المشهد العراقي و اللبناني... هل تستسلم إيران ازاء الزخم الشعبي؟
تتمتع
طهران بنفوذ كبير في الساحتين العراقية و اللبنانية منذ عقود طويلة مضت؛ حيث
استطاعت تكوين عدد لا بأس به من الميليشيات الشيعية في المنطقة بأكملها و تقديم
بعض المساعدات العسكرية، علاوة على البعد الاقتصادي والأذرع الإعلامية التي طالما
حاولت إيران استخدامها لتحريك الرأي العام في كل من العراق و لبنان لصالح تعزيز
نفوذها والعمل على تحقيق أكبر قدر ممكن أهداف السياسة الخارجية الإيرانية.
ولكن ظهرت مجموعة من نقاط الضعف
التي أصابت هذا النفوذ في الفترة الأخيرة والتي تمثل أهمها في الاحتجاجات المتواصلة
في كل من لبنان والعراق ضد الوجود الإيراني، ومن ناحية أخري، تعانى طهران من ثغرات
كبيرة في الداخل تمنعها في الوقت ذاته من معالجة هذا القصور الخارجي، على خلفية
الخروج الأمريكي من الاتفاق النووي الإيراني في مايو لعام 2018، وما لحق ذلك من موجات
العقوبات الاقتصادية الأمريكية و التصعيد مع واشنطن بسبب اغتيال الولايات المتحدة
الأمريكية لـ اللواء "قاسم سليماني" قائد فيلق القدس التابع للحرس
الثوري الإيراني.
أولاً- صور
النفوذ الإيراني
تمتلك إيران عدد من الأدوات التي
تستطيع من خلالها مد نفوذها في أي مكان، وهو ما تفعله في عدد كبير من العواصم
العربية و على رأسها بيروت و بغداد، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:-
1- التغلغل
الاقتصادي
تعد العراق من أكثر الأسواق المفتوحة
أمام المنتجات الإيرانية؛ حيث سعت طهران منذ عام 2003 لإغراق الأسواق بالسلع الإيرانية الرخيصة
نسبيًا، كما عملت على تدشين عدد كبير من المؤسسات الاقتصادية التي أسهمت في تعزيز
التمدد الاقتصادي داخل الأراضي العراقية، فضلاً عن اتخاذ هذه المؤسسات كستار لعمليات
غسيل الأموال و الأنشطة المشبوهة التي تستخدم لتمويل الميليشيات الشيعية في
العراق. يتوازى ذلك، مع التدخل الإيراني في مختلف القطاعات الاقتصادية و الصناعية
في العراق بما يتضمن الاستثمار، السياحة الدينية، القطاعات التجارية، وتسهيل منح
التأشيرات للتجار والمستثمرين الإيرانيين. كما تمكنت طهران من توسيع علاقاتها
الاقتصادية إلي أن شمل الأمر إقليم كردستان و ازدهار فكرة التجارة عبر الحدود؛ حيث
تم إبرام عشرات العقود مع شركات إيرانية، لاسيما فيما يتعلق بأعمال الإنشاءات
والاتصالات بإقليم كردستان(1).
ويمكن القول أن الوضع العراقي
يتكرر مرة أخري في لبنان نتيجة سيطرة جماعة "حزب الله" التابعة لإيران؛
حيث يسيطر حزب الله على غالبية المصارف اللبنانية، و بعد عام 2011 جرت مجموعة من
الترتيبات بشأن تعزيز العلاقات الاقتصادية بينهما وسيما في بعض المجالات الهامة
مثل الطاقة بما يتضمن النفط، الغاز و البتروكيماويات؛ حيث وصل حجم التبادل التجاري
بين كل من طهران وبيروت بحوالي 10 مليارات دولار، وكانت إيران من أولى الدول التي
تمتلك مساهمات حيوية في إعادة إعمار لبنان و البنية التحتية بعد عام 2006 (2).
الميليشيات الشيعية
تمتلك إيران عدد كبير من
المليشيات الشيعية في المنطقة و لاسيما في أكبر معاقل نفوذها الموجودة في الشرق
الأوسط المتمثلة في العراق و لبنان؛ حيث تم تكوين الميليشيات الشيعية في
العراق نتيجة لحالة الفقر، وحشية حزب
البعث في تسعينيات القرن العشرين و الفوضى
والعنف بعد حرب عام 2003 في العراق؛ حيث تحول ناشطو السياسة الشيعة إلى ميليشيات، وخلافاً
لنظرة الناشطين الشيعة العالمية الفكرية والإصلاحية التي شكلت أساساً لحزب الدعوة
الإسلامية في خمسينيات القرن الماضي، اتسم شيعة العراق بالعنف وتركّزت أهدافهم على
العدالة السياسية والاجتماعية، المظالم الطائفية والتخفيف من حدة الفقر. وعليه،
استخدمت طهران هذه الجماعات الشيعية في العراق لتكون بمثابة منصة لخدمة مصالحها
الإقليمية ولشنّ صراعات كالموجودة في سوريا؛ حيث هدفت إيران إلى جعل العراق ركيزة
أساسية لبنيتها الأمنية الإقليمية، وبالفعل نجحت تماماً في ذلك، وتتمثل أهم
الميليشيات الشيعية الموجودة هناك حاليًا في "الحشد الشعبي"(3).
أما فيما يتعلق بلبنان فتعد جماعة
"حزب الله" الشيعية أحد أهم أبرز وكلاء طهران هناك و في المنطقة بشكل
عام؛ حيث تأسس "حزب الله" بدعم إيراني في مطلع الثمانينيات من القرن
العشرين و ظهر إلى واجهة الأحداث أثناء احتلال إسرائيل لجنوب لبنان عام 1982، و
تعود جذوره الفكرية إلى ما يعرف "الصحوة الإسلامية الشيعية" في لبنان في
الستينيات والسبعينيات التي شهدت ظهور نشاط علمي شيعي ومرجعيات دينية في جنوب
لبنان كمرجعية الشيخ حسين فضل الله، كما أعلن الحزب في أدبياته التزامه بنظرية ولاية الفقيه، كما جسدها "آية
الله الخميني" بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979(4).
2- الأذرع
الإعلامية
تلعب إيران دوراً كبيراً في
العواصم العربية ولاسيما بيروت و بغداد من خلال أحد أبرز أدوات القوة الناعمة و
التي تتمثل في الأداة الإعلامية؛ حيث تمتلك إيران عشرات وربما مئات القنوات
التلفزيونية والمواقع الإلكترونية والمحطات الإذاعية ومراكز الدراسات الوهمية
الممولة إيرانياً، فضلاً عن جيوش إلكترونية تطارد الناشطين الذين ينتقدون السياسات
الإيرانية بطريقة علنية عبر مواقع التواصل المختلفة. وبالفعل أثبتت الأداة
الإعلامية الإيرانية في العراق فيما يتعلق بالتأثير على الرأي العام و تكوين
مجموعة من المؤيدين على المستويين الشعبي و الرسمي(5).
كما تمتلك إيران في بيروت أكبر
محطة تلفزيونية ناطقة بالعربية وهي قناة العالم، قناة المنار لسان حال حزب الله،
وقناة الميادين أكبر قناة مدعومة إيرانيًّا، فضلاً عن المحطات التلفزيونية المنتشرة
في الضاحية الجنوبية ببيروت معقل الشيعة وحزب الله. وتوجد بعض القنوات المؤيدة للسياسة الإيرانية،
بعضها لبناني، عراقي وبعضها يمني تابع للحوثيين، وبعضها يتبع شيعة شرق السعودية،
وبعضها فلسطيني يتبع حماس، ولكن الجدير بالذكر أن كل القنوات التلفزيونية الموالية لإيران وحزب
الله والعاملة بسياستها، تتوزع بين الضاحية الجنوبية والمناطق المتفرعة عنها،
وتتمركز معظمها في الأدوار السفلية في مباني تحت الأرض، ولا يمكن الدخول إليها قبل
المرور على حواجز أمنية للجيش وحزب الله والأمن الخاص(6).
ثانيًا- نقاط
الضعف
تعانى
الجمهورية الإسلامية الإيرانية من نقاط ضعف كثيرة فيما يتعلق بنفوذها في عدد لا
بأس به من العواصم العربية و التي يتمثل أهمها في كل من بغداد و بيروت ولاسيما بعد
الخروج الأمريكي من الاتفاق النووي في مايو لعام 2018 و إعادة فرض العقوبات
الاقتصادية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى، وسنعرض فيما لأهم صور
نقاط الضعف هذه:
1- الاحتجاجات
المتواصلة في بيروت و بغداد ضد النفوذ الإيراني
خرج المواطنين في كل من العراق و
لبنان منددين بالنفوذ الإيرانى و ضد المظالم المحلية والنخب السياسية، فيما يُشكل
تحدياً لإيران، التي تدعم استقرار الأوضاع
السياسية والجماعات المسلحة القوية في كلا البلدين. الأمر الذي قابلته طهران بحملة
قمع عنيفة على خلفية الخبرة الإيرانية في التعامل مع الاحتجاجات و قمعها، و هو ما
تمثل في تصريح الفقيد قاسم سليماني في ذلك الوقت، قائلاً:" نحن في إيران نعرف
كيفية التعامل مع الاحتجاجات، لقد حدث هذا في إيران وسيطرنا عليه".
ولكن مجرد صعود هذه التظاهرات
تحديًا كبيراً للنفوذ الإيراني في المنطقة و تهديداً للأوضاع المستقرة التي ساهمت
طهران في وجودها داخل هذه البلدان و بالتالي، صعود النخب السياسية المؤيدة لها، و
هو الأمر الذي من شأنه أن يقلب الأمور رأسًا على عقب بالنسبة لإيران، لاسيما و أن
الاحتجاجات زادت كثافتها في المناطق الشيعية ذات النفوذ الإيراني(7).
2- انخفاض
التمويل
أدت العقوبات الأمريكية التي فرضت
على إيران بعد الخروج الأمريكي من الاتفاق النووي في عام 2018 إلي تقليص الدعم
المادي الإيراني للجماعات الموالية لها في المنطقة ولاسيما فيما يتعلق بالحشد
الشعبي في العراق و جماعة "حزب
الله" اللبناني؛ حيث شهدت عوائد "حزب الله" انخفاضًا كبيراً ما أجبر
قياداته على إجراء تخفيضات ساحقة في النفقات.
يتوازى ذلك، مع إجبار قيادات
"حزب الله" على تسريح مقاتلين عبر إعطائهم إجازات أو وضعهم على قوات
الاحتياط، مع تلقيهم أجوراً أقل أو دون أجور على الإطلاق، إضافة إلى سحب العديد
منهم من سوريا، فضلاً عن اللجوء إلي إلغاء برامج تلفزيونية على قناة (المنار)
التابعة لحزب الله وتسريح العاملين بها، بجانب تخفيض الإنفاق على عدد من برامج
الإنفاق الوافرة التي عززت دعم التنظيم في لبنان لفترة طويلة ومن بينها برنامج
إمداد بأدوية مجانية وسلع يومية إلى المقاتلين والموظفين وعائلاتهم(8).
3- الأوضاع غير
المستقرة بالداخل الإيراني
أدت الأوضاع المضطربة بالداخل الإيراني
منذ أواخر عام 2017 من الاحتجاجات المتصاعدة على خلفية إنفاق الحكومة الإيرانية
كثير من الأموال على دعم ميليشياتها الموجودة في المنطقة و التي يتمثل أبرزها في "الحشد
الشعبي" بالعراق، "حزب الله" في لبنان و جماعة "الحوثي"
في اليمن إلي اضطراب كبير في سياسات الحكومة الإيرانية فيما يتعلق بنفوذها داخل
دول الجوار و الميليشيات المسلحة التابعة لها هناك.
كما تكررت هذه التظاهرات مرة أخري
على خلفية في نوفمبر لعام 2019 إثر قرار مجلس التنسيق الاقتصادي بين السلطات
الثلاثة برفع أسعار الوقود الأمر الذي أدى لخروج المواطنين للشوارع، فضلاً عن
الاحتجاجات التي أعقبت إسقاط الوحدة الصاروخية التابعة للحرس الثوري لطائرة ركاب
أوكرانية في 8 يناير لعام 2019 وهو الحادث الذي راح ضحيته عدد كبير من طلبة
الجامعات الإيرانية.
ثالثًا- هل
توجد فرص لاقتلاع النفوذ الإيراني؟
على الرغم من أن فرص اقتلاع
النفوذ الإيراني من دول الشرق الأوسط ولاسيما العراق و لبنان تعتبر ضئيلة للغاية
أو شبه معدومة على خلفية وجود فصيل سياسي كبير مدعوم من طهران و نخبة سياسية
موالية لها تعمل على تنفيذ أجندتها في المنطقة، فضلاً عن عنصر الزمن و الذي يلعب دوراً
كبيراً في هذا الإطار؛ فالنفوذ الإيراني في هذه العواصم العربية يمتد لعقود طويلة
مضت، الأمر الذي أدى لتغلغله و توطيد جذوره. ولكن من الجدير بالذكر ، أن نقاط ضعف
ومساوىء النفوذ الإيراني في المنطقة باتت كثيرة و ملحوظة إلي درجة كبيرة، الأمر
الذي يشير إلي بدء الهدم و الاقتلاع الأولى لجذور النفوذ الإيراني في كل من العراق
و لبنان.
والجدير بالذكر أن الأسباب التي
يمكن أن تؤدى إلي ذلك توجد على مستويات عدة، يتمثل أهمها في المستوى العالمي
و هو الذي تحاول الولايات المتحدة الأمريكية من خلاله بذل أقصى جهد ممكن على
الجمهورية الإسلامية بغرض الحد من نفوذها الإقليمي الذي يعمل على تهديد مصالح
واشنطن في المنطقة. أما على المستوى الإقليمي فتواجه طهران ضغط كبير من قبل
أكبر منافسيها في الشرق الأوسط و المتمثلة في المملكة العربية السعودية التي تهدد إيران
مصالحها في الشرق الأوسط وسيما في اليمن؛ الأمر الذي اتضح في الصراع المتبادل مع
جماعة الحوثي، بينما على المستوى المحلى فتواجه طهران ضغوط متزايدة على
خلفية الوضع الاقتصادي المتدهور، و الاحتجاجات المتصاعدة الرافضة لسياسات الدولة
على المستوى الداخلي و الخارجي.
الهوامش
1. التغلغل الإيراني في العراق…الدوافع والأشكال وأدوات
التأثير، مركز الروابط و البحوث و الدراسات الإستراتيجية، 11/6/2016، متاح
على الرابط التالي:
https://rawabetcenter.com/archives/27905.
2.
Will
Fulton, Lebanon-Iran Foreign Relations, critical threats, 30/7/2010,
available at :
https://www.criticalthreats.org/analysis/lebanon-iran-foreign-relations
3. رانج
علاء الدين، سمية عطية، الميليشيات الشيعية في العراق: للسياق أهمية، بروكنجز،
11/5/2017، متاح على الرابط التالي:
4. حزب الله اللبناني: الجذور ومنابع النفوذ، 2/9/2019، BBC News عربي، متاح على الرابط التالي:
https://www.bbc.com/arabic/middleeast-46441399.
5. نفوذ إيران في العراق... الهيمنة عبر الإعلام، الشرق
الأوسط، 11/12/2017، متاح على الرابط التالي:
https://aawsat.com/home/article/1109181/.
6. خريطة الإعلام اللبناني: إيران تهيمن و العرب غائبون، العين
الإخبارية، 24/4/2016، متاح على الرابط التالي:
https://al-ain.com/article/132096.
7. كيف حاصرت احتجاجات العراق ولبنان النفوذ الإيراني في
البلدين، الشرق الأوسط، 31/10/2019، متاح على الرابط التالي:
8. واشنطن بوست: حزب الله يخفض نفقاته بشكل حاد متأثرا
بعقوبات ترامب ضد إيران، اليوم السابع، 19/5/2019، متاح على الرابط التالي: