دور الأمم المتحدة في بناء السلام بعد انتهاء الحروب الأهلية .. دراسة لحالة السلفادور (1992-1996)
ترى الأمم
المتحدة أن الصراعات والنزاعات الداخلية تتسم بالكثير من الخصائص الذاتية التى
تميزها عن الصراعات بين الدول فى النظام الدولى، وتتطلب بالتالى مناهج وآليات
مختلفة للتسوية والحل، وقد صارت مكونا بارزا فى حقل دراسات تسوية النزاعات.
ولم تكن تعمل
الأمم المتحدة في معزل عن النظام الدولي وهيكله ومن ثم هناك علاقة بين الأمم المتحدة
وطبيعة وشكل النظام الدولي، فمن المفترض أن الأمم المتحدة تقوم بدورها في بناء السلام
عقب انتهاء الحروب الأهلية والداخلية بصورة حيادية، وذلك لضمان مصداقيتها لدى أطراف
الصراع الداخلي، وكذلك لتؤتي ثمارها في استمرار وديمومة عملية السلام. ويلاحظ أن الأمم
المتحدة تتبع نموذج اقتصاد السوق الحر والديمقراطية الليبرالية والذي تتخذه سبيلاً
دائماً في جميع عملياتها التي قامت بها حيث تطبقه بصورة نمطية مما قد لا يلاءم -هذا
النظام الاقتصادي- طبيعة الدول المنهكة من الصراعات المسلحة التي قد طالت البلاد سنوات
عديدة وانهكتها وهو ما يوجه انتقاداً لها بعدم الحيادية.
ويرجع هذا
الامر الى سيطرة الدول الكبرى من خلال اشتراكاتها المالية في المنظمة الدولية بصفة
عامة ولجنة بناء السلام بصفة خاصة، وبالتالي فإن المنظمة الدولية ولجنة بناء السلام
بصفة خاصة مشكوك دائماً في حيادها وأن الموارد المالية تؤثر بشكل سلبي على أداء المنظمة
وعدم حياديتها.
هنا يدور
مضمون هذه الأطروحة للباحثة المصرية مى غيث بعنوان "
دور الأمم المتحدة في بناء السلام بعد انتهاء
الحروب الأهلية: دراسة لحالة السلفادور (1992-1996)"، رسالة مقدمة لنيل شهادة
دكتوراه الفلسفة فى العلوم السياسية، والتى نوقشت وتمت إجازتها بتاريخ 3/ 10/ 2018.
تقع
الأطروحة في (265) صفحة اشتملت علي مقدمة تضمنت خطة الدراسة، وثلاثة فصول رئيسية
قسمتها الباحثة بشكل متوازن إلي ثلاث مباحث لكلا منها، وخاتمة احتوت على النتائج
والتوصیات، ثم قائمة المراجع وملاحق الدراسة، فضلا عن تضمنها أشكال وجداول، و
تناولت الباحثة دور الأمم المتحدة كمنظمة
دولية في بناء السلام بعد انتهاء الحروب الأهلية.
انطلقت
الباحثة في تحلیلها للموضوع من المقاربة المتمثلة في دراسة مقولات النظريتين الواقعية
والليبرالية، أذ أنه لا يمكن الاعتماد على مقولات إحدى النظريتين دون الأخرى، وإنما
هناك تداخل فيما بين فروض ومقولات كلا من النظريتين، وهذا ما أظهره التحليل من
ضرورة وجود العديد من المتطلبات اللازمة لتفعيل دور الأمم المتحدة والمنظمات الدولية
في القيام بدورها ببناء السلام ما بعد انتهاء الصراع.
بينما ینحصر
موضوع الدراسة أساسا بالتركیز على دراسة حالة السلفادور في الفترة (1992-1996)؛ إذ
انتهى دور الأمم المتحدة رسمياً في 1996، وبحثت الدراسة فى تداعيات عملية بناء السلام
وأوضاع السلفادور وتأثيرها على الاستقرار واستدامة السلام وعدم العودة لحالة الحرب
مرة أخرى. وتمثلت اشكالیة الدراسة في تحلیل دور الأمم المتحدة في بناء السلام في السلفادور
كدراسة حالة عقب انتهاء الحرب الأهلية التي شهدتها الدولة لمدة اثني عشر عاماً؟، وذلك
في ضوء مقولات وفروض كٍل من المدرستين الليبرالية والواقعية في بناء السلام، وهذا
ما سعت الباحثة في هذه الدراسة للإجابة عليه فى ضوء الفرضیات التي صاغتها.
الاتجاهات
النظرية المختلفة في إنهاء الحروب الأهلية
تناول الفصل الأول؛ البحث في الاتجاهات
النظرية المختلفة في إنهاء الحروب الأهلية، والمبررات التي يسوقها كل اتجاه لاستدامة
ترتيبات انهاء الحروب الأهلية استقرار السلام بعد انتهاء الصراع المسلح، تمهيداً لاختبار
تلك الفروض النظرية وتطبيقها على حالة الدراسة "السلفادور" ومدي استقرار
عملية السلام عقب توقيع اتفاق السلام في 1992، فضلاً عن تناول الأفكار النظرية المتعلقة
ببناء السلام لإزالة الاختلاط بينها وبين المفاهيم الأخرى، وذلك عن طريق ثلاثة مباحث
متصلة تناول الأول منها مفهوم بناء السلام وعلاقته بالمفاهيم الأخرى ذات الصلة، أما
المبحثان الثاني والثالث فقد تناولا أبعاد بناء السلام عقب انتهاء الحرب الأهلية وفقا
للنظريتين الواقعية ثم الليبرالية على الترتيب.
الأساس
القانوني لتدخل الأمم المتحدة في بناء السلام عقب انتهاء الحروب الأهلية
أما الفصل الثاني فقد تناول الأساس
القانوني لتدخل الأمم المتحدة في بناء السلام عقب انتهاء الحروب الأهلية. حيث تناول
المبحث الأول الأساس القانوني لتدخل الأمم المتحدة في بناء السلام، ثم تناول المبحث
الثاني أشكال التدخل من قبل الأمم المتحدة لبناء السلام عقب انتهاء
الصراع المسلح
الداخلي أو الحرب الأهلية، وأخيراً؛ تناول المبحث الثالث تقييم أداء تدخل الأمم المتحدة
في بناء السلام عقب انتهاء الحروب الأهلية.
دراسة
حالة السلفادور
وأخيراً؛ الفصل الثالث تناول الحالة
التطبيقية الخاصة بالسلفادور ففي المبحث تناول أسباب اندلاع الحرب الاهلية وفي المبحث
الثاني تم تحليل آليات الأمم المتحدة في بناء السلام في السلفادور وتوقيع اتفاق السلام
النهائي في 1992 أما المبحث الثالث، فقد تعرض تقييم لدور الأمم المتحدة في بناء السلام
في السلفادور في ضوء مقولات النظريتين الليبرالية والواقعية وتداعيات عملية السلام
وبناء السلام في السلفادور عقب انتهاء بعثات الأمم المتحدة في السلفادور في أبريل
1995 إلا انها استمرت من خلال برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP.
وبناًء على ما سبق، يتضح أن السلفادور تعتبر حالة مهمة في تاريخ الأمم المتحدة في انهاء
الحرب الأهلية التي دامت أثني عشر عاماً وكانت من أعنف الحروب في أمريكا الوسطى وكذلك
في بناء السلام
عقب توقيع اتفاق السلام النهائي "اتفاقية تشابولتيبك" في يناير 1992 حيث
أدت
العديد من
الأسباب لنجاح محاولات الأمم المتحدة في لعب دور الوساطة وانهاء الحرب الأهلية
وتتمثل هذه
العوامل في الآتي:
·
قرار الإتحاد السوفيتي إيقاف الدعم العسكري وإرسال السلاح
إلى نيكاراجوا ومن ثم تقليل التصعيد العسكري بين الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة
في دعمهم لطرفي الصراع في السلفادور، وهو ما يرتبط بتغير هيكل النظام الدولي.
·
رغبة طرفي الصراع الداخلي في انهاء الصراع المسلح وعدم قدرة
أي طرف على تحقيق انتصار حاسم.
·
شخصية المبعوث الخاص للأمم المتحدة للسلفادور.
هذا وقد استطاع
اتفاق السلام النهائي إعادة بناء مؤسسات الدولة والمجتمع السلفادوري من خلال إنهاء
الحرب والعمل على إرساء دعائم قيم الديمقراطية في المجتمع واستبدال جهاز الشرطة بآخر
تحت قيادة مدنية، وإصلاح المؤسسة العسكرية، والقضاء، ونزع السلاح، وإعادة الادماج
المجتمعى، ومن القضايا الهامة التي اهتم بها الاتفاق في إطار بناء المجتمع؛ احترام
حقوق الإنسان، وإصلاح النظام الانتخابي، والإصلاح الاقتصادي.
قد نجحت الأمم المتحدة في خلق مناخ
من التسامح، ولكن عقب مرور عقود على اتفاق السلام فإن عملية السلام تتعرض للتقويض نتيجة
استحداث ظروف جديدة نتجت من السياسات الجديدة الناتجة من تطبيق النموذج الليبرالي الجديد
في الاقتصاد، والذي نتج عنه عدم المساواة وزيادة معدلات البطالة والهجرة وازدياد جرائم
العنف الناتجة من زيادة عودة اللاجئين من الدول الخارجية وخاصة الولايات المتحدة الامريكية
التي وضعت قوانين للحد من اللاجئين غير الشرعيين والمقيدين، مما أدى إلى تعثر المسار
الديمقراطي ووجود اتجاهات مؤيدة في الرأي العام لأهمية وجود قيادة قوية لحفظ الأمن
في البلاد. وبالتالي لم يتدارك اتفاق السلام النهائي تداعيات إصلاح المؤسسات وخصوصية
الوضع الاقتصادي والاجتماعي في السلفادور.
ورغم استمرار جذور الصراع من عدم المساواة
وزيادة معدلات البطالة وزيادة معدلات الهجرة، إلا أنه يمكن تقييم دور الأمم المتحدة
في السلفادور بالنجاح في إعادة بناء المؤسسات وعدم العودة إلى حالة الص ارع المسلح
بين طرفي الصراع مرة أخرى، وذلك لعدم رغبة طرفي الصراع في العودة إلى حالة الحرب مرة
أخرى، وكذلك الرأي العام في السلفادور على عكس حالات أخري مثل سيراليون ورواندا حيث
عادت الصراعات مرة أخرى، إلا أن الوضع الأمني والتحديات الاقتصادية من القضايا الهامة
التي لابد من تداركها.
في الأخیر وبناء على ما تناولته الباحثة في فصول الدراسة ومن خلال المعطيات والإحصائيات، ومحاولة منها للإجابة
على الإشكالیة الرئیسیة والتساؤلات الفرعیة للبحث، قد تمكنت من الخروج بأهم النتائج
والتوصیات لأطروحتها، ومن خلال دراسة تحليل دور الأمم المتحدة في بناء السلام عقب انتهاء الحروب
الأهلية وذلك في إطار فروض ومقولات كٍل من المدرسة الليبرالية والمدرسة الواقعية في
بناء السلام، وأوضحت الباحثة؛ أن مقولات النظرية الليبرالية وفرضياتها تكاد تنطبق بصورة
شبه كاملة على عملية بناء السلام في السلفادور، إلا أن ذلك لم يكن بالفصل عن مقولات
النظرية الواقعية التي تعطي أولوية وأهمية للضمانات الأمنية فقد ظهر ذلك في عمليات
إصلاح المؤسسات الأمنية وعملية نزع السلاح وتسريح المقاتلين وإعادة دمجهم وإعادة توطين
اللاجئين. إذ انه نتيجة عدم الثقة بين طرفي الصراع الداخلي في السلفادور حيث قبيل التوصل
إلى اتفاق السلام النهائي تم اكتشاف مخبأ للأسلحة على الحدود مع نيكاراجوا مما أدي
إلى تراجع عمليات التفاوض آنذاك. هذا فضلاً عن أهمية شخصية مبعوث الأمم المتحدة في
السلفادور اليفارو دي ساتو الذي كان له دور عظيم في نجاح مفاوضات التسوية السلمية والتوصل
إلى تفاق السلام النهائي في 1992 إذ كان يحظى باحترام وثقة لدى أطراف الصراع الداخلي.
هذا إلى جانب ظهور العديد من التحديات والعوائق في الناحية الأمنية نتيجة عدم قدرة
القوات الشرطية الجديدة القيام بالأدوار التي كانت تقوم بها المؤسسة العسكرية، وهو
ما اتضح في ارتفاع معدلات الجرائم والقتل والاتجار في المخدرات في السنوات الأخيرة
وأصبحت السلفادور من أخطر الدول في الناحية الأمنية، وقد دفعت هذه المعضلة المواطنين
إلى الاعتقاد بضرورة الحكم بعصا من حديد اعتقاداً منهم أن ذلك يحقق الأمن وهو ما يؤثر
على عملية التحول الديمقراطي.
یمكن القول أنه فضلا عن الجهد العلمي الذي بذلته الباحثة وقدراتها البحثية المتميزة وامتلاكها أدوات البحث الأكاديمي وقواعده المعتبرة، ما يزيد من أهمية هذه الأطروحة أيضا، توصلها إلي أن يبقـى مـن الضـروري الإشـارة إلـى أن نتـائج هـذه الدراسـة والتوصـيات المقترحـة لا تتعـارض مع التأكيد على خصوصية الحالات المختلفة، بما يفـرض تحـديات متنوعـة فـي بنـاء السـلام، وهـو ما يتسق مـع تبنـي الأمـم المتحـدة فـي عمليـات بنـاء السـلام مـا يشـبه اقتـراب التعامـل مـع كـل حالـة على حدة. لكن ذلـك لا ينفـي إمكانيـة الخـروج بـبعض التعميمـات بخصـوص فـرص وتحـديات بنـاء الأمم المتحدة للسلام وهو مـا سـعت الرسـالة للقيـام بـه مـن خـلال تحليـل حالـة السـلفادور، وانطلاقـاً مـــن اختبـــار مقـــولات النظــريتين الواقعيـــة والليبراليـــة، وأنه لا يمكن الاعتماد على مقولات إحدى النظريتين دون الأخرى، وإنما هناك تداخل فيما بين فروض ومقولات كلا من النظريتين. كما أظهر التحليل وجود العديد من المتطلبات اللازمة لتفعيل دور الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في القيام بدورها ببناء السلام بعد انتهاء الحروب الأهلية، مع التأكيد على ضرورة مراعاة خصوصية كل حالة في عمليات بناء السلام، حيث اختلاف الظروف الداخلية من حالة إلى أخرى، فضلاً عن تأثير الدول الإقليمية ودول الجوار الجغرافي وعلاقتها بأطراف الصراع الداخلي، وتأثير هيكل النظام الدولي على تفعيل دور الأمم المتحدة حفظ السلم والأمن الدوليين. وأخيراً؛ يمكـــن تطـــوير التحليـــل الـــوارد فــي الرســـالة بتضمين مقولات نظريات أخرى كالبنائية وغيرها، وبالتطبيق على حالات ونماذج أخرى خاصة الدول العربية مثل: اليمن وسوريا وليبيا.