استمرار التصعيد... دوافع وتداعيات الخطوة الرابعة في تخفيض طهران لالتزاماتها النووية
أعلنت طهران في 6 نوفمبر لعام 2019 عن البدء في خطوتها
الرابعة المتعلقة بتقليص التزاماتها النووية بشأن الاتفاق النووي الذي عقدته في
عام 2015 مع دول (5+1)، وجاء هذا القرار تأسيسًا علي مجموعة من المعطيات التي
فرضها السياق الداخلي، الأمر الذي تمثل في سخط داخلي علي خلفية التدهور الاقتصادي
الناتج عن العقوبات الاقتصادية الامريكية، و تجاذبات سياسية واضحة بين كل من
الإصلاحيين والمحافظين.
كما تشير هذه الخطوة إلي رغبة طهران في التصعيد على المستوى
الإقليمي و الدولي مع كل من المملكة العربية السعودية التي توترت العلاقة معها بعد
الهجوم على منشأتا نفط تابعة لشركة أرامكو و التصعيد معها في الملف اليمنى، سيما
بعد عقد اتفاق الرياض. أما بالنسبة لكل من الولايات المتحدة الأمريكية و دول
الاتحاد الأوروبي فتعتبر طهران هذه الخطوة بمثابة عقاب لهم على خلفية خروج واشنطن
من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية مرة أخري، ولم تستطع الدول
الأوروبية إثناء الإدارة الأمريكية عن هذا القرار ، فضلاً عن عدم قدرتها على
الالتزام ببنوده.
أولاً-
محفزات القرار
1- المستوى
الداخلي
تواجه
طهران حالة من السخط الداخلي الشديد على خلفية التأثير السلبي الذي خلفته العقوبات
الأمريكية المتجددة علي الاقتصاد الإيراني، وبالتالي، انخفاض مستوى المعيشة و
ارتفاع نسب البطالة و التضخم. فعلى الرغم من قدرة طهران على التعامل بنسبة كبيرة
من خلال غسيل الأموال و السوق السوداء، سيما من قبل الحرس الثوري الذي يسيطر علي
أكثر من نصف الاقتصاد الإيراني، ولكن الاقتصاد وصل إلي حالة تدهور شديد، الأمر الذي
تمثل في اعتراف المسؤولين الإيرانيين بداية من الرئيس الإيراني حسن روحاني و حتى
المواطن العادي في الشارع. كما أشار صندوق النقد الدولي إلي إلى أنّ الناتج المحلي
الإجمالي للجمهورية الإسلامية الإيرانية سيهبط بنسبة 6% عام 2019، بعد تراجعه بنسبة
3,9% في 2018، أو قد يكون أكثر حدة بعد العقوبات الأمريكية على قطاع المنشآت و
مواد البناء التي تسيطر عليه شبكات الحرس الثوري. ومن الواضح أن الأثار السلبية
لهذه الأزمة قد يصل مداها إلي انكماش اقتصادي أبعد من الذي وصلت إليه الاقتصاد
الإيرانى أبان عامي 2012 و2013 الأمر الذي لا يزال ماثلاً في أذهان الإيرانيين، حين
أنتجت العقوبات الدولية ضدّ برنامج طهران النووي والباليستي أقصى آثارها(1).
كما أن الوضع يزداد سوءاً علي خلفية حالة
التنافس و الصراع الموجودة بين النخب و التيارات السياسية داخل إيران بالتوازي مع
اقتراب بعض الاستحقاقات الانتخابية مثل الانتخابات البرلمانية و الرئاسية في عامي
2020 و 2021 على التوالي. حيث بات الانقسام هو السمة الرئيسية التي تميز التفاعلات
بين التيارات السياسية وسيما مع تيار المحافظين، الذي يولي اهتمامًا خاصًا
للاستحقاقات الانتخابية القادمة؛ يسعي هذا التيار إلي استغلال الضغوط الإقليمية و
الدولية المفروضة على طهران هذه الفترة بهدف تعزيز نفوذه، على خلفية عدم قدرة الرئيس
حسن روحاني على الترشح للفترة الرئاسية القادمة؛ حيث لا يحق له الترشح لفترة
رئاسية ثالثة و الضعف الموجود داخل تيار الإصلاحيين و عدم توافقهم حول مرشح بعينه(2).
2- المستوى
الإقليمي
تعانى طهران المزيد من الضغوط و
التصعيد المتبادل مع بعض دول المنطقة على المستوى الإقليمي، سيما مع المملكة
العربية السعودية و تركيا؛ حيث تصاعدت حدة التهديدات بين طهران و الرياض في سبتمبر
لعام 2019 على خلفية اتهام الرياض لطهران بالوقوف وراء الهجوم على منشأتا النفط
التابع لشركة ارامكو السعودية، الأمر الذي تسبب في انخفاض نصف انتاج المملكة من
النفط و بالتالي، ارتفاع سعره في السوق العالمي. كما قامت المملكة العربية
السعودية برعاية اتفاق الرياض بين الحكومة الشرعية و المجلس الانتقالي الجنوبي في
اليمن، في تجاهل لجماعة الحوثي المدعومة من إيران.
يتوازى ذلك، مع رفض طهران للعملية
العسكرية "نبع السلام" التي قامت بها تركيا في شمال سوريا بالمناطق التي
يسكنها الأكراد، على خلفية عدم رغبتها في التوغل التركي داخل سوريا، فضلاً عن
التفاهمات التركية الأمريكية و الروسية؛ حيث اتفقت كل من أنقرة وواشنطن علي إنشاء منطقة أمنة في شمال سوريا على طول الحدود مع
تركيا بغرض تأمينها، فضلاً عن التفاهمات الروسية التركية و التي تم جزء كبير منها
في إطار محادثات أستانة، ورفض طهران للسياسة الروسية في سوريا القائمة علي فتح
قنوات تواصل مع كافة الأطراف الإقليمية المنخرطة في الصراع(3).
3- المستوى
الدولي
تواجه طهران حالة غير مسبوقة من
التصعيد مع الولايات المتحدة الأمريكية علي خلفية القرار الأمريكي بالخروج من
الاتفاق النووي الذي عقدته طهران في عام 2015 مع دول (5+1)، الأمر الذي تسبب في
خروج عشرات الشركات الكبرى متعددة الجنسية بسبب العقوبات الاقتصادية التي فرضتها
الإدارة الأمريكية علي إيران. مما أدى لتدهور وضع الاقتصاد الإيراني و زيادة معدل
البطالة و التضخم. كما لم تستطع الدول الأوروبية التي تعد بمثابة الشريك الأساسي
مع واشنطن في الاتفاق النووي، إثناء الإدارة الأمريكية عن هذه الخطوة و لا حتى
الالتزام ببنود الاتفاق في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية.
ومن ناحية أخري، كان النفوذ
الإيراني المتصاعد في المنطقة هو أحد الدوافع الأساسية للخروج الأمريكي من
الاتفاق، واتهام إدارة أوباما بالسماح لطهران بفرض سيطرتها علي الكثير من دول
الشرق الأوسط، ومن هنا تأتي قدرتها على
إمكانية تهديد المصالح الأمريكية في المنطقة في حال حدوث أي مشادات أو
تصعيد متبادل بين الطرفين.
ثانياً-
ما الجديد هذه المرة؟
تكتسب الخطوة الرابعة في تقليص طهران لالتزاماتها
النووية في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية و الدول الاوروبية أهمية خاصة في ظل
اعلان طهران عن بدء ضخ غاز سادس فلورايد اليورانيوم في حوالي 1040 جهاز طرد مركزي في
منشأة فوردو، التي كانت دائمًا ما تحظي بأهمية خاصة لدى جميع الأطراف المعنية
بالبرنامج النووي الإيرانى، على خلفية محاولة طهران في مرحلة سابقة تفعيل الجانب
العسكري لبرنامجها النووي بعيداً عن أعين الوكالة الدولية للطاقة الذرية. كما كشفت
عدة تقارير في عام 2009 عن اكتشاف أجهزة الاستخبارات الغربية لموقع فوردو الذي
قامت طهران ببنائه في منطقة جبلية تحت الأرض منعًا لقصفه، و عليه اعلنت إيران في
عام 2016 أنها نشرت صواريخ إس 300 بغرض الدفاع عن هذه المنشأة، الأمر الذي أثار
عدة شكوك دولية و إقليمية و سيما من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول ما
تحاول إيران اخفاءه في هذه المنطقة النووية(4).
كما تحاول طهران من خلال هذه الخطوة الشروع في التوسع
الأفقي داخل البرنامج النووي الإيراني بعد أن كان الأمر مقتصراً بحسب الاتفاق
النووي علي منشأة ناتانز ، مما يشير إلى رغبتها إلي تحويل الضغوط الداخلية إلي
موجات كبيرة من التصعيد مع الولايات المتحدة الأمريكية و دول الاتحاد الأوروبي. وتعد
هذه الخطوة من ناحية أخري، بمثابة رد مناسب من قبل طهران على موجة العقوبات
الأمريكية الأخيرة التي تم فرضها في 4 نوفمبر الجاري على شخصيات هامة داخل مؤسسات
صنع القرار الإيرانى، و تمثل أهمهم في مجتبي خامنئي نجل المرشد الأعلي علي خامنئي ومستشاره
للعلاقات الدولية علي أكبر ولايتي، ورئيس السلطة القضائية إبراهيم رئيسي(5).
ثالثاً-
تداعيات القرار
على الرغم من تحذير تيار الإصلاحيين داخل طهران وعلي راسهم الرئيس حسن روحاني من العواقب الوخيمة للخروج من الاتفاق النووي، الأمر الذى سيتمثل في إمكانية العودة مرة أخري إلي الامتثال لبنود الفصل السابع من ميثاق مجلس الأمن و إعادة فرض العقوبات الأممية علي إيران، ولكن من اللافت للانتباه أنه لطالما كان هناك اختلاف في السياسة الخارجية الإيرانية التي يتبعها كل من التيار المحافظ و الإصلاحي داخل طهران، ففي حين يتجه التيار الإصلاحي إلي التخفيف من حدة التصعيد مع واشنطن، يسعى التيار المحافظ إلي كسب العديد من النقاط في مواجهة التيار الموازي عن طريق خلق حالة من التوتر مع واشنطن و دول المنطقة، وعليه، تشير هذه الخطوة إلي إمكانية خروج إيران من الاتفاق نهائيًا في المرحلة القادمة.
الهوامش
1. وضع الاقتصاد الإيراني يتجه إلى الأسوأ بسبب العقوبات
الأمريكية، شبكة مونت كارلو الدولية، 6/5/2019، متاح علي الرابط التالي https://www.mc-doualiya.com/articles/2019050
.
2.
تداعيات
التصعيد: توازنات جديدة داخل تيار الأصوليين في إيران، مركز المستقبل للأبحاث
والدراسات المتقدمة، 3/11/2019، متاح علي الرابط التالي https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/5069
3.
مخاوف
عديدة: لماذا تعارض إيران العملية العسكرية التركية في سوريا؟، مركز المستقبل
للأبحاث والدراسات المتقدمة، 17/10/2019، متاح على الرابط التالي https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/5038
4.
Parisa
Hafezi, Iran fuels centrifuges, resumes uranium
enrichment at Fordow, Reuters, 6/11/2019, available at https://www.reuters.com/article/us-iran-nuclear-uranium/iran-fuels-centrifuges-resumes-uranium-enrichment-at-fordow-idUSKBN1XG2WN.
5. نوايا غامضة: ماذا يعني تخصيب اليورانيوم في منشأة فوردو؟ مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 10/11/2019، متاح على الرابط التالي https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/5082.