صعود اللاحركات... مدى قدرة النظام الإيراني على احتواء التظاهرات
يعد العمل الاحتجاجي من أكثر السمات الممتدة عبر عقود
طويلة داخل الجمهورية الإسلامية و هو الأمر الذي عجز النظام و الحكومات الإيرانية
المتعاقبة على احتوائه و تقديم حلول جذرية من شأنها منع ظهوره مرة أخري. وفي هذا
السياق، عمل المفكر الإيرانى من أصل أمريكي "أصف بيات" على توصيف هذه الحالة
بما أطلق عليه اللاحركات أو بمعنى اخر سياسات الشارع التي حاول من خلالها الخروج
بتأصيل نظري لمثل هذه الحالات.
امتدت الاحتجاجات في طهران منذ قيام الثورة الإسلامية و
حتى الوقت الحالي؛ ففي عام 1999 اقتحم الحرس الثوري مدينة الطلبة بجامعة طهران واندلعت
ازمة سياسية حادة، وقامت الثورة الخضراء في عام 2009 على خلفية الترويج لتزوير
الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها المتشدد "أحمدي نجاد"، فضلاً عن
الاحتجاجات التي اندلعت في نهاية عام 2017 على خلفية اعتراض الإيرانيين على انفاق
النظام الكثير من الأموال على دعم انشطته في الخارج دون النظر إلي المشكلات
الداخلية، و أخيراً الاحتجاجات التي قامت في منتصف نوفمبر 2019 بسبب قرار مجلس
التنسيق الاقتصادي برفع سعر الوقود و المحروقات.
أولاً- اللاحركات
كإطار نظري
يشير مفهوم اللاحركات إلي كل صور النضال اليومي التي تتم
بشكل فردي، ولكنها تتحول في وقت ما إلي سلوك جمعي، و يتمثل الأمر المشترك فيما
بينهم في الاتجاه إلي استهلاك كل ما هو عام، و الحضور الفيزيقي الذي يخلق صراعًا
بين الأفراد و الدولة. و تأخذ هذه الصور من النضال اشكالاً عديدة تبدأ من احتلال
الشوارع الجانبية من قبل الباعة الجائلين، وصولاً إلي كل صور نضال المرأة من أجل
الحصول علي حقوقها، و الشباب المتمرد علي الأطر الثقافية التقليدية.
ترتبط فكرة اللاحركات بالعمل الثوري الهادئ البطيء الذى
ينفذ من خلاله الناس العاديون و الذين يعيشون على الهامش، فقراء الحضر للتأثير علي مسارات التغيير في مجتمعاتهم عبر
رفض الخروج من الحلبة السياسية و الاجتماعية التي تسيطر عليها الأنظمة التسلطية بغرض
السعي نحو تحسين أحوالهم المعيشية.
نتيجة لما سبق، ترتكز
فكرة اللاحركات علي المساعي الجمعية لملايين الفاعليين الذين لا تربطهم روابط
جمعية، و التي تظهر في الميادين و الشوارع العامة و المجتمعات المحلية لتشكل ما
يُعرف بفن الحضور، و هو ما يتضح بشدة في الظاهرة الاحتجاجية الموجودة داخل إيران،
على خلفية تفجر غضب الناس كل فترة ليست بالقصيرة و النزول للشارع للمطالبة بحقوقهم
في مواجهة السلطات الاستبداية(1).
ثانياً- تاريخ
الحركة الاحتجاجية داخل إيران
يمتد تاريخ الحركة الاحتجاجية في إيران إلي ما قبل
الثورة الإسلامية لعام 1979؛ ففي عام 1975 نُظمت احتجاجات عامة ضد نظام الشاه محمد
رضا بهلوي من قبل طلاب المدارس في مدينة قم على خلفية التدهور الاقتصادي الذي كان
موجوداً في ذلك الوقت، ولكن لم تحدث هذه التظاهرات ضجة كبيرة بالداخل الإيراني في
ذلك.
ولكن تردد صدي تظاهرات
يناير 1978 في جميع أنحاء إيران و سرعان ما أصبحت نقطة التقاء للتعبئة الثورية،
و باتت بمثابة نقطة انطلاق لأحداث الثورة الإسلامية في إيران لعام 1979 ، على
خلفية رفض رجال الدين للسياسات المتبعة من قبل نظام الشاه على الصعيد السياسي،
الاقتصادي و الاجتماعي الثقافي؛ حيث كانت إيران تابعة في ذلك الوقت تبعية كاملة
للقوى الغربية من الناحية السياسية و بالطبع يمتد ذلك إلي الجانب الاقتصادي من
خلال استحواذ المملكة المتحدة و الولايات المتحدة الأمريكية علي مشروعات النفط
الإيرانية التي يذهب عائدها الي شعوبهم بدلاً من الشعب الإيراني الذي يعانى انخفاض
مستوي المعيشة، أما علي المستوي الثقافي الاجتماعي فقام الشاه في ذلك الوقت باتباع
بعض القيم المستوردة من الغرب، و جمعها فيما يعرف بمصطلح الثورة البيضاء، الأمر
الذي اغضب رجال الدين في طهران و قاموا على إثره بحملات من النضال السياسي المستمر
حتى قيام الثورة في 1979(2).
يتوازى ذلك، مع الحدث الأهم و الأبرز في السنوات الأولي
بعد الثورة و الذي تمثل في احتجاجات الطلبة لعام 1999 اعتراضًا على إغلاق الصحيفة الإصلاحية
"سلام"؛ حيث تظاهر أكثر من 10000 طالب في مدن إيرانية عدة بعد يوم واحد من الغارة العنيفة التي شنتها الشرطة
على سكن الطلاب في جامعة طهران، ورددوا شعارات ضد التيار المتشددين في الحكومة،
مما ادى للاشتباك مع الشرطة الإيرانية، الأمر الذي خلف ما لا يقل عن 20 مصاب وسجن
125 طالبًا. واستمرت الظاهرة الاحتجاجية، إلي أن ظهرت مرة أخري في عام 2009 فيما
يعرف باسم الثورة الخضراء، التي اندلعت تظاهراتها على خلفية اتهام الحكومة
الإيرانية في ذلك الوقت بتزوير الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها المحافظ أحمدي
نجاد في مقابل تهميش مرشحي الحركة الإصلاحية.
وتصاعدت الاحتجاجات مرة أخري في أواخر ديسمبر لعام 2017
و بداية يناير لعام 2018 علي خلفية اتهام الحكومة الإيرانية بتصريف أموال الشعب
الإيرانى الذي يعانى انخفاض مستوى المعيشة في أنشطة النظام الخارجية لدعم الجماعات التابعة
له في المنطقة، دون الالتفات لمصالح الشعب أو حاجاته الاقتصادية. و تكررت هذه
الاحتجاجات مرة أخري في منتصف نوفمبر لعام 2019 على خلفية قرار المجلس التنسيق
الاقتصادي برفع أسعار الوقود و المحروقات في ظل الحالة الصعبة التي يعانيها
الاقتصاد الإيرانى على خلفية العقوبات الأمريكية التي اعقبت الخروج الأمريكي من
الاتفاق النووي في مايو 2018.
ثالثاً- الدوافع
الحقيقية وراء تظاهرات الوقود نوفمبر 2019
تعد فكرة الاعتراض على رفع أسعار الوقود هي الدافع
الظاهر وراء الاحتجاجات الحالية في طهران
و لكن من الواضح أنها لم إلا الحدث الذي أثار غضب متراكم عبر سنوات طويلة لدي
المواطن الإيراني، لذا، تفجرت هذه التظاهرات وسط أزمة كبيرة داخل إيران تمثلت أبرز
معالمها فيما يلي:-
1- تصاعد حدة
الصراعات الداخلية
تأتي هذه
الاحتجاجات على خلفية تزايد حدة التوتر بين التيارات السياسية الرئيسية داخل
إيران، سيما بسبب قرب بعض الاستحقاقات الانتخابية التي تتمثل في الانتخابات
التشريعية و الرئاسية في عامي 2020 و 2021 علي التوالي. وعليه، يسعي تيار
المحافظين إلي إبراز دوره على الصعيد الداخلي و الخارجي بغرض تحقيق أكبر نسبة من
الفوز خلال هذه الاستحقاقات، خاصًة في ظل تراجع تيار المعتدلين بعد فشل الاتفاق
النووي في عهد أبرز قياداتهم و هو الرئيس الإيراني الحالي حسن روحاني، فضلاً عن
عدم توافقهم حول مرشح بعينه. تأسيسًا علي ما سبق، تحاول قيادات التيار المحافظ
استغلال مثل هذه الأحداث للضغط على الإصلاحيين و سيما الرئيس حسن روحاني بغرض
التعويل علي ما أطلقوا عليه " الأخطاء التي وقع فيها و المشكلات التي تسبب
بها".
2- تفاقم
الأزمة الاقتصادية
تعانى طهران
من أزمة اقتصادية طاحنة على خلفية المشكلات التي تسبب فيها الخروج الأمريكي من
الاتفاق النووي في 18مايو لعام 2018 و
الذي أدى إلي خروج عشرات الشركات الكبرى متعددة الجنسية من السوق الإيرانى، مما
تسبب في القضاء علي عدد كبير من المشروعات الاستثمارية سيما في القطاع النفطي الذي
يعد بمثابة مصدر أساسي من مصادر الدخل القومي الإيراني. كما أدت سلسلة العقوبات
التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي في 5 أغسطس و 7
نوفمبر من عام 2018، فضلاً عن تلك فُرضت
فيما بعد خلال 2019 علي مسؤولين سياسيين و عسكريين إلي تقليص حجم الصادرات النفطية
على نحو غير مسبوق، و بالتالي انخفاض مستوى معيشة المواطن الإيراني، ارتفاع معدلات
البطالة و التضخم(3).
رابعاً- لماذا
يفشل النظام في احتواء الظاهرة الاحتجاجية في إيران؟
لطالما اعتاد النظام الإيراني على مواجهة الأزمات
الداخلية بتصريفها إلي الخارج و التعويل
على مبدأ المؤامرة و العدو الخارجي دون البحث في الجذور الرئيسية للأزمة؛ فدائمًا
ما يدعي النظام الإيرانى أن الولايات المتحدة الأمريكية أو كما تطلق عليها إيران
"الشيطان الأكبر" هي السبب الرئيسي في جميع المشكلات التي تعانى منها،
على خلفية فرضها للعقوبات الاقتصادية و معارضتها للبرنامج النووي الإيراني.
على صعيد أخر، يكمن السبب الرئيسي في استمرار الظاهرة الاحتجاجية داخل الجمهورية الإسلامية في أن النظام الإيرانى يستمد جانب كبير من شرعيته من خلال نفوذه الخارجي؛ حيث يري أن عائد مغامراته التوسعية في الخارج أكبر من العائد الناتج عن حل المشكلات الداخلية ورفع مستوي معيشته، فضلاً عن أن المبدأ الذي كانت ومازالت تعيش عليه طهران منذ تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية يتمثل في تصدير الثورة و التي لن تأتي إلا عن طريق التدخل في شئون الدول الأخرى، و سيما دول الجوار التي تعتبرها طهران بمثابة امتداد طبيعي لأراضيها.
الهوامش
1. أصف بيات، الحياة سياسة: كيف يغير بسطاء الناس الحياة
في الشرق الأوسط، ترجمة: أحمد زايد، ( القاهرة، المركز القومي لترجمة، 2014)،
ص ص 8-19.
2.
Charles
Kurzman,
the Qum Protests and the Coming of the Iranian
Revolution, 1975 and 1978, the Social Science History Association, 2003,
pp. 287-290.
3. أزمات طهران: لماذا تختلف احتجاجات نوفمبر 2019 عن أحداث ديسمبر 2017؟ مركز المستقبل للأبحاث و الدراسات المتقدمة، 18/11/2019، متاح على الرابط التالي https://cutt.ly/1eXq78z .