عولمة الأمراض المعدية .. كورونا وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية
وجدت مسببات الأمراض البشرية فرصة سانحة للانتشار السريع
في الحقبة الجديدة من العولمة التي بدأت مع سقوط جدار برلين في عام 1989 الذي كان بمثابة
بداية لاختفاء الحدود القديمة، وحقبة جديدة من الحركة والتفاعل الإنسانيين اللذين
لا مثيل لهما. فعندما يتنقل الناس، والمنتجات، والغذاء، ورأس المال إلى العالم
بأعداد وسرعات غير مسبوقة، يتنقل معهم عدد لا يحصى من الكائنات الحية الدقيقة
المسببة للأمراض بما سهل الانتشار العالمي لها. وفي مطلع القرن الحادي والعشرين،
كان التأثير الهائل لزيادة التنقلات على الأمراض المعدية واضحًا في ظهور أوبئة
الطاعون في الكثير من المدن حول العالم، وعودة ظهور حمى الدنج، وإدخال فيروس غرب
النيل إلى مدينة نيويورك في عام 1999، والانتشار السريع لعدوى فيروس (HIV) في روسيا، والانتشار العالمي
لمرض السل. فبسبب العولمة، أصبح لا توجد دولة محصنة ضد التهديد العالمي المتزايد
الذي يمكن أن يشكله تفشي الأمراض المعدية في جزء بعيد من العالم على ما يبدو.
اليوم، سواء كان يحملها مسافر أو سلعة، يمكن أن تصل مسببات الأمراض البشرية بسرعة
إلى أي مكان في العالم.
وتستمر العولمة في لعب دورًا مركزيًا في تشكيل المشهد
العالمي للأمراض المعدية، يتضح من خلال انتشار فيروس كورونا من الصين إلى عدة دول.
في هذا المقال سيتم تناول خريطة انتشار الفيروس حتى الآن في دول العالم، وعرض
تداعياته الاجتماعية والاقتصادية على الصين وغيرها من الدول المصابة.
عالمية
الانتشار
على الصعيد المحلي؛ حتى نهاية يوم 26/1 وصل عدد المصابين
في الصين إلى 2744 مصاب، بينها 461 حالات حرجة، وارتفع عدد الوفيات إلى 80
شخص. وقد انتشر الفيروس من ووهان إلى مدن
رئيسية أخرى في الصين مثل بكين وشانغهاي وماكاو وهونج كونج.
وعلى الصعيد الدولي، ارتفع عدد الحالات المؤكدة في
الولايات المتحدة في ولاية أريزونا إلى خمس حالات،(1) ووصلت في سنغافورة إلى أربع
حالات،(2) وأبلغت كوريا الجنوبية عن مريضها الثالث المصاب بالفيروس، وذكرت
تايلاند ثلاث حالات. وأكدت أستراليا إصابة خمسة أشخاص –واحد في ولاية فيكتوريا،
وثلاثة في نيو ساوث ويلز، وحالة في سيدني آتية من ووهان. وكانت فرنسا أول دولة
أوروبية تعلن عن الإصابة بالفيروس من خلال ثلاثة حالات –اثنان في باريس وحالة في
بوردو-.(3) وأعلنت نيبال إصابة طالب نيبالي يدرس في الصين ليكون أول
حالاتها. وقد تم الإبلاغ عن حالات في تايوان وكندا واليابان وماليزيا وفيتنام.
التداعيات
1. الآثار الاقتصادية
يوجد مسارين للآثار الاقتصادية للأوبئة، الأول هو صدمة
قصيرة الأجل تتزامن مع إصابة الدولة بوباء لمرة واحدة، والثاني تأثيرات طويلة
الأجل تتزامن مع تفشي الأمراض والأوبئة بشكل متكرر. على سبيل المثال، نجد أن صدمة
انتشار السارس قصيرة الأجل أثرت على هونج كونج بشكل غير متناسب بسبب اعتمادها
الاقتصادي على الخدمات (مثل السفر والسياحة)، كما حدثت خسائر كبيرة على المدى
القصير في الصين نتيجة للانخفاض الحاد في الاستثمار الأجنبي وهو ما يمكن أن يشل
الاقتصاد إذا استمر لعدة سنوات. وعلى المدى الطويل ظهرت توقعات بأن استمرار تفشي
الأمراض المعدية من الصين يمكن أن يسبب أزمة اقتصادية لشرق آسيا بأكملها. ويتسبب
الفيروس أيضًا في خسائر عالمية –ليست فقط محلية أو قاصرة على الدولة المصابة به-
فقد تسبب تفشي سارس في خسائر اقتصادية عالمية قدرت بحوالي 40 مليار دولار، وبلغت
خسارة الدول الآسيوية ما بين 12 و18 مليار دولار.(4)
ومن هذا المنطلق يمكن أن يتسبب كورونا في خسائر اقتصادية
مماثلة، أو أكبر من ذلك نظرًا لأن فترة حضانة المصاب للفيروس أكبر بكثير من سارس
حيث تبلغ حوالي 10 أيام. بما قد يتسبب في ركود اقتصادي يضغط على تمويل الصحة
العامة مما يزيد من إضعاف قدرة العالم على منع أو احتواء تفشي الفيروس بعد ذلك.
وفيما يتعلق بالخسائر
على المدى القصير، أكد عدة خبراء أن كورونا أن خسائره ستكون كبيرة، وأنه
سيكون ضربة أخرى للصين التي تأثر اقتصادها من الحرب التجارية مع الولايات المتحدة،
وللمدن التجارية الرئيسية مثل هونج كونج التي يعاني اقتصادها من شهور من
الاحتجاجات العنيفة ضد الحكومة.(5) ويفاقم الوضع زيادة الإنفاق على
الوقاية والرعاية الصحية، بجانب أن الدولة فرضت الحجر الصحي على المدن الرئيسية
المصابة بما يعطل حركة التجارة فيها ويوقف الأنشطة الاستثمارية، كما قامت بمد
العطلة،(6) وفرض حالة الطوارئ في المدن التجارية الكبرى مثل هونج كونج للحد
من تجمع الناس في الأماكن العامة بما يتسبب في توقف العمل والإنتاج.(7) فمن
المتوقع أن يتضرر قطاع السياحة والصناعات المرتبطة بها نتيجة تراجع حركة السكان
المحليين وكذلك الأجانب في الصين خاصة بعد أن أصبحت منطقة وبائية والذي دفع دول
عدة إلى إصدار تعليمات بمنع السفر إلى الصين من قبل الدول وشركات الطيران. وقد
يساهم في انخفاض التبادل التجاري بين الصين وغيرها من دول العالم. جل هذا من شأنه
أن يؤدي لتراجع الناتج المحلي في الصين والدخل القومي، كما يمكن أن يؤثر على مكانة
الصين الاقتصادية.
ورغم صعوبة التنبؤ بالخسائر على المدى البعيد، إلا إن من
المؤكد أنها ستكون كبيرة حال استمرار تفشي الوباء دون إيجاد علاج سريع له. فنتيجة
التأخر في السيطرة على السارس عام 2003 تأثر الاقتصاد العالمي الكلي بما يتراوح
بين 30 و 100 مليار دولار .
2. التأثير على أنظمة الصحة العامة العالمية والمحلية
مثل العديد من
الأمراض الناشئة في العقد الماضي، ألقي تحدي مواجهة كورونا الضوء على الحاجة إلى
مزيد من الاستثمارات في البنية التحتية للصحة العامة. فقد يسبب تفشي المرض عبئًا
كبيرًا على الأنظمة الصحية الدولية التي كانت تعاني من ضغوط كبيرة بالفعل لمعالجة
مرض الإيدز والسل والملاريا ومجموعة من الحالات الأخرى.
أما فيما يتعلق بأنظمة الرعاية الصحية المحلية فقد تسبب
في أضرار جمة، حيث انتهى الأمر بمقدمي
الرعاية في الخطوط الأمامية إلى تحولهم لمرضى أو وفيات. كما أدى إلى تقليص حقوق
العديد من موظفي الرعاية الصحية وفرض مطالب مرهقة عليهم مثل حرمانهم من الإجازات وعزلهم
مع المرضى لاحتواء الوباء ونقلهم إلى مستشفيات أخرى وفي بعض الأحيان يتم استدعائهم
من خارج الدولة. وفي الصين على سبيل المصال تم إرسال أكثر من 1600 موظف طبي إلى
مقاطعة هوبي، ومدينة ووهان للمساعدة في احتواء الفيروس.(8) بجانب ذلك يكشف انتشار الفيروس
عن وجود نقص نسبي في البنى التحتية اللازمة لتلك الحالات الطارئة، فقد أجبرت
الحكومة على بناء مستشفيات خلال أسبوع واحد لعلاج المصابين.(9)
3. الآثار الاجتماعية
قد يتسبب انتشار
كورونا وسياسات التصدي له في عواقب اجتماعية خطيرة، خاصة بالنسبة للأفراد
المهمشين في المجتمع. فقرار فرض الحجر الصحي لمنع انتشار الفيروس الذي أقرته
الحكومة قد يزيد من المخاوف القائمة بشأن العرق والطبقة حيث إن الحجر يساء
استخدامه باعتباره فاصلًا اجتماعيًا وليس فاصلًا صحيًا في المجتمعات متعددة
الثقافات. فعندما انتشر الطاعون في كيب تاون في عام 1901 أدى إلى معسكر للحجر
الصحي على أساس عنصري، استخدم في وقت لاحق كمخطط للتمييز العنصري.(10)
كما قد يتسبب في تصاعد التوتر في المجتمع بسبب نقص
المعلومات الرسمية حول الوضع الوبائي وغياب علاج له، لأن هذا يؤدي إلى انتشار
شائعات حوله بما يفاقم انتشار الذعر الاجتماعي. ففي وقت سابق عندما انتشر السارس
في الصين ظهرت شائعات أن الخل يمكن أن يمنع الفيروس، كما زادت معدلات شراء الأدوية
المضادة للفيروسات، ودفعت حالة الهلع السكان إلى شراء كميات هائلة من الأقنعة التي
كانوا يرتدونها في كل مكان –حتى غير المصابة بالفيروس-.(11)
وفي الختام، يجدر التأكيد على أن الاستجابة الفعالة والكفؤة
للأوبئة من شأنها أن تقلل الوفيات والإصابات وكذلك تقليل الآثار الاقتصادية
والاجتماعية والأمنية لانتشارها. وهذه الاستجابة تعتمد بشكل أساسي على جودة وكمية
المعلومات المتوفرة في أي وقت، والتنسيق الجيد بين الأطراف المعنية وكذلك سهولة
تبادل المعلومات والاتصال بينهم.
الهوامش
(1)
“Coronavirus: 5th case of new virus confirmed in Arizona, bringing US total to
5,” ABC news, 27/1/2020, available at: https://abc13.com/health/5th-case-of-new-coronavirus-confirmed-in-us/5879796/.
(2)
“UPDATES ON WUHAN CORONAVIRUS,” Ministry of health,
Singapore,26/1/2020, available at: https://www.moh.gov.sg/2019-ncov-wuhan.
(3) “France confirms
first three cases of Wuhan coronavirus in Europe,” France 24, 24/1/2020,
available at: https://www.france24.com/en/20200124-france-confirms-first-two-cases-of-wuhan-coronavirus-china-bordeaux-paris.
(4) Jong-Wha Lee and Warwick J. McKibbin,
“political influences on the response to Sars and economic impacts of the
disease,” In Stacey Knobler, Adel Mahmoud, Stanley Lemon, Alison Mack, Laura
Sivitz, and Katherine Oberholtzer (Editors.), Learning from SARS: Preparing
for the Next Disease Outbreak, (Washington: The National Academies press,
Institute of medicine, 2004): 91-100.
(5) Elaine Kurtenbach,
“China Virus Outbreak May Wallop Economy, Financial Markets,” The diplomat,
23/1/2020, available at: https://thediplomat.com/2020/01/china-virus-outbreak-may-wallop-economy-financial-markets/.
(6) “China
extends Spring Festival holiday to contain coronavirus outbreak”, The state
council of China, 27/1/2020, available at: http://english.www.gov.cn/policies/latestreleases/202001/27/content_WS5e2e34e4c6d019625c603f9b.html.
(7)
Natasha Turak, “Hong Kong leader declares citywide virus emergency over
coronavirus, first cases appear in Australia,” CNBC, 25/1/2020,
available at: https://www.cnbc.com/2020/01/25/hong-kong-leader-declares-citywide-virus-emergency-over-coronavirus.html.
(8) “1,600 more medical workers to aid Hubei's
coronavirus control,” Xinhua, 26/1/2020, available at: http://www.xinhuanet.com/english/2020-01/26/c_138735214.htm.
(9) “Premier Li chairs leading group meeting on
coronavirus prevention, control,” The state council of China, 26/1/2020,
available at: http://english.www.gov.cn/premier/news/202001/26/content_WS5e2d940ec6d019625c603f8b.html.
(10)
Dakin Andone, “China's unprecedented quarantines could
have wider consequences, experts say,” CNN, 27/1/2020, available at: https://edition.cnn.com/2020/01/26/health/quarantine-china-coronavirus/index.html
(11) Ringo Ma, “Spread of SARS and War-Related Rumors through New Media in China,” Communication Quarterly, Vol.56, No.4, 2008, p.378.