تُعتبر التنمية المستدامة من أهم الموضوعات وليدة العقد
الماضي وتقوم على أسس تربط بين الحياة الاقتصادية والبيئة في آن واحد دون التفريط
في أي منها، وفي هذه الدراسة سوف نتناول دور علم الأنثروبولوجيا في عملية التنمية
المستدامة التي هي حلم المجتمعات الحديثة وأهم آمالها، تلك التنمية التي تتمثل في
تطوير شامل للمجتمع قد يصل إلى تعديل بعض السمات والخصائص الثقافية لدى أفراده بما
يضمن بقاء معدلات التنمية في اضطراد دائم مما يجعل لدراسات الأنثروبولوجيا إسهاماً
هاماً في عملية التنمية التي ترتبط كلياً بتطوير ثقافات وسلوكيات المجتمعات والأمم،
إن عملية التنمية المستدامة وإن كانت تجد جذورها في علم الاقتصاد لكنها تتعدى ذلك لترتبط
بمجموعة علوم اجتماعية اخرى والتي منها علم الأنثروبولوجيا، ويُفسِر ذلك كون
التنمية المستدامة توصف بأنها حالة رقي إجتماعي
متشعبه في عناصرها، فهي تقدم في مستوى
المعيشة لدى الأفراد ،ليس فقط على الجانب الاقتصادي بل على مستوى السلوك الإنساني
في التعامل مع البيئة المحيطة به حرصاً منه على حياته وحياة المجتمع كاملاً ويمتد
ذلك النمو السلوكي ليشمل الحفاظ على موارد الأجيال القادمة وذلك يمكن ادراكه من
مطالعة التعريفات التي جاءت فيها والتي نتناولها فيما يلي:
أولاً-
ماهية التنمية المستدامة
1-
مفهوم التنمية المستدامة
تتعدد التعريفات لمصطلح
التنمية المستدامة، حيث قيل أنها التنمية التي توفر حاجات الحاضر دون إعاقة
أجيال المستقبل في توفير حاجاتهم، فهي تلك التنمية المستمرة التي تراعى في عناصرها
فكرة البعد البيئي(1)، والتنمية المستدامة التزام أخلاقي من الجيل الحالي للجيل القادم
يضمن خلاله الجيل الحالي تحقيق الاستجابة لحاجاته المتعددة دون المساس بحاجات
الأجيال القادة وتعريضها للخطر، ولقد توصل تقرير مؤتمر بورتلاند عام 1987(نسبة إلى
رئيسة وزراء الدنمارك السابقة ) لتعريف التنمية المستدامة بأنها التنمية التي تلبي أماني وحاجات الحاضر
دون تعريض قدرة الاجيال القادمة على تلبية احتياجاتهم للخطر، ورغم التنوع في تعريفات التنمية المستدامة فإن
مضمونها هوالترشيد في
توظيف الموارد المتجددة بصورة لا تؤدي إلى تلاشيها أوتدهورها أوتنقص من فائدتها
للأجيال القادمة، كما أنها تتضمن الحكمة في استخدام الموارد التي لا
تتجدد بحيث لا تحرم الأجيال القادمة من الاستفادة منها.
بمعنى أن الجيل الحالي يترك للجيل القادم رصيد من
الموارد مساويا ً للرصيد الذى ورثه أوأكثر منه، فهي نشاط بشري يحقق أعلى حالة
ممكنة من الارتقاء بالرفاهية الاجتماعية مع ضمان الحرص على الموارد المتاحة وبأقل
اساءة للبيئة، وبذلك يمكن القول أن التنمية المستدامة تتميز عن التنمية الاقتصادية
كونها اكثرها شمولا ً، ولقد
اعتمدت الدول الأعضاء ال 193 في الأمم المتحدة خطة التنمية المستدامة تحت عنوان –
تحويل عالمنا : خطة التنمية المستدامة 2030- في مؤتمر التنمية المستدامة الذي
انعقد في نيويورك في سبتمبر 2015 وشملت تلك الخطة 15 هدفا ً متاحه على الموقع
الرسمي لمنظمة الأمم المتحدة ،على أن تبدأ هذه الأهداف في يناير 2016م وتتحقق في
ديسمبر2030م، وهذه الأهداف تنبثق من اتجاهين رئيسيين هما :
- اقتصادي: من خلال تحقيق حالة الرفاه الاقتصادي وفقا ً لما هومتاح
من المقدرات والموارد الطبيعة مع ضرورة حمايتها والحرص على عدم اهلاكها .
- اجتماعي: يقوم على فكرة تنفيذ مجموعة من الالتزامات الاخلاقية والتي
اهمها حماية البيئة والعمل على خطط بناء وتدبير يدخل في اعتباراتها الاجيال
القادمة وذلك بحماية اكبر قدر من الموارد واعتبارها مخزون مستقبلي .
ومن هنا يمكن الوقوف على العامل الرئيسي لنجاح خطط التنمية
المستدامة وهوأنها غالبا ً ما تتطلب تغيير السياسات والبرامج والانشطة التنموية
بحيث تبدأ من الفرد وتنتهى بالمجتمع حتى يتغير السلوك البشري ذاته بما يضمن
الاستفادة منه في خطة التنمية والتطور المعيشي للفرد بجانب بقاء التزام حقيقي يضمن
ارتباط رفاهية الاجيال الحالية برفاهية من يليها، بمعنى أن رفاهية الأجيال القادمة
مسئولية على عاتق المجتمع الحالي .
ولقد أصبح العنصر البشري هومحور أي تفسير لعملية التنمية
المستدامة حيث انها وان كانت( حالة اقتصادية يأمل فيها المجتمع لنفسه تطور ونمواقتصادي
شامل للمستوى المعيشي والحالة الصحية والتعليمية والرفاه الاجتماعي مع حماية
مقدرات الأجيال القادمة ) إلا ان ذلك كله يقوم اولا ً على مدى استجابة العنصر
البشري لتنمية سلوكه وثقافته بما يخدم
المجتمع وينفعه في ظل اقتصاد معرفي يعتمد على المعلومات والبيانات التي اصبحت تمثل
سلعا ً في زمن العولمة، حيث اصبحت المعرفة احد اهم اعتبارات الحياة الاقتصادية، فبها
تزداد كفاءة العنصر البشري ويتنامى مستوى الإنتاج .
فمن ذلك نخلص إلى أن التنمية المستدامة تعتمد على التنمية الثقافية والفكرية، ويستتبع
ذلك الجزم بأن لعلم الأنثروبولوجيا بالغ الأثر في التنمية المستدامة باعتباره
سبيلا ً للوقوف على سلوك المجتمع وثقافة أفراده ومعرفة السبيل الى تنمية وتطوير
تلك الثقافة اولا ً وهي العامل الأول الذي يحدد نجاح حركة التنمية المستدامة اوفشلها
.
2- عناصر
التنمية المستدامة
أ
- التنمية الاقتصادية
تمثل المكون الاول لعملية التنمية المستدامة وهى حالة
تعظيم ونموفي مستويات المعيشة من خلال زيادة معدلات الإنتاج في المجتمع الى جانب
تحقيق حالة من النموفي عمليات الادخار والاستثمار فيه، وذلك مع عدم اغفال حركة
الاستهلاك التي يجب ان تكون في اقل مستوياتها، حيث ان عملية التنمية المستدامة
تقوم اولاً على تحسين مستوى المعيشة في المجتمعات ورفع مستوي الدخل فيها بما يحقق
حالة من الوفرة في المدخرات التي يستتبعها زيادة في الاستثمار الدخل للمجتمع والذي
بديهيا ً الا يحيد عن تلك السياسات العامة
التي ترسمها الدولة ممثلة ً في مؤسساتها الاقتصادية.
فهنا نجد ان التنمية المستدامة تستهدف القضاء على
مستويات الفقر والحد منها بتطبيق مبدأ الاستغلال الامثل للموارد الطبيعية، فهي
ترمى إلى استمرارية وتعظيم الرفاه الاقتصادي
اطول فترة ممكنة والذي يقاس عادة بمعدلات الدخل والاستهلاك والمستوى المعيشي ويدخل
في صور الرفاه الاقتصادي عناصر عديدة مثل المأكل والملبس والمسكن والنقل والتعليم والصحة
(2).
ب- حماية البيئة
يعتبر ثاني العناصر التي تقوم عليها فكرة التنمية
المستدامة ،ولقد تم إدخال مفهوم الاقتصاد الأخضر
والتنمية الخضراء في بعض أدبيات علم الاقتصاد في ظل النظام العالمي الجديد، فأصبحت
المعايير البيئية من أهم الشروط التي تلتزم بعض الدول بتوافرها في السلعة حتى تدخل
إلى الأسواق العالمية، وأصبح من حق بلدان العالم منع دخول سلعة معينة إلى أسواقها لأن الدولة
المنتجة لها لا تراعي البعد
البيئي عند إنتاج هذه السلعة مثال السلع الملوثة للبيئة، أو السلع التي
يقوم إنتاجها على أساس الاستغلال الجائر للموارد أو تؤثر على التوازن البيئي مثل تجارة العاج
القائمة على قتل الأفيال، أو الفرو القائمة
على قتل كثير من الحيوانات النادرة، أو السلع التي يمكن أن تضر بالصحة الإنسانية كالسلع
الزراعية التي يستخدم في إنتاجها أسمدة كيماوية معينة أو تستخدم طرق الهندسة
الوراثية أو التعديلات الجينية في إنتاجها، ولذلك أصبحت المصانع والمزارع في أغلب
بلدان العالم حريصة على وضع علامة على منتجاتها توضح أن هذه المنتجات خضراء وأنتجت بطريقة آمنة بيئيا ً،
وتفرق بين المنتجات الزراعية التي يستخدم فيها السماد العضوي الطبيعي وغيره من أسمدة كيماوية، فهنا ترتبط التنمية الاقتصادية بالتزام يقوم على وضع
ضوابط بيئية لحركتي الاستهلاك والانتاج والنمو السكاني ومعدلاتها وتكفل تلك
الضوابط منع تدهور النظام البيئي وحماية الموارد الطبيعية وحسن استغلالها ومراعاة
البعد البيئي في أي نشاط اقتصادي من خلال وضع حدودا ً للمخلفات والنفايات الناتجة
عن الاستهلاك والانتاج مثل الحد من التصحر ومواجهة ظاهرة التلوث البحري، وكذلك
تعتبر فكرتي الاحتباس الحرارى ودورة الحياة احد اهم عناصر البعد البيئي في التنمية
المستدامة، وتخضع التنمية المستدامة في سبيل حمايتها للبيئة الى مجموعه انظمة تسمى
بأنظمة ادارة البيئة منها المعيار البريطانية (Bs7750) والبرنامج الاوروبي لتدقيق وادارة البيئة (EMAS) ومسودة
الأيزو14000.
إن إدراك الجميع لما تمثله المشاكل البيئية والتلوث البيئي من خطر على الحياة البشرية والتنمية
الاقتصادية على المدى القصير والطويل جعل من عملية الحفاظ على البيئة وحمايتها بعدا
ً استراتيجيا ً للإدارة الرشيدة للموارد الطبيعية مما يجعل هذا الإدراك شرط أساسي لتحقيق
التنمية المستدامة. فالتنمية تستلزم التقليل من المشاكل البيئية وفقا ً لبرامج
التأهيل البيئي التي تهدف إلى حماية البيئة من خلال تفاعل عناصر المجتمع من افراد ومؤسسات وفقا ً للسياسة البيئية للدولة من جهة وتوفر الثقافة
البيئية للفرد والمجتمع من جهة أخرى، وبالتالي فان الجهود التي تبذل للتأهيل البيئي
للمؤسسات لا ترتكز فقط على تبني الدولة للسياسة البيئية وإنما بالدرجة الأولى على ارتباط
الفرد ببيئته، فينتشر الوعي البيئي بين الأفراد والمؤسسات ويتم عندها اكتساب الثقافة
البيئية والمهارات الأساسية لمواجهة مشاكلها والمحافظة عليها، وبالتالي فإن تحقيق التوازن
البيئي يتم من خلال مشاركة وتكامل بين جهود
الدولة والمجتمع معا ً.
ج - التنمية الاجتماعية والإنسانية
إن الإنسان هو جوهر التنمية، فالتنمية لا تقوم إلا به ولا
تهدف إلا صالحه ومن هنا أصبح على التنمية المستدامة أن تعمل على تطوير القدرات والطاقات
البشرية وتعديل مستوى الأفراد اجتماعياً من خلال تقديم خدمات في مستويات معيشيه
ملائمة والتنشئة الاجتماعية السليمة، ذلك من شأنه أن يرسخ مبدأ المسئولية بين
الأجيال بحيث يراعى كل جيل حماية مقدرات الأجيال التي تليه، فحركة التنمية المستدامة
لا تستمر بعنصريها (التنمية الاقتصادية وحماية البيئة) إلا من خلال تحقيق حالة من
النمو الاجتماعي شاملا ً فكرة النشأة السوية اجتماعيا ً بما يتيح مواكبة ثقافة
المجتمع لفكرة التنمية، بحيث يترسخ في ذهن الفرد مسئوليته تجاه المجتمع بيئيا ً واجتماعيا
واقتصادياً.
ثانياً- دور علم الأنثروبولوجيا في التنمية
المستدامة
يتجلى دور عظيم لعلم الانثروبولوجيا ودراساته على العنصر
البشري المكون للمجتمع من خلال فرعى علم
الانثروبولوجيا ،الثقافية التي تهتم بثقافة المجتمع وشخصية افراده والاجتماعية التي
تتناول الأنساق الاجتماعية كاملة، فالإنسان عليه ان يمارس سلوكا ً يوافق سلوك
مجتمعه المحيط به ويتحلى بقيمه وعاداته ويلتزم بنظامه (3)، حيث أن ثقافة الفرد تمثل
فرعا ً من ثقافة المجتمع وبالتالي يجب أن يتسق الأفراد في ثقافاتهم مع ثقافة
المجتمع الأم، وكما رأينا فإن التنمية المستدامة تمثل تحقيق أكبر معدلات استقرار
اقتصادي واجتماعي في المجتمع مع الالتزام بحماية البيئة وعدم مساس موارد الأجيال
القادمة، فإن ذلك يجعلنا نقول أن التنمية المستدامة تمثل تنمية في الثقافة وتعديل
في سلوك الأفراد قبل أن تكون تنمية اقتصادية وبالتالي علينا متابعة الثقافة
والسلوك أولاً للتوصل إلى تفسير الظواهر
التي تعيق حركة التنمية وأدوات معالجتها، فعلى سبيل المثال :
1- الأنثروبولوجيا تمكننا من التوصل لأفضل تفسير
لظاهرة الاستهلاك المرتفع والزيادة في معدلاته التي تمثل آفة المجتمعات النامية وعائق
كبير امام تنميتها من خلال تتبع ثقافة
الفرد والمجتمع وتضعنا امام اسبابه وطرق معالجتها، حيث ان دراسة ثقافة المجتمع وحالته
الاجتماعية تشمل بالطبع دراسة الحالة المعيشية للأفراد وطرق وادوات تلبيتهم
لمتطلباتهم اليومية واحتياجاتهم المعيشية وتلك الدراسة بدورها تفسر غالبا ً انماط
الاستهلاك وتظهر مدى توافر مبدأ الادخار والاستثمار لدى الافراد، حيث أن
الانثروبولوجيا بدورها تتناول الأنماط السلوكية الواقعية عن طريق ملاحظة ممارسات
الناس في مواقف معينه والأنماط السلوكية المثالية التي يعتبرها المجتمع ذاته مفضله
لديه (4)
.
2- دراسات الأنثروبولوجيا التي
تتناول الحالات الاقتصادية للمجتمعات تجعلنا نميز بين ظاهرة الفقر وثقافة الفقر وما
يرتبط بها من سلوك، وفى ذلك يري علماء الانثروبولوجيا أن الفقر كمصطلح لا يمكن
وجدوده بدون اقتران مع مصطلح اخر يصفه مثل فقر مطلق أونسبي، وفقر اجتماعي، فالفقر
يرتبط بحالة قصور في تلبية الحاجات على اختلاف الزمان والمكان فلا يمكن افتراض تطابق بين الحاجات البشرية في
كل مكان وزمان بل وفي المجتمع الواحد احيانا ً، فالفقراء هم من لا يتوفر لديهم
امكانية تلبية تلك الحاجات ولكن حالة عدم التوافر تلك في ذاتها تتفاوت وتختلف فيما
بين الفقراء انفسهم (5) .
وترجع أهمية دراسة ثقافة الفقر كنتيجة حتمية لارتباطها
بعناصر مثل الاستهلاك والادخار والاستثمار التي تؤثر بالطبع على التنمية المستدامة،
فثقافة الفقر قد تتواجد بالرغم من عدم توافر الفقر نفسه، بمعنى أننا قد نكون أمام
حالة فقر سلوك أو فقر في السمات وليس فقر في الحاجات ذاتها، تلك الثقافة تنمو مع
الفقراء أنفسهم فهي تميل إلى تخليد ذاتها بين الأجيال، ولقد ميز اوسكار لويس بين
الفقر وثقافة الفقر فيرى أن ثقافة الفقر هي
طريقة حياة تتناقلها أجيال من خلال نموذج معين من التنشئة الاجتماعية، حيث يسعى
معتنقي تلك الثقافات الى لوم الظروف دون أدنى سعى لبذل مجهود إنتاجي جديد يضمن لهم
تحسن في مستويات الدخول والمعيشة وهنا نجد ارتباطاً بين ثقافة المجتمع السائدة
وبين ثقافة الفقر حيث أن سلوكيات المجتمع أحياناً ما تدعم وترسخ تلقائياً بقاء
ثقافة الفقر مثال ذلك تقديم معونات لمعتنقي تلك الثقافات دون وعى باعتبار ان ذلك
من اعمال الخير ما يرتب فورا ً بقاء ثقافة الفقر لدى معتنقيها على اعتبار أن
الثقافة ذاتها وإبداء الاحتياج وتدنى حالة
المعيشة يمثل مصدرا ً للدخل المتمثل في تلك الإعانات .
ولقد تناول الدكتور محمد الجوهري تعريفا ً لثقافة الفقر يتسم بالاتساع والشمول
كونه تعدى فكرة ارتباط الفقر بالدخل والملكية والمهنة ليشمل عناصر أخرى فيري ان
ثقافة الفقر هي طريقة حياة لطبقة أو فئة في المجتمع تتضمن اسلوب تنظيم سلوك الفرد وأوجه
الحياة الأخرى ومن بينها العمل ونوعه وطريقته ومستوى الوعى الصحي والاجتماعي والاقتصادي
ومستوى طريقة التكيف مع حياة المدينة ومن سماتهم الميل إلى التشاؤم والشعور باليأس
وعدم التخطيط للمستقبل وتكرار البطالة (6)، ومن التعريف السابق نجد ان الفقر يختلف عن
مفهوم ثقافة الفقر، حيث أن الفقر يمثل ظاهرة اقتصادية اجتماعية يقوم على نقص في
الموارد المتاحة لتلبية الحاجات بينما نجد ثقافة الفقر تمثل انماط سلوك بشري
تستخدم في تسيير الحياة اليومية لا تشترط توافر الفقر الاقتصادي بالضرورة، أي ان
الثقافة تقوم على عقيدة راسخة بأن بعض السلوكيات والتصرفات هي فقط التي تضمن تلبية
الاحتياجات وغالبا ً ما يصاحبها حالة تشاؤم وخمول إنتاجي وعدم رغبة في تطوير الذات
وتنمية المستوى المعيشي، أي أن ثقافة الفقر تمثل حالة من الفقر الخادع بمعنى أننا
قد نكون أمام حالة فقر في سلوك الأفراد في تلبية متطلباتهم وليس فقر في مستويات الدخل، الامر الذي بدوره
يرتب حالة من اهدار طاقة الدول والمجتمعات المادية من خلال استنزاف بعض هذه
الموارد وقطاع كبير من إنتاج تلك المجتمعات نحو فئات يمكن القول انها فقيره ظاهريا
ً ولا تحتاج سوى توعية بكيفية التدبير المعيشي وأهمية فكرتي الادخار والاستثمار
حتى وان كانا في أبسط صورهما.
3- أن دور الانثروبولوجيا في
حماية البيئة يتمثل بأنها تتيح الاطلاع على ثقافة المجتمعات، التي هي ذلك الكل
المركب الذى يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل القدرات والعادات
الأُخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع(7)، تلك الدراسات تفتح الآفاق
المناسبة للتوعية بحيث يشعر الفرد بكامل المسئولية تجاه وطنه ومجتمعه وألا يستهين
بسلوك فردى يمثل عبئا ًعلى البيئة ومقدراتها إذ أن السلوك الفردي يتنامى ليصبح
سلوك أُسرة ومجتمع حتى يصبح ثقافة أفراده، ومن ثم تحقيق حالة من الوعى البيئي الذي
يعرف بأنه تلك العملية القائمة على المعرفة
والإدراك بالمشكلات البيئية وأسبابها وأثارها وكيفية مواجهتها.
والوقوف على الإمكانيات المتوفرة
واللازمة لذلك, مما يؤدي إلى سلوك إيجابي مغاير وتعديل مفاهيم الخاطئة حول البيئة
لكي يصبح افراد المجتمع أكثر تأثيرا وايجابية في مواجهة مشكلات بيئتهم،
وهوذلك الإحساس بمسئولية المصحوب بنوع من المعرفة والفهم والإدراك والقدرة
على التدخل المقصود لحماية ما يحيط بالإنسان من بيئات على اختلاف أنواعها أومكوناتها
ولا يتأتى هذا إلا من خلال العديد من المؤسسات المسؤولة عن توجيه وتوعية وتربية الإنسان .
والوعى البيئي هوعملية عقلية يمارسها الإنسان في حياته اليومية تتفاعل فيها
الجوانب الشخصية والاجتماعية للإنسان, وتستهدف التعامل تعاملا ايجابيا , وبذل
الجهود والمشاركة في حل المشكلات البيئية , والإحساس بالمسؤولية الكاملة نحو تحسينها،
ومقاومة كل ما من شانه أن يهدد أمنها وسلامتها(8)، وعلم الأنثروبولوجيا يتيح وسائل التخاطب المناسبة لجميع
الثقافات من خلال معايشتها مما ينتج عنه الوصول التدريجي لحالة من الالتزام
التلقائي تجاه البيئة ومقدراتها، ومن ثم إعداد نموذج
ما يعرف بالإنسان البيئي الذي يتمتع بفهم نظم البيئة الطبيعية المعقدة التي هوفي
الأساس جزء منها، فهما ً يتجاوز مجرد المعرفة الى الشعور بالمسؤولية حيالها،
ويتمكن الفرد من إدراك أنه الكائن المؤثر
والمتأثر في الكيان البيئي، وأنه جزء لا يتجزأ من هذا الكيان ،حيث تتيح دراسات الأنثروبولوجيا بفرعيها الثقافية
والاجتماعية الوصول لتلك النتيجة من خلال
دراسة الثقافات وانماط الحياة الاجتماعية واوجه الخلل التي تؤثر بالسلب في متطلبات
التنمية المستدامة .
4- الأنثروبولوجيا لديها
القدرة على تحليل الثقافات كما أشرنا آنفا ً، والتنمية المستدامة في جوهرها عملية
ثقافية في المقام الأول تنطلق منها المجتمعات لتحقيق نهوض بمستوى معيشتها في ظل ما
يعرف باقتصاد المعرفة الذي يعتمد على الابتكار والإبداع، فالعالم يتحول نحواقتصاد
معلوماتي التقدم فيه يعتمد أولا ً على نضج الثقافات وقابليتها للتجديد وثراءها
بالمعلومات، ومن ثم فإن دراسات الأنثروبولوجيا تستطيع استيراد مكونات ثقافية جديدة
تمكن المجتمعات من معالجة القصور الذي تعانى منه في رحلة التنمية المستدامة، إذ أن
للثقافة خصائص تتمثل في أنها عملية مكتسبة – أي – أن الإنسان لا يولد بها بل يكتسبها من خلال
التفاعل والاحتكاك بينه وبين الأفراد في مجتمعه, مثال المدرسة والعمل وقد تكون الثقافة
التي يكتسبها الشخص من نفس مجتمعه الأصلي أومن مجتمعات أخرى حسب موضعه فيها أو جلبه
لها(9)، كما أن الثقافة عملية
انسانية اجتماعية قابله للتغيير بتأثير التغيرات البيئية والتكنولوجية, ولكن عملية
تغييرها قابله للتوجيه
في كثير من الأحيان لأن الفرد تعود على سلوك معين وعلى
قوانين معينة وأنظمة معينة، كما أن للثقافة دور كبير في تحديد نمط الحياة للفرد
حيث تختلف الثقافة من شخص لآخر ومن مكان لآخر فنجد الثقافة الموجودة في المدينة
مختلفة عن الثقافة الموجودة في الريف والبادية, وحتى سلوك كل فرد في المناطق
المختلفة يختلف عن الآخر حتى هناك اختلاف نسبي في سلوك الأفراد الذين في بيئة عمل واحدة وهذا يمثل
جوهر التفسير لاختلاف نتائج تطبيق
عناصر الثقافة الواحدة حال استخدامها في مجتمعات مختلفة.
- مما سبق – يمكن الجزم بأن علم الأنثروبولوجيا من خلال دراساته يمثل أساساً في فكرة التنمية المستدامة التي قوامها تحقيق حالة من المسئولية للمجتمع تجاه البيئة وبين المجتمع وذاته وذلك من خلال دراسة مظاهر القصور في سلوك أفراده وما تحتاجه ثقافاته من عمليات تطوير تواكب فكرة حماية البيئة والمسئولية المتبادلة بين الاجيال في ظل اقتصاد تسوده العولمة والتحول التكنولوجي الذي يعيشه العالم ،ويفرض على المجتمعات تحمل مسئولياتها إلى جانب حكوماتها، فالتنمية المستدامة لا يمكن أن تتحقق فقط بواسطة سياسية من سياسات الدولة يقتصر محتواها على توجيهات وقوانين ذات بعد قصير المدى، بل يجب أن تنتقل إلى بعد استراتيجي تتكامل فيه جهود الدولة من خلال سياساتها مع ثقافة المجتمع والوعي الفردى والمؤسسي، بحيث تتضافر جهود المجتمع ككل لتطبيق هذا البعد الاستراتيجي وتحقيق عناصر التنمية المستدامة .
المراجع
1- مدحت محمد أبو النصر،
إدارة وتنمية الموارد البشرية ،صـ23، مجموعة النيل العربية، 2007م .
2- محمود رجب فتح الله، بحث
لمؤتمر القانون والبيئة ،صـ9، جامعة طنطا – كلية الحقوق – قسم القانون العام
،ابريل 2018م .
3- هشام سنوسي ،الانثروبولوجيا
الثقافية ،صـ5، كلية الآداب – جامعة محمد الصديق بالجزائر، 2017م .
4- د /محمد الجوهري، الانثروبولوجيا
– اسس نظرية وتطبيقات عملية ،صـ63، دار المعارف ،بدون تاريخ .
5- أنتوني جدنز، علم
الاجتماع مع مدخلات عربية، ترجمة د / فايز الصياغ، صـ374، المنظمة العربية للترجمة،
الطبعة الرابعة، 2005م .
6- د/ محمد الجوهري، الحياة
اليومية لفقراء المدينة –دراسة اجتماعية واقعية ،صـ34،جامعة حلوان ،2005م .
7- د/أحمد أبوزيد، تايلور
،صـ195، دار المعارف بالقاهرة ،1957م.
8- محمود سلمان العميان،
السلوك التنظيمي في منظمات الأعمال، صـ310،دار وائل للنشر ،عمان – الأردن، 2002م .
9- محمود محمود عرفان ،التدخل المهني للخدمة الاجتماعية وتنمية الوعى البيئي بالمجتمعات العشوائية، المجلة المصرية للتنمية والتخطيط ،صـ132، العدد الأول – المجلد الحادي عشر ،2003م .