن تصور الحقوق والالتزامات المختلفة في المجال الدولي سواء تم ترتيبها باتفاقية دولية بين أشخاص القانون الدولي أو بتصرفات انفرادية صادرة عنها. وقام بعض الفقهاء بمحاولة لتعداد الحقوق الدولية الثابتة لشخص القانون الدولي العام كالآتي:

       حق إبرام المعاهدة؛

       حق المشاركة في خلق وتكوين القواعد القانونية الدولية الاتفاقية والعرفية، وذلك بالتعاون مع غيرة من الأشخاص الأخرى؛

       حق التمثيل الدبلوماسي، أي إرسال واستقبال الوفود والبعثات الدبلوماسية والدولية؛

       حق تقديم المطالبات الدولية، بمعنى أن يكون مدعيا أو مدعى عليه أمام المحاكم الدولية؛

       التمتع بالمزايا والحصانات الدولية والدبلوماسية.

أما الالتزامات الدولية التي تكون على عاتق الشخص القانوني الدولي فهي:

     ضرورة احترام قواعد القانون الدولي؛

     تنفيذ الالتزامات الدولية بحسن نية؛

     عدم استعمال القوة أو التهديد باستعمالها في العلاقات الدولية إلا في الحدود التي يقرها القانون الدولي؛

     تسوية المنازعات الدولية بالوسائل السلمية؛

     الالتزام بعدم التدخل في شؤون الأشخاص الدولية الأخرى؛

     الالتزام باحترام حقوق الأشخاص الدولية الأخرى(3).

2.      أن تكون الوحدة قادرة على انشاء قواعد قانونية دولية بواسطة التراضي مع غيرها من الوحدات المماثلة على انشاء هذه القواعد(4):

تقسم قواعد القانونية الدولية من حيث الشكل إلى قواعد مكتوبة وغير مكتوبة؛ أما المكتوبة فتأخذ في الغالب من الأحيان شكل الاتفاقيات الدولية والتصرفات الانفرادية المكتوبة كالاحتجاج والاعتراف بواسطة مذكرة دبلوماسية تحريرية، أما غير المكتوبة فمثالها القواعد الدولية العرفية. ولا يمكن أن يسهم في خلق القواعد القانونية الدولية من لم يكن من أشخاص القانون الدولي العام، ممثلة بشكل أساس بالدول والمنظمات الدولية. وقد عددت المادة 38/1 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية مصادر قواعد القانون الدولي العام، فأشارت على أن: " وظيفة المحكمة أن تفصل في المنازاعات التي ترفع إليها استنادا لأحكام القانون الدولي، وهي تطبق في هذا الشأن:

     الاتفاقات الدولية العامة والخاصة التي تضع قواعد معترفا بها صراحة من جانب الدول المتنازعة.

     العرف الدولي المقبول بمثابة قانون دل عليه تواتر الاستعمال.

     مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتمدنة.

     أحكام المحاكم ومذاهب كبار المؤلفين في القانون الدولي العام من مختلف الأمم.

     وعلى ذلك فإن الجهة التي تصر عنها هذه المصادر الرئيسية هي بالتأكيد أشخاص القانون الدولي العام ممثلة بالدول والمنظمات الدولية(5).

ثانياً- تطور مفهوم الشخصية القانونية الدولية ليشمل المنظمات الدولية

                كانت الدول وحدها -كما سبق الإشارة- هي أشخاص القانون الدولي العام، ولكن وجود العديد من التنظيمات التي تضم عددا من الدول من أجل تحقيق غرض معين، وكون هذه المنظمات تباشر تصرفات قانونية معينه جعل السؤال عن الشخصية القانونية لهذه المنظمات مطروحا.

تقوم المنظمات الدولية بنشاطاتها ووظائفها على مستويين: النظام القانوني الدولي، والنظم القانونية الداخلية للدول، مما يعنى أن لحظة تمتع المنظمة الدولية في شخصيتها القانونية تبدأ منذ اعتراف النظام القانوني المعني بها كشخص من أشخاصه.

وفيما يلي عرض للاعتراف بالشخصية القانونية الدولية للمنظمات الدولية:

1.      الاعتراف بالشخصية القانونية الدولية للمنظمات الدولية:

شهدت نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين مولد اتجاه فقهي جديد يدعو إلى اضفاء الشخصية القانونية على المنظمات الدولية، واعتبارها من اشخاص القانون الدولي العام. وقد بقى هذا الاتجاه الفقهي يتردد قوة وضعفا(6) ، وعندما جرى وضع عهد عصبة الأمم لم يشر إلى مدى تمتع العصبة بوصف الشخصية القانونية، ومع ذلك فقد نصت المادة الأولى من الاتفاق المقر بين العصبة وسويسرا عام 1926 صراحة على أن العصبة " التي تتمتع بالشخصية الدولية والأهلية القانونية لا يمكن –كقاعدة وطبقا لأحكام القانون الدولي- أن تخاصم أمام المحاكم السويسرية دون موافقتها الصريحة". ولم يختلف الأمر بالنسبة للأمم المتحدة، فقد جاء نص المادة (104) من الميثاق خاليا من أي إشارة للشخصية الدولية، واكتفى بالتأكيد على تمتع الهيئة في إقليم كل دولة عضو من أعضائها بالأهلية القانونية اللازمة لقيامها بوظائفها ولتحقيق مقاصدها. وعليه أثارت صياغة هذه النصوص الخلاف والجدل، وتساءل جانب من الفقه عما إذا كان تمتع المنظمة الدولية بالشخصية القانونية، يسري في دائرة القوانين الوطنية وحدها، أم يمتد إلى النطاق الدولي.

وقد ظل الأمر كذلك إلى أن حسمته محكمة العدل الدولية في رأيها الإفتائي الشهير الصادر في 11 أبريل 1949 والذي ذهب بوضوح إلى تمتع المنظمات الدولية بالشخصية القانونية(7).

وذلك كما يلي:

1.      الاعتراف القضائي بالشخصية القانونية للمنظمات الدولية:

استوت نظرية " الشخصية القانونية الدولية" للمنظمات الدولية الحكومية على سوقها في قضاء محكمة العدل الدولية 1949. ففي هذا العام أصدرت محكمة العدل الدولية رأيها الاستشاري الخاص بالتعويض عن الأضرار المتكبدة في خدمة الأمم المتحدة، والذي اعترفت فيه بالشخصية القانونية للأمم المتحدة، مؤكدة أن الدول ليست وحدها أشخاص القانون الدولي العام، لأن الهيئات الدولية التي نشأت نتيجة لتطورات الظروف الدولية، يمكن اعتبارها أشخاصا قانونية من طبيعة متميزة عن طبيعة الدول، تتمتع بأهلية قانونية خاصة تتناسب مع اتاع مجالها أو ضيقة مع الأهداف التي أنشئت المنظمة من أجل تحقيقها.

ولقد كانت اصابة بعض العاملين بالأمم المتحدة خلال قيامهم بتأدية مهام وظائفهم في خدمة الأمم المتحدة خلال عامي 1947، 1948 - والتي كانت أهمها مقتل الكونت برنادوت وسيط الأمم المتحدة لتسوية الحرب الفلسطينية خلال زيارته للأراضي التي استولت عليها العصابات اليهودية – هي المناسبة التي أثارت التساؤل حول ما إذا كان من حق هيئة الأمم المتحدة أن تقوم برفع دعوى المسئولية الدولية ضد الدولة المسئولة عن الأضرار وهو الأمر الذي حدا بالجمعية العامة للأمم المتحدة في 3 ديسمبر 1948 أن تطلب إلى محكمة العدل الدولية رأيها الاستشاري في هذا الموضوع(8).

وقد تصدت محكمة العدل الدولية للبحث في مدى تمتع هيئة الأمم المتحدة بوصف الشخصية الدولية. وهي إذ تجيب بالإيجاب على هذا التساؤل، فأكدت تمتعها بهذه الشخصية سواء في علاقتها مع الدول الأعضاء أو في مواجهة الدول غير الأعضاء.

ففي علاقتها بالدول الأعضاء فيها ذهبت المحكمة إلى أن الشخصية القانونية التي تتمتع بها الأمم المتحدة تبدو في الأمور الآتية:

     أن الأمم المتحدة مزودة بهيكل تنظيمي متكامل ودائم، كما أنها تتمتع باختصاصات محددة يمارسها باسمه وليس باسم الدول الأعضاء.

     أن الأمم المتحدة قادرة على اصدار قرارات تلزم الدول الأعضاء فيها بموجب ما هو منصوص عليه في الميثاق، وما يقتضيه ذلك من ضرورة قيام الدول بتقديم كافة المساعدات للمنتظم لإنجاز التدابير التي يرى اتخاذها.

     أن الأمم المتحدة مزودة باختصاصات وصلاحيات لا يمكن تفسيرها إلا على أساس تمتعها بشخصية قانونية دولية (مثال ذلك قدرتها على ابرام المعاهدات الدولية، تمتعها بأهلية التقاضي.... الخ) (9).

                وعلى ذلك أكدت المحكمة أنه على الدول الأعضاء ضرورة الاعتراف للأمم المتحدة بالشخصية القانونية الدولية باعتبارها أمرا لا غنى عنه لبلوغ أهدافها. وقد لاحظت المحكمة بحق أنه بينما تتمتع الدول بكافة الحقوق والالتزامات الدولية التي يقررها القانون الدولي، فإن المنظمات الدولية تتمتع بالضرورة بكل هذه الحقوق والالتزامات، بل يتوقف مقدار ما تتمتع به من حقوق والتزامات على أهدافها ووظائفها.

                أما علاقة الأمم المتحدة بالدول غير الأعضاء فيها، فقد ذهبت المحكمة إلى تمتعها بالشخصية القانونية الدولية في مواجهة هذه الدول أيضا. على اعتبار أن الشخصية القانونية التي يتمتع بها هذا المنتظم هي شخصية موضوعية تستنتج من أن عدد أعضاء الأمم المتحدة يمثلون الغالبية الساحقة من أعضاء المجتمع الدولي الأمر الذي يجعل من الشخصية التي تتمتع بها حجة على الكافة.

                ومن الجدير بالذكر أن الحجة التي لجأت إليها محكمة العدل الدولية أضحت مقبولة بشكل واسع في الفكر القانوني المعاصر. ولم تعد تطبق بشأن الأمم المتحدة، تضمنت الاتفاقيات الدولية التي تأسست بمقتضاها المنظمات الدولية المختلفة نصوصا مماثلة أو مشابهة للنصوص التي وردت في ميثاق الأمم المتحدة بشأن أهليتها القانونية.

                 فالمنظمات الدولية الحكومية هي شخص من أشخاص القانون الدولي المعاصر، ولم يعد لصوت منكري شخصيتها الدولية أي صدى أو أثر.

2.      الطبيعة الخاصة للشخصية القانونية للمنظمة الدولية

إذا كان الرأي الغالب في الفقه يذهب إلى التسليم بتوافر وصف الشخصية القانونية للمنظمة الدولية، فإن الاتفاق يكاد يكون تاما بين هذه الغالبية الفقهية، على أن تلك الشخصية انما هي شخصية من نوع خاص، وليست هي بذاتها تلك الشخصية القانونية التي تتمتع بها الدول.

وقد نبهت محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري – المشار إليه- إلى ذلك مؤكدة أن الاعتراف بالشخصية القانونية الدولية لمنظمة ما لا يمكن أن يعني اعتباها بمثابة الدولة فيما لها من حقوق وما عليها من التزامات، وأن كل ما يعنيه مثل ذلك الاعتراف هو اكتساب المنظمة للحقوق وتحملها بالالتزامات بالقدر اللازم لممارستها لوظائفها على النحو الذي استهدفته الدول الأعضاء من وراء انشائها(10).

فالرأي الغالب إذن أن الشخصية القانونية الدولية التي تتمتع بها المنظمة الدولية، شخصية قانونية من نوع خاص، ويمكن أن توصف بأنها:

§       شخصية مشتقة: تعد الشخصية الدولية التي تتمتع بها المنظمات الدولية شخصية مشتقة، وذلك خلافا للشخصية الأصلية الثابتة للدول بمقتضى القانون الدولي، فوصف شخصية المنظمات الدولية بالمشتقة يعني في المقام الأول أن الشخص الوحيد " الطبيعي" أو "الأصيل" في النظام القانوني الدولي هو الدولة، وأن المنظمات الدولية هي بمثابة كائنات محكومة بقواعد قانونية مصدرها إرادة الدول. وبمعنى آخر فإن المنظمات الدولية تنشأ بإرادة الدول بموجب اتفاق دولي مهما كانت التسمية المطلقة عليه. وتحدد حدود شخصيتها ومداها وطبيعتها وحياتها في ضوء تلك الإرادة المنشئة لها.

فالمنظمة الدولية تتلقى اختصاصاتها وسلطاتها من المعاهدة المنشئة لها، وهي لاتتمتع إلا بالاختصاصات تلك، وبالاختصاصات اللازمة لها لتحقق غاياتها ومقاصدها المحددة لها بالمعاهدة المنشئة. وتجدر الإشارة إلى أن الصفة المشتقة لشخصية المنظمات الدولية لا تعني عدم امتلاك المنظمة لوظائف قانونية في مواجهة الدول التي أنشأتها، بل يعني أن سند وجود المنظمة واختصاصاتها هو إرادة الشخص الأصيل للقانون الدولي، ألا وهو الدول.

خلاصة القول، أن الشخصية الدولية للمنظمات الدولية محكومة – في الأساس – بالإرادة المنشئة لها المعبر عنها في الاتفاق المنشئ للمنظمة(11).

§       شخصية وظيفية: تختلف الشخصية الدولية للمنظمات الدولية عن تلك الثابتة للدول، في أن الأولى تكون محدودة في حدود الوظائف المسندة إليها بمقتضى القانون الدولي، فالدول ذات السيادة تتمتع بشخصية دولية غير منقوصة، أما المنظمات الدولية فلا تتمتع إلا بشخصية قانونية محدودة في حدود غاياتها ووظائفها بالصورة التي حددتها الدول الأعضاء.

فالشخصية الدولية للمنظمات الدولية تفهم في ضوء المعاهدة المنشئة للمنظمة، لأن هذه المعاهدة هي التي تحدد غايات المنظمة واختصاصاتها بشكل صريح، وعادة ما تخضع المعاهدة المنشئة – كغيرها من المعاهدات الدولية – إلى التفسير الذي يتم في ضوء القواعد العام للتفسير المقررة في اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969، وقد يتنوع هذا التفسير باختلاف الجهة التي تقوم به، فتفسير المحاكم الدولية لنصوص المعاهدة المنشئة في معرض نظرها لنزاع ما، قد يختلف تماما عن التفسير المقرر لتلك النصوص الصادرة عن أجهزة المنظمة المختصة بموجب القرارات التفسيرية للمعاهدة المتخذة من جانبها(12).

يتضح من الفكرة السابقة أن المعاهدة المنشئة لا تكفي لوحدها في تحديد مضمون الشخصية الوظيفية للمنظمات الدولية، فهي تكون عرضة أثناء نفاذها لمجموعة من العوامل التي تؤثر في طبيعة الشخصية القانونية للمنظمة وفي مضمونها. مما يرتب في حقيقة الأمر القول إن الشخصية القانونية الدولية هي شخصية وظيفية ليست ذات مضمون قانوني محدد سلفا.

§       لها نطاق شخصي: المعاهدات الدولية المنشئة للمنظمات الدولية لا تعدو أن تكون " اتفاقا بين أغيار" بالنسبة للدول غير الأعضاء، ولا تكون بذلك ملزمة لهم. وإذا كان من المقبول بأن تتمتع الأمم المتحدة بشخصية قانونية موضوعية، فالأمر ليس كذلك بالنسبة لغيرها من المنظمات الدولية، فالدول غير الأعضاء في هذه المنظمات ليست ملزمة البتة بالاعتراف الصريح أو الضمني بها. وإن كان لا يوجد من الناحية العلمية أي حائل يمنع الدول غير الأعضاء في منظمة دولية ما، من الاعتراف بها كشخص دولي في مواجهتها(13).

2.      الاعتراف بالشخصية الداخلية القانونية: تتضمن غالبية المعاهدات المنشئة للمنظمات الدولية الحكومية على نصوص تكفل تمتع المنظمات الدولية بالشخصية القانونية في مواجهة النظم القانونية لكل دولة عضو، ومن ثم فهي تتمتع بالأهلية القانونية اللازمة لممارسة نشاطها. ولا يقتصر الاعتراف بالشخصية القانونية الداخلية على المعاهدات المنشئة للمنظمات الدولية، فقد يرد مثل هذا الاعتراف في اتفاقيات دولية أخرى؛ مثل الاتفاقيات الجماعية أو البروتوكولات المتعلقة بتحديد المركز القانوني أو المتعلقة بحصانات هذه المنظمات وامتيازاتها. وقد يتم ذلك أيضا من خلال اتفاقيات ثنائية تبرم عادة بين الدول المضيفة والمنظمة الدولية وتعالج المركز القانوني لهذه الأخيرة لدى الدولة المضيفة.

وتعترف هذه الاتفاقيات عموما بعدد من الحقوق لصالح المنظمات الدولية أهمها: الحق في إبرام العقود، الحق في تملك الأموال العقارية والمنقولة والحق في التقاضي.

ويراعي في هذا المجال ضرورة التمييز بين حالة الاعتراف بالشخصية القانونية الداخلية للمنظمات الدولية من قبل الدول الأعضاء فيها وبين خالة الاعتراف بتلك الشخصية من الدول غير الأعضاء في المنظمة الدولية. ففي الحالة الأولى، تكون الدول الأعضاء في المنظمة ملزمة بحكم القانون بالاعتراف بالشخصية القانونية لهذه المنظمة داخل نظامها القانوني الدولي. ومصدر التزامها القانوني هو المعاهدة المنشئة التي تنطوي في الغالب على منح هذه الشخصية القانونية للمنظمة الدولية الناشئة بموجبها. وكما هو معلوم، فإن الدول الأعضاء التي تتبنى نظام الوحدة بين القانون الدولي والقانون الداخلي، تنفذ فيها الالتزامات الناشئة عن المعاهدة المنشئة بصورة تلقائية ومباشرة؛ مما يعني جواز الاحتجاج بها بصورة فورية أمام محاكمها الوطنية. أما بالنسبة إلى حالة الدول غير الأعضاء؛ فهي لا تكون ملزمة في الأساس بالشخصية القانونية للمنظمة، ومن ثم فإن الاحتجاج بالشخصية القانونية أمام محاكمها الوطنية يتم بالاستناد إلى قواعد تنازع القوانين(14).

ثالثاً- آثار ثبوت الشخصية القانونية الدولية

تمارس المنظمات الدولية مظاهر شخصيتها القانونية الدولية على صعيد القانون الدولي، وتتمتع بالأهلية القانونية اللازمة لها للقيام بوظائفها وأعمالها كأحد أشخاص القانون الدولي، ومن المظاهر المترتبة على الشخصية الدولية ما يلي:

1.      التمتع بمجموعة من الصلاحيات القانونية منها:

      صلاحية تكوين القواعد الدولية الاتفاقية:

تمارس المنظمات الدولية دورا هاما في مجال إنشاء القواعد الدولية الاتفاقية، فقد غدت الاتفاقيات الدولية التي تكون المنظمات الدولية طرفا فيها شائعة ومألوفة في الحياة الدولية ولعل إبرام اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات المبرمة بين الدول والمنظمات الدولية أو بين المنظمات الدولية ذاتها لعام 1986 خير دليل على الدور الحيوي الذي تتمتع به هذه الاتفاقيات في تكوين قواعد القانون الدولي المعاصر. وتستمد أهلية المنظمات الدولية في إبرام المعاهدات الدولية من خلال المعاهدة المنشئة للمنظمة أو من خلال القواعد الناظمة لعمل ووظائف المنظمة.

ومن الجدير بالذكر، أن المنظمات الدولية قد تمارس أهليتها في إبرام الاتفاقيات الدولية حتى مع عدم وجود نص صريح يخولها ذلك على أساس لزومية هذه الأهلية لقيامها بوظائفها ومهامها.

من المهم ايضا، الإشارة إلى أن المنظمات الدولية لا تتمتع بأهلية مطلقة لإبرام المعاهدات الدولية، فأهليتها في هذا المجال تكون مقيدة بعدد من القيود تتمثل في وجود أن تكون الاتفاقات المعقودة من طرفها متعلقة بوظائفها ومجالات عملها، وفي أن يباشر إبرام الاتفاقات الجهاز المختص داخل المنظمة.

من الجدير بالذكر، أن نطاق الأهلية القانونية الخاصة بالمنظمات الدولية ليس متماثلا بالنسبة للمنظمات الدولية جميعها، فهذا النطاق يختلف من منظمة إلى أخرى، بالنظر للغايات والوظائف الموكلة للمنظمة الدولية، فأهليتها القانونية خاضعة لمبدأ التخصص. يترتب على ذلك أنه إذا كانت المنظمات الدولية تشترك في صلاحية إبرام الاتفاقات الدولية وتكوين قواعد القانون الدولي الاتفاقي، فهي ليست سواء في الصلاحيات الأخرى الممنوحة لها، فهناك بعض المنظمات الدولية لا تقف حدود شخصيها القانونية عند إبرام الاتفاقيات الدولية، بل تذهب إلى أبعد من ذلك؛ فتشمل عددا من المسائل والموضوعات الأخرى اللازمة لتحقيق المنظمة لأهدافها. فعلى سبيل المثال تتمتع الأمم المتحدة بصلاحية إنشاء قوات دولية تعمل تحت إدارتها(15).

1.      حق التعاقد مع الحكومات المختلفة أو مع الأفراد العاديين.

2.      حق التمليك للمنقولات والعقارات.

3.      حق التقاضي أي رفع الدعاوي أمام المحاكم الداخلية التي قد تتفرع عن العقود التي تعقدها مع الحكومات أو الأفراد.

      التمتع بعدد من الحصانات والامتيازات:

تتمتع المنظمات الدولية بمجموعة من الحصانات والامتيازات في مواجهة الدول والتي تعد أساسية وحيوية حتى تتمكن المنظمات الدولية من ممارسة اختصاصاتها ووظائفها بفاعلية وبمعزل عن أي تأثير قد يصدر من الدول ضدها للتأثير على إرادتها المستقلة. وميمكن تلخيصها فيما يأتي:

1.      الحصانة القضائية: المنظمات الدولية وموظفوها معفاة من الخضوع للقضاء المحلي، ويتمتع بهذه الحصانة أيضا مندوبو الدول في المنظمات الدولية، على أنه يلاحظ بالنسبة للأخرين أن الدول تستثني رعاياها بمعنى أنها تقصر هذه الحصانة على المندوبين الذين لا يكونون من رعاياها هي.

2.      حرمة المباني التي تمتلها المنظمة الدولية.

3.      معاملة رسائل المنظمات الدولية معاملة مشابهة لرسائل البعثات الدبلوماسية، بمعنى أنه لا يجوز فرض أية رقابة عليها. كما أن للمنظمات الدولية استعمال الرمز(الشفرة) في مراسلاتها وبرقيتها. ولها أن تستعمل الحقائب الدبلوماسية.

4.      للمنظمات الدولية الحق في منح جوازات سفر أو مرور لموظفيها تعترف بها وتقبلها سلطات الدول الأعضاء في تلك المنظمات كوثيقة صالحة للسفر(16).

ومن الجدير بالذكر، إنه على الرغم من وجود تشابه في بعض الجوانب بين الحصانات والامتيازات الممنوحة للبعثات الدبلوماسية التابعة للدول وبين تلك المقررة لصالح المنظمات الدولية، فثمة اختلافات وفروقات جوهرية بينهما منها:

1.      تكون الحصانات والامتيازات الدولية أكثر شمولا وأوسع نطاقا من الحصانات والامتيازات الدبلوماسية عندما يكون الشخص المتمتع بالحصانة من مواطني دولة الاستقبال، حبث تقتصر حصانة الأخير الدبلوماسية على الحصانة الشخصية والقضائية وفيما خلال ذلك الأمر رهن بإرادة دولة الاستقبال.

2.      تكون الحصانة الدبلوماسية في مواجهة الاختصاص الإقليمي لدولة الاستقبال، فيظل عضو البعثة الدبلوماسية خاضعا للاختصاص الشخصي للدولة التي أرسلته. أما في الحصانات الدولية فليس ثمة دولة إرسال ولا اختصاص مماثل للاختصاص الشخصي للدولة المرسلة؛ فالعلاقة بين الموظف الدولي والمنظمة الدولية التابع لها هي علاقة وظيفية وليست علاقة جنسية.

3.      تكمن أهم ضمانة بالنسبة للحصانات والامتيازات الدبلوماسية في مبدأ المعاملة بالمثل، وهي ضمانه جزائية ليست متاحة البته بموجب القانون الدولي للمنظمات الدولية بالنسبة للحصانات والامتيازات الدولية(17).

الخلاصة

يتضح من العرض السابق، أنه حتى تتمتع المنظمة الدولية بالشخصية القانونية الدولية لابد من توافر مجموعة من الشروط منها: (1) ضرورة اسناد وجود المنظمة إلى اتفاق دولي ينشئ هذه المنظمة ويحدد نظامها القانوني ويبن أهدافها واختصاصاتها وأجهزتها والقواعد التي تحكم عملها. (2) وجود كيان دائم للمنظمة متميز عن الدول التي أسهمت في إنشائه، يستمر طالما ظل الاتفاق المنشئ لها ساري المفعول، والمقصود بدوام المنظمة هو استقلالها في وجودها وفي ممارستها لنشاطها عن الدول المكونة لها. (3) أن يكون للمنظمة إرادة ذاتية مستقلة عن إرادات الدول الأعضاء أي أن كل ما تقوم به المنظمة من تصرفات وما يصدر عنها من أعمال قانونية لا تنصرف آثارها إلى الدول الأعضاء كل على حدة بل إلى المنظمة ذاتها لأنها شخص قانوني دولي يستقل في حياته القانونية عن الدول التي أنشأته.

ومن ثم تسعى هذه الورقة البحثية إلى بيان مدى توافر هذه الشروط في منظمة الأمن والتعاون الأوروبي وهو ما سيتم تناوله في المبحث الثاني وذلك كما يلي:

المبحث الثاني- الشخصية القانونية لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي:

أولًا- إرهاصات نشأة منظمة التعاون والأمن الأوروبي ومصدر المعضلة

تعد منظمة التعاون والأمن الأوروبي مثال أولي على منظمة دولية غير رسمية لا تستند إلى معاهدة تأسيسية وتفتقر إلى الشخصية القانونية الدولية. تم التفكير في عقد مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي (CSCE) في عام 1975، الذي أصبح الآن منظمة الأمن والتعاون الأوروبي (OSCE)، على اعتباره شكل من التعاون السياسي غير الملزم قانونًا يقوم على إجماع، وليس كمنظمة دولية رسمية ذات شخصية قانونية.

معروف أن الشخصية القانونية تعني القدرة على التمتع بحقوق وواجبات، وفي حالة المنظمات الدولية يعني التمتع بصلاحيات معينة تم منحها صراحة من قبل الدول التي أنشأتها أو تلك القوى الضمنية بالضرورة لتحقيق أهدافهم أو التي تعتبر ضرورية لأداء واجباتها.

الوثائق الأساسية التي اعتمدها مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي تعكس النية الثابتة للدول المشاركة في المنظمة في أن يكون للمنظمة دستور سياسي وليس قانونيًا بموجب القانون الدولي، وقد انعكس هذا على افتراض أن الأمن المشترك والشامل يمكن ضمانه على أفضل وجه من خلال الإجماع السياسي بدلاً من الشروط القانونية. يعد جوهر نقاش وضع المنظمة قائمًا على اتجاهين، إما مدافعين عن "الوجود" أو أولئك الذين يزعمون أن الشخصية القانونية الدولية لمنظمة دولية لا يمكن اكتسابها إلا على أساس دستور رسمي.

تغيرت طبيعة هيكل المنظمة وعملياتها تدريجيًا نتيجة للوظائف التشغيلية المتزايدة، وتحول المؤتمر الخاص بالمنظمة في التسعينيات إلى هياكل قيد الإنشاء فضلاً عن الآليات التي تهدف إلى الوقاية من النزاع وتدابير بناء الثقة والأمن في المجال العسكري(18).

وفي عام 1990، أنشأ ميثاق باريس لأوروبا الجديدة مؤسسات دائمة تابعة للمؤتمر ونص على نشر البعثات الميدانية في العديد من البلدان. لكن ظهرت تحديات جديدة ووجد المؤتمر نفسه في وضع جديد. لم يعد من الممكن أن يظل المؤتمر خارج نطاق القانون بشكل كامل، بعد أن تم الإقرار به في قمة هلسنكي عام 1992 حيث قررت الدول المشاركة أنها "ستنظر في أهمية اتفاق يمنح وضعًا معترفًا به دوليًا لأمانة مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي ومركز تسوية النزاعات ومكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتم التأكيد مرة أخرى على بعض التدابير القانونية في قرار مجلس روما لعام 1993 بشأن الأهلية القانونية والامتيازات والحصانات. أعيد تسمية المؤتمر إلى منظمة في قمة بودابست عام 1994، لكنها كانت مجرد تغيير في المسمى وليس الالتزامات من الناحية القانونية ولا حالة المؤسسات التابعة للمؤتمر، لكن أشار القرار في نفس الوقت إلى إمكانية قيام الدول المشاركة بإبرام معاهدات مع المنظمة.

نجحت هذه القرارات بشكل جزئي، فقد اعتمدت بعض الدول مثل النمسا قوانين وطنية لهذا الغرض، لكن لا يمكن للنهج الوطني الأحادي الجانب أن يضمن نفس الحماية للمنظمة ومؤسساتها وموظفيها في كل الدول المشاركة.

أشارت وثيقة قمة اسطنبول لعام 1999 أن هناك صعوبات يمكن أن تنشأ بسبب غياب الأهلية القانونية للمنظمة، وقررت العمل على تحسين الوضع. وقد بُذلت جهود مختلفة منذ عام 2000 لتحقيق هذه الغاية من خلال في مجموعات العمل التابعة للمنظمة وفرق من الشخصيات البارزة والمشاورات بين الدول المشاركة. وفي عام 2007، تم الانتهاء من مشروع اتفاقية بشأن الشخصية القانونية والأهلية القانونية والامتيازات والحصانات الخاصة بالمنظمة من قبل مجموعة عمل غير رسمية تابعة للمنظمة.

وطالبت روسيا وبعض الدول المشاركة الأخرى بوضع أول معاهدة تأسيس لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي، لكن كل هذه الجهود قوبلت بمعارضة أمريكية التي أعربت عن القلق لاستقلال مؤسسات المنظمة.

هناك أربع قضايا مدرجة -حتى الآن- على جدول أعمال الفريق غير الرسمي المعني بتعزيز الإطار القانوني للمنظمة، وهي: اعتماد مشروع الاتفاقية، اعتماد ميثاق ومشروع الاتفاقية، اعتماد مشروع الاتفاقية بمواد إضافية، وإبرام اتفاقية مماثلة لمشروع الاتفاقية خارج إطار منظمة الأمن والتعاون الأوروبي. لكن لم تتم الموافقة بالإجماع على أي من هذه الخيارات.

هناك العديد من الآثار العملية المترتبة على عدم وجود شخصية قانونية دولية معترف بها عمومًا لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي، بسبب عدم الاعتراف الرسمي أو وجود تصور للمنظمة ووضعها القانوني أمام المحكمة(19).

ثانيًا- معضلة المقر

بحلول عام 2016، لم يكن هناك مجال لإنكار وجود منظمة الأمن والتعاون الأوروبي خاصة بعد ترسيخه بقوة في العديد من قرارات هيئات صنع القرار في المنظمة. كانت النمسا من أقوى المدافعين عن الشخصية القانونية للمنظمة وكانت لها مصلحة في ذلك نظرا لأن مقر المنظمة في عاصمتها فيينا، وتولت رئاستها في 2017.

كان على النمسا أن تفكر في الطرق الممكنة لتكوين الشخصية القانونية للمنظمة، لذا اقترحت منذ 2007 إبرام اتفاق مقر بموجب القانون الدولي وتم عرض الأمر على الأمين العام لكن لم تكن هناك استجابة.

بحلول عام 2016، أبدت الدول المشاركة موقفًا إيجابيًا متزايدًا تجاه الاعتراف بالشخصية القانونية للمنظمة، وأُبرمت العديد من الاتفاقات الملزمة قانونًا بين المنظمة والدول المشاركة فيها. وقد اعتزمت بولندا إبرامه لتحديد امتيازات وحصانات المكتب في وارسو، وساهم هذا في تعزيز الموقف الخاص بأن المنظمة قد تطورت لتصبح منظمة دولية كاملة ذات شخصية قانونية دولية.

عُقد مؤتمر في برلين عام 2016 ركز على عدم وجود وضع قانوني دولي معترف به بشكل عام للمنظمة، وبعد فترة وجيزة منه قبلت المنظمة الاقتراح النمساوي لعام 2007 لإبرام اتفاق المقر في خطاب من الأمين العام للمنظمة، كان فحوى الخطاب أن المنظمة أبرمت تسعة اتفاقيات مع الدول المشاركة في المنظمة، ووافق البرلمان الوطني في أربعة منها على المتطلبات الخاصة بالمنظمة. ثم اتخذت النمسا الإجراءات اللازمة لإبرام اتفاق المقر مع المنظمة، وبدأت المفاوضات في 2017 لعقد اتفاقية المقر، التي بناء عليها تم الإقرار بأن تتمتع مؤسسات المنظمة التي تتخذ من فيينا مقرا لها -الأمين العام والأمانة والمجلس الدائم ومنتدى التعاون الأمني ​​وممثل حرية الإعلام- بامتيازات وحصانات وفقًا لما تقرّه الأمم المتحدة.

تقر ديباجة اتفاقية المقر "بالالتزام المستمر لجمهورية النمسا باستضافة منظمة الأمن والتعاون الأوروبي (المعروفة سابقًا باسم مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي - CSCE)، وفقًا لميثاق 1990 باريس من أجل أوروبا الجديدة، ومقرر مجلس CSCE السابع لعام 1993 بشأن هياكل وعمليات CSCE وقرار المجلس الوزاري لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي لعام 2002 رقم 9 بشأن العروض الجديدة لأمانة منظمة الأمن والتعاون الأوروبي والممثل المعني بحرية الإعلام ".

ثارت أيضا مسألة حماية سلامة وأمن الموظفين، وفي يوليو 2015، اقترح الأمين العام آنذاك ترتيب دائم بين المنظمة وكل دولة فيها، عن طريق إبرام صكوك ثنائية لضمان الوضع القانوني والحصانات من خلال التدابير الوطنية. جاء هذا الاقتراح بالتوازي مع مشاورات فريق العمل غير الرسمي بشأن الخيارات المتعددة الأطراف.

تم تحديد التزامات النمسا فيما يتعلق بحماية المقر في المادتين 10 و11 من الاتفاق، وتلك المتعلقة بالتزويد بالخدمات العامة داخل المقر. تتناول المادة 13 الاتصال الرسمي للمنظمة وحصاناتها من الرقابة والتدخل. تعفي المادتان 18 و19 بشأن الضمان الاجتماعي المنظمة وموظفيها من تطبيق جميع قوانين التأمين الاجتماعي النمساوية، ولكن تمنح مسؤولي المنظمة المقيمين في فيينا الحق في المشاركة في أنظمة التأمين الاجتماعي والبطالة النمساوية.

تُلزم المادة 36 من الاتفاقية المنظمة بتوفير وسائل مناسبة لتسوية المنازعات الناشئة عن عقود ذات طابع قانون خاص تكون المنظمة طرفاً فيها وأحد مسؤوليها الذين يتمتعون بحصانة. وتحتوي المواد من 38 إلى 46 على أحكام عامة، مثل واجب جميع الأشخاص الذين يتمتعون بالامتيازات والحصانات بموجب اتفاق احترام القانون النمساوي بشأن التنازل عن الحصانة في حالة إعاقة مسار العدالة.

رغم ذلك، لا يؤدي اتفاق المقر إلى أي تغيير جوهري في الوضع القانوني للمنظمة لأن امتيازات المنظمة وحصاناتها مرسخة بالفعل بموجب القانون النمساوي، لكنه يعد فقط بمثابة اعتراف نمساوي بالشخصية القانونية للمنظمة على أساس ممارسة الدولة، بهدف تشجيع للدول المشاركة الأخرى على اتخاذ خطوات مماثلة وبالتالي المساهمة بشكل أكبر في الاعتراف بالمنظمة كمنظمة دولية كاملة.

منحت الدول المضيفة للهياكل الدائمة للمنظمة (الأمانة والمؤسسات) امتيازات وحصانات مماثلة لتلك الممنوحة للأمم المتحدة. بالإضافة لما فعلته النمسا، سنّت التشيك بصفتها الدولة المضيفة للأمانة الأولى لمؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي قانونًا يتعلق بأمانة ومؤسسات المؤتمر عام 1992، واعتمد البرلمان قانونًا يمنح الشخصية والامتيازات والحصانات القانونية لها.

ثالثًا- مسؤولية المنظمة 

إذا كانت الأهلية القانونية لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي مشكوك فيها، فمن سيتحمل المسؤولية عن حادث؟ هل ستكون من يقوم بتنفيذ النشاط في الإقليم الوطني؟ إذا تم تكليفهم بعملية ميدانية تابعة للمنظمة، فهل سيكون رئيس البعثة أم الأمين العام؟ هل ستكون الدول المشاركة هي التي وافقت على قرار المجلس الدائم بالتفويض؟ هل ستكون الجهات المانحة هي التي مولت المشروع؟ كل هذه الأسئلة قابلة للنقاش، وتؤدي إلى عدم اليقين القانوني والمخاطر القانونية، والتعرض والمسؤولية الطارئة.

من المؤكد أنها تعمل كمؤسسة موحدة، وتعمل "هياكلها التنفيذية" إدارياً تحت قيادة أمين عام واحد، وتتقاسم النظام التنظيمي الداخلي للمنظمة، ولم تعط المنظمة أي إشارة بأنها تعتبر نفسها أي شيء آخر غير الجهة الفاعلة المسؤولة، وتشرع في اتخاذ خطوات احترازية للتخفيف من المسؤولية المالية من خلال التأمين على سبيل المثال.

ظهرت المشكلات التشغيلية في الإطار القانوني للمنظمة بسرعة في معالجة النزاع في أوكرانيا وحولها. فقد اعتمد المجلس الدائم القرار رقم 1117 المؤرخ 21 مارس 2014 لإنشاء عملية جديدة لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي: بعثة المراقبة الخاصة إلى أوكرانيا. فقد كلف المجلس الدائم الأمين العام بنشر فريق متقدم في غضون أربع وعشرين ساعة من اتخاذ القرار، بما عبّر عن قدرة المنظمة على الاستجابة السريعة للأزمة.

لكن بسبب البنية المجزأة للمنظمة، كان لابد من إبرام مذكرة تفاهم جديدة وبدأت المفاوضات بين أمانة المنظمة والحكومة الأوكرانية، وتم توقيعها في 14 أبريل 2014 والتي تنص على التطبيق المؤقت لجميع مواد مذكرة التفاهم باستثناء تلك المتعلقة بالامتيازات والحصانات وصدّق عليها من قبل برلمان أوكرانيا في 29 مايو 2014؛ ودخلت حيز التنفيذ في 13 يونيو 2014. استغرقت عملية التنفيذ حوالي اثني عشر أسبوعًا من تاريخ النشر، ما يعني أنه على مدار الأسابيع الثلاثة الأولى قامت المهمة دون وضع قانوني رسمي أو صفة. ثم ظهرت مسألة عدم وجود امتيازات أو حصانات رسمية تغطي أنشطة الأشخاص الشخصية ولا حماية رسمية للضمانات الأمنية من قبل الدولة المضيفة. وبالفعل اُختطف ثمانية من مراقبي البعثة واحتُجزوا بمعزل عن العالم الخارجي لمدة شهر على أيدي الجماعات المسلحة، مما أثار تكهنات داخل المنظمة حول كيفية إظهار المسؤولية في حالة وقوع إصابات.

ركّز النشر السريع في أوكرانيا بشكل كبير على العواقب القانونية والتشغيلية لعدم وجود توافق في الآراء بشأن الشخصية القانونية الدولية ونطاق الامتيازات والحصانات التي يجب أن تتمتع بها المنظمة وهياكلها وجوانبها.

رابعًا- معضلة العضوية والمشاركة بالمنظمة

جزء لا يتجزأ من المناقشات داخل منظمة الأمن والتعاون الأوروبي هو مسألة خيار استخدام مصطلح "الدول المشاركة" بدلاً من "الدول الأعضاء". تظهر حالة من عدم الارتياح داخل دوائر المنظمة عندما يتم استخدام مصطلح الدول الأعضاء عن طريق الخطأ.

تشكل فكرة العضوية عنصرا مركزيا كأحد أسئلة المناقشات الرئيسية بشأن المناقشات الأخيرة حول مسؤولية المنظمات الدولية والدول الأعضاء فيها. تعد المسؤولية أحد العناصر الدائرة حول العضوية المحاطة باعتبارات سياسية وليست قانونية. إذ ينعكس النمط غير الرسمي للتعاون بين الحكومات في المنظمة في أنهم يُطلق عليهم دول "مشاركة" وليست الدول "الأعضاء"، بما يعني أن التعاون طوعي وخالٍ من الالتزامات القانونية تجاه المنظمة والدول الأخرى. تتناسب فكرة المشاركة أكثر مع فكرة المؤتمر، بينما في حالة وجود منظمة دولية تكون الدول أعضاء.

أدى غياب الشخصية القانونية الدولية للمنظمة إلى افتقار المنظمة إلى الامتيازات والحصانات بموجب القانون الدولي بما يؤدي إلى عدم اليقين القانوني والصعوبات التشغيلية التي تواجهها المنظمة وموظفوها في عملها اليومي. لذا فإن الاستخدام المستمر لمصطلح "الدول المشاركة" يمثل مشكلة مفاهيمية بشكل أساسي، ويعد عنصرًا أساسيًا في قبول الشخصية القانونية للمنظمة.

خامسًا- البعد المؤسسي وشمولية مهام المنظمة

ثارت مسألة ما الذي يشكل منظمة دولية، أي التي يتم التعبير عنها من خلال العمل الجماعي، أو كيان تم إنشاؤه بموجب معاهدة يحكمها القانون الدولي ويمتلك شخصية قانونية دولية. لكن بالنسبة لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي، فإن هذا التعريف يعيق عملها كمنظمة على الصعيدين الدولي والمحلي، لذا ظهرت الأصوات التي تزعم أن العنصريين (المعاهدة التأسيسية والشخصية القانونية الدولية) ليسا عنصرين أساسيين في منظمة دولية.

يوجد تعريف رسمي للمنظمة الدولية صادر من مقالات لجنة القانون الدولي (ILC) لعام 2011 بأنها "منظمة منشأة بموجب معاهدة أو صك آخر يحكمه القانون الدولي وتملك الشخصية القانونية الدولية الخاصة". بموجب هذا التعريف، فإن منظمة الأمن والتعاون الأوروبي لن تكون منظمة دولية لأنه لم يتم تأسيسها بموجب معاهدة أو صك آخر يحكمه القانون الدولي، ولم يكن هناك اتفاق على شخصيتها القانونية الدولية.

ينظر معظم علماء القانون إلى البعد المؤسسي للمنظمة من خلال الاعتراف به كعنصر فاعل عالمي في حد ذاته رغم افتقاره إلى المركز القانوني بموجب القانون الدولي. فقد طورت المنظمة مؤسساتها الخاصة بالإضافة إلى قنوات الاتصال غير الرسمية بين الدول حتى لو كان من خلال وثائق غير ملزمة قانونًا، لأنها تقوم بنفس الوظيفة التي تؤديها أي وثيقة تأسيسية أخرى تنشئ منظمة دولية.

تعد المنظمة أكثر شمولًا من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو تسمح لروسيا وحلفائها الأوروبيين بالمشاركة في المناقشات حول مسائل الأمن الإقليمي، من خلال تجاوز مناقشة الأبعاد السياسية والعسكرية لتشمل التنمية الاقتصادية وحماية البيئة وحقوق الإنسان خاصة في ظل عصر مليء بالأزمات الاقتصادية وتغير المناخ وتدفقات الهجرة المتزايدة والحروب الانفصالية في أوروبا.

يساهم هذا في تمكين المنظمة من اعتماد سياسات في مجموعة واسعة، وحدوث كل هذا بين سبع وخمسين دولة "مشاركة" يدل على مدى الوصول العالمي للمنظمة.

تعد القرارات والتوصيات وغيرها من الوثائق هي أدوات الحكم الرئيسية للمنظمة المعتمدة من هيئات ومؤسسات المنظمة، مثل المجلس الدائم لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي. يعتمد صنع القرار على الإجماع، مع وجود عدة استثناءات لهذه القاعدة.

وهناك مؤسسات فيها تعمل على صنع القرار قادرة على إنتاج إرادة "مشتركة"، بدلاً من مجرد "تجميع" لإرادة الدول المشاركة المستقلة ذاتيًا بغض النظر عن افتقارها إلى معاهدة دستورية وشخصية قانونية دولية.

هناك عدد من الأفكار التي تُظهر المنظمة كجهة فاعلة في حد ذاتها بما يتفق مع الرأي القائل إن مجرد التعاون السياسي بين الدول يفرض معايير على الدول المشاركة التي تمتثل لهذه المعايير. لكن هناك حالات تناقض ذلك، مثل معارضة روسيا لمهام مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان، إذ أعربت عن مخاوفها بشأن نطاق عمليات المنظمة خاصة تلك التي تهدف إلى حماية وتعزيز الانتخابات الحرة والنزيهة وسيادة القانون، وتعتبرها روسيا تدخلًا في شؤونها الداخلية للدولة وانتهاكًا لسيادتها الوطنية، وذلك رغم أن إجراءات المنظمة غير ملزمة قانونًا.

لا تتفق جميع الدول المشاركة على أنها جزء من المنظمة رغم أنها تبدو مقبولة كجزء من "عملية هلسنكي". ففي الممارسة العملية، يُنظر إلى منظمة الأمن والتعاون الأوروبي بشكل عام على أنها منظمة دولية، أو قريبة منها. فهناك ترتيبات مماثلة لتلك الموجودة في المنظمات الأخرى مثلًا:

-          رئيس للمنظمة وممثلون شخصيون له، والأمين العام. وهناك هياكل التنفيذية ممثلة في الأمانة العامة والمؤسسات الثلاثة المختصة بحقوق الإنسان في وارسو والمفوض السامي للأقليات القومية في لاهاي وممثل حرية الإعلام في فيينا، بالإضافة إلى 17 عملية ميدانية.

-          يتم عقد اجتماع رؤساء الدول أو الحكومات (القمة)؛ والمجلس الوزاري ومنتدى التعاون الأمني.

-          هناك الجمعية البرلمانية لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي.

-          هناك ثلاثة كيانات تابعة للمنظمة منشأة بموجب معاهدات منفصلة، هي محكمة التوفيق والتحكيم المنشأة بموجب اتفاقية استكهولم للتوفيق والتحكيم عام 1992؛ الفريق الاستشاري المشترك المنشأ بموجب معاهدة 1990 بشأن القوات المسلحة التقليدية في أوروبا؛ واللجنة الاستشارية للسموات المفتوحة المنشأة بموجب معاهدة الأجواء المفتوحة عام 1992.

من الحالات التي حدث فيها تحول من مؤتمر إلى منظمة دولية ذات شخصية قانونية، مثل الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة كاتفاقية تنفيذية، واللجنة الدولية للأشخاص المفقودين التي تم إنشاؤها عام 1996 بمبادرة من الولايات المتحدة وعُقدت اتفاقية مقر بين اللجنة والبوسنة والهرسك(20).

سادسًا- دور المنظمة في حل النزاعات

كان عدم اتخاذ قرارات فعالة في الأمم المتحدة تجاه العديد من الأحداث مثل الصراع السوري والأزمة الأوكرانية سببًا في توجه الأنظار نحو منظمة الأمن والتعاون الأوروبي في الوقت الذي تعمل المنظمة على إصلاح إطارها القانوني. لذا يجب التمييز بين الخصائص التقليدية للإطار القانوني للمنظمة الضرورية لنجاحها وتلك الخصائص التي يمكن إصلاحها كي تعمل المنظمة بشكل فعّال ومشروع.

فسّر البعض أسباب تمتّع منظمة الأمن والتعاون الأوروبي -كمنصة غير قانونية للحوار السياسي- بمزايا نسبية معينة على غيرها من المنظمات الناشطة في مجال الأمن والدفاع خاصة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والناتو. إذ ساهمت الطبيعة غير الملزمة فيما أقرّته المنظمة في تسهيل المفاوضات بين الأطراف المتصارعة والوصول لحلول وسط بسهولة في أوقات الانقسامات الأيديولوجية والسياسية العميقة(21).

يبدو أن المأزق الحالي الخاص بوضع المنظمة وإضفاء الطابع الرسمي عليه بموجب القانون الدولي يعكس عمليات الصعود والسقوط التي طغت على العلاقات الدولية في التسعينيات من القرن الماضي، ولا يزال مستمرًا حتى الآن.

سابعًا- استقلالية المنظمة عن الدول المشاركة فيها

توفر عدة دول الأهلية القانونية والامتيازات والحصانات للمنظمة. فقد أبرمت النمسا وبولندا، باعتبارهما الدولتان اللتان تستضيفان مقر المنظمة والمكتب الدولي لحقوق الإنسان على التوالي، اتفاقات كدولة مضيفة مع المنظمة كطرف في المعاهدة، أي أنها اعترفت بوضعها القانوني. أبرمت منظمة الأمن والتعاون الأوروبي مذكرات تفاهم ثنائية مع أرمينيا (تم التصديق عليها من قبل البرلمان) وكذلك كازاخستان قيرغيزستان والجبل الأسود وصربيا وطاجيكستان وأوكرانيا وأوزبكستان.

يضاف إلى ذلك، دعا البعض إلى حصول المنظمة على درجة عالية من الاستقلال للمنظمة عن الدول المشاركة، كما يجب إبراز دورها لممارسة السلطة العامة تجاه الدول المشاركة والجهات الفاعلة غير الحكومية، بما في ذلك الأفراد، بما يعني أن لها القدرة على تحديد نطاق حرية تصرف الآخرين.

إذن؛ لا يمنع عدم وجود شخصية قانونية دولية أن تكون المنظمة عنصرًا فاعلًا في الحكم أو أن تمارس سلطات عامة تجاه الجهات الحكومية وغير الحكومية على حد سواء.

كانت الولايات المتحدة دائمًا غير راغبة في إعطاء المنظمة دورًا رائدًا في نظام الأمن الأوروبي، وتفضل إسناد هذا الدور للناتو. قبلت الدول الأوروبية مقاربة مؤسسية أكثر للمنظمة ثم قبول إمكانية الاعتراف بالشخصية والامتيازات والحصانات القانونية للمنظمة بموجب القانون الدولي كي تحل محل الأنظمة القانونية الوطنية المختلفة التي تنظم الوضع القانوني للمنظمة. وتطالب دول مثل ألمانيا وفنلندا واليونان وكازاخستان وإسبانيا وليتوانيا بمنح المنظمة المركز القانوني الذي تحتاجه من أجل الوفاء بولايتها على نحو أكثر فعالية والعمل في بيئة دولية بدرجة عالية من اليقين القانوني.

في 2010، أثار البرلمان الأوروبي مخاوف من أن "منظمة الأمن والتعاون الأوروبي هي المنظمة الوحيدة بين أولئك الذين يتعاملون مع القضايا الأمنية في المنطقة الأوروبية التي تفتقر إلى الشخصية القانونية الدولية؛ رغم أن هذا الوضع له عدد من الآثار القانونية السياسية والعملية". هذا الدعم القوي كان نابعًا من التداخل الجغرافي والوظيفي بين المنظمتين.

رغم أن معظم الدول الأوروبية -بما فيها عدد من دول أوروبا الشرقية- تعتبر مسودة الاتفاقية لعام 2007 كافية لتسوية الوضع القانوني للمنظمة، إلا أن روسيا وبعض حلفائها يسعون جاهدين لمنح المنظمة الأسس القانونية. قد تكون دوافع روسيا لتعزيز الإطار القانوني للمنظمة استراتيجية وليست قانونية، لأنها تريد منها أن تكون بمثابة نظير لحلف الناتو والحد من تأثير الولايات المتحدة في أوروبا بشكل عام.

خاتمة

في ظل عدم وجود صيغ شرعية أو مبررات سياسية، فيما يتعلق بالمنظمة التي لم تنشأ بموجب معاهدة وليس لها شخصية قانونية دولية معترف بها، فإن هيئاتها تعمل بشكل أساسي كمنتدى للمفاوضة بين الدول وسياسات القوة، حيث تلعب القوى العظمى الدور القيادي، أي أن مؤسساتها ستكون مجرد أدوات سياسية في أيدي الدول المشاركة خاصة الأقوى فيهم.

تعزيز الإطار القانوني للمنظمة يجب أن يجلب المزيد من اليقين القانوني للفرد الذي يتأثر بأنشطة المنظمة ويجعل عمل المنظمة أكثر شفافية ومساءلة وشرعية.

بالنسبة لمفهوم الشخصية القانونية الدولية، فإن اكتسابها يعتمد الأسلوب والإجراءات التقليدية للحصول على الشخصية القانونية الدولية من قبل منظمة دولية على إرادة أعضائها (ما يسمى النظرية الذاتية).

إذن؛ لا يمكن للمنظمة اكتساب شخصية قانونية دولية إذا فشلت الدول المشاركة في اعتماد معاهدة منشئة ثم أهمية الممارسة الفعلية للمنظمة وعملها على المستوى الدولي. قد تبدأ المنظمة في اكتساب شخصيتها القانونية الدولية من خلال الاعتراف الرسمي خطوة بخطوة، واتفاق تلو اتفاق، فقد أدى عدم وجود توافق في الآراء بين الدول المشاركة في المنظمة حتى الآن إلى حرمان المنظمة من شخصيتها القانونية الدولية على الرغم من أن بعض أجهزتها مثل الأمانة العامة يبدو أنها تجد حلولاً تؤدي إلى حالات شخصية قانونية فعلية باستخدام مصطلح "الدول الأعضاء" في سياق المنظمة.

لذا، فإن الأمر متروك للدول المشاركة ذاتها لكسر الجمود السياسي وتخفيف الشروط الخاصة بقبول مشروع الاتفاقية لعام 2007.

قائمة المراجع

1.       محمد السعيد الدقاق: التنظيم الدولي (الإسكندرية: الدار الجامعية؛ 1985) ص 40.

2.       يحي الجمل، الشخصية القانونية الدولية لجامعة الدول العربية، (جامعة الدول العربية: يونيو، 1983) ص 126.

3.       عبد الرسول كريم أبو صيغ، "الاعتراف بالشخصية القانونية الدولية: دراسة تحليلية" (مجلة مركز دراسات الكوفة: العدد 40، 2016) ص 101.

4.       صلاح الدين عامر، قانون التنظيم الدولي: النظرية العامة – الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة- الهيئات الدولية خارج الأمم المتحدة، (القاهرة: دار النهضة العربية؛ 2002) ص 90.

5.       عبد الرسول كريم أبو صيغ، مرجع سبق ذكره؛ ص 100.

6.       صلاح الدين عامر، مرجع سبق ذكره؛ ص 90.

7.       يحي الجمل، مرجع سبق ذكره؛ ص 130.

8.       صلاح الدين عامر، مرجع سبق ذكره؛ ص 91.

9.       محمد السعيد الدقاق، مرجع سبق ذكره؛43.

10.   صلاح الدين عامر، مرجع سبق ذكره؛ ص 94.

11.   محمد خليل الموسى، "الجوانب المعاصرة للشخصية القانونية للمنظمات الدولية" (القيادة العامة لشرطة الشارقة- مركز بحوث الشرطة: المجلد 12، العدد 45، ابريل، 2003) ص 165.

12.   المرجع السابق؛ ص 168.

13.   المرجع السابق؛ 171.

14.   المرجع السابق؛ ص 172، محمد السعيد الدقاق: مرجع سبق ذكره؛ ص 44.

15.   محمد خليل الموسى، مرجع سبق ذكره، ص ص176: 178

16.   عبد الله العريان، " فكرة التنظيم الدولي: تطورها التاريخي وخصائصها الحاضرة" (مجلة القانون والاقتصاد: السنة الخامسة والعشرون، العددان الأول والثاني، مارس ويونيه، 1955) ص ص 270، 271.

17.   محمد خليل الموسى: مرجع سبق ذكره، ص 180.

18.     Lisa Tabassi, “The Role of the Organisation in Asserting Legal Personality: the Position of the OSCE Secretariat on the OSCE’s Legal Status”, In: Mateja Steinbruck Platise, Carolyn Moser and Anne Peters (editors), The Legal Framework of the OSCE, “ Max Planck Institute for Comparative Public Law and International Law, 2019, P.p. 48-81.

19.     Helmut Tichy, Catherine Quidenus, “Consolidating the International Legal Personality of the OSCE”, international organizations law review, (VOL.14), 2017, P.p. 403- 413.

20.     Niels M. Blokker and Ramses A. Wessel, “Revisiting Questions of Organisationhood, Legal Personality and Membership in the OSCE: The Interplay Between Law, Politics and Practice”, in: Mateja Steinbrück Platise, Carolyn Moser, Anne Peters (editors), Revisiting the Legal Status of the OSCE, Cambridge: Cambridge University Press, 2018, P.p. 1-24.

21.     Mateja Steinbrück Platise, Anne Peters, “Transformation of the OSCE legal status”, max planck institute for comparative public law and international law, (VOL.23), 2018, P.p. 1-25.


إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟