عصر السلام الصعب .. القوة الصينية في عالم مقسم
ألقى
نائب الرئيس الأمريكي "مايك بانس" خطاباً قاسياً في أحد مراكز الأبحاث
في واشنطن (معهد هادسون) فى
اكتوبر 2018، وقد تضمن الخطاب قائم طويلة من الإتهامات والتوبيخات ضد الصين بدايةً
من النزاعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي مروراً بالتدخل الصيني المزعوم في
الانتخابات الأمريكية، وأخيراً، اتهم بانس بكين بخرق الأعراف الدولية والتصرف ضد
المصالح الأمريكية.
وكانت النغمة التى تحدث بها
بانس حادة على نحو غير معتاد، وصريحة لدرجة أن البعض فسرها على أنها نذير حرب
باردة جديدة بين الصين والولايات المتحدة.
فقد انتهت فترة ما بعد الحرب
الباردة التى اتسمت بالهيمنة الأمريكية، ومن المقرر أن تعود القطبية الثنائية، مع
لعب الصين دور القوة العظمى. وسيكون الانتقال لتلك المرحلة عنيف جداً، لأن صعود
الصين سيضعها في مسار تصادمي مع الولايات المتحدة حول عدد من المصالح المتضاربة. ولكن
مع تراجع واشنطن ببطء عن بعض علاقاتها الدبلوماسية والعسكرية في الخارج، لا يوجد
لدى بكين خطة واضحة لملء هذا الفراغ القيادي وتشكيل قواعد دولية جديدة من الأساس.
والسؤال
هنا هو كيف سيكون شكل النظام العالمي؟، وفي الحقيقة
فإن عالم القطبية الثنائية الذى سيكون بين الصين والولايات المتحدة لن يكون على
حافة الحرب، لأن السياسة الخارجية الصينية في السنوات القادمة سوف تركز بشكل كبير
على الحفاظ على الشروط اللازمة للنمو الاقتصادي المستمر للبلاد، وهو التركيز الذي
من المرجح أن يدفع القادة في بكين إلى الابتعاد عن المواجهة المفتوحة مع الولايات
المتحدة أو حلفائها الأساسيين.
بمعنى آخر ستكون الثنائية
القطبية القادمة "عصراً من السلام غير المستقر" بين الصين والولايات
المتحدة، فسوف يبنيان جيوشهما، لكنهما سيبقيان حذرين في إدارة التوترات قبل أن
يتورطوا في صراع مباشر. وبدلاً من التنافس على التفوق العالمي من
خلال تحالفات متعارضة، فإن بكين وواشنطن سينفذان إلى حد كبير تنافسهما في المجالات
الاقتصادية والتكنولوجية.
وفي الوقت نفسه، من المرجح أن
تؤدي الثنائية القطبية بين الولايات المتحدة والصين إلى نهاية التعددية المستدامة فى
المجال الاقتصادي، حيث أن الجمع بين النزعة القومية في الغرب والتزام الصين
بالسيادة الوطنية لن يترك مجالًا كبيرًا لهذا النوع من التكامل السياسي والقواعد
التي سادت وقت الليبرالية.
الصين: ماذا تريد ؟
إن تأثير الصين المتنامي على
المسرح العالمي وصعودها الاقتصادى له علاقة بتخلي الولايات المتحدة عن قيادتها
العالمية خاصةً في ظل الرئيس دونالد ترامب. حيث تقوم إدارة ترامب بتحديث الترسانة
النووية الأمريكية، في محاولة لتسخير الأصدقاء والأعداء على حد سواء ، والانسحاب
من عدة اتفاقيات ومؤسسات دولية، ففى 2018 خرجت الولايات المتحدة من معاهدة القوات
النووية متوسطة المدى، ومن الاتفاق النووي مع إيران، ومن مجلس حقوق الإنسان.
ولكن لا يزال من غير الواضح
ما إذا كان هذا التقليص فى الدور الأمريكى هو مجرد هفوة مؤقتة أو نموذج جديد
للسياسة الخارجية الأمريكية يمكن أن يستمر لفترة أطول من مدة ترامب. لكن بشكل عام
دفعت التأثيرات العالمية للـ Trumpism
بعض الدول إلى اللجؤ والتعاون مع الصين بطرق قد تبدو غير متصورة منذ بضع سنوات. والمثال
على ذلك، رئيس الوزراء الياباني "شينزو آبي"، الذي حول علاقات اليابان
مع الصين من العداء الخفي إلى التعاون من خلال
زيارته لبكين في أكتوبر 2018، عندما وقعت الصين واليابان أكثر من 50 اتفاقية
للتعاون الاقتصادي.
وبشكل عام تهتم الصين بوجود
نظام اقتصادي ليبرالي مبني على التجارة الحرة، لأن التحول الاقتصادي للصين من
مجتمع زراعي إلى قوة عالمية كبرى وثاني أكبر اقتصاد في العالم ، اعتمد بشكل أساسى
على الصادرات. لذا تشكل هذه الصادرات شريان الحياة بالنسبة للاقتصاد الصيني، فهي
تضمن فائض تجاري ثابت، و توفر الوظائف التي هي المحرك الحيوي للاستقرار الاجتماعي
المحلي. ولأن صادرات الصين أهم
وسائل نجاحها الاقتصادي والسياسي، فمن المتوقع أن تضاعف محاولاتها الرامية للوصول
إلى الأسواق الخارجية والمحافظة عليه. وهناك مظاهر تدل على ذلك:
1.
"مبادرة الحزام والطريق"، التي
تأمل الصين من خلالها في تطوير شبكة واسعة من الطرق البرية والبحرية التي تربط بين
مراكز التصدير والأسواق النائية. واعتبارًا من أغسطس 2018 ، كان هناك نحو 70
دولة ومنظمة قد وقعت عقودًا مع الصين لمشاريع تتعلق بالمبادرة ، ومن المتوقع أن
يرتفع هذا العدد في السنوات القادمة.
2.
تأكيد الحزب الشيوعي الصيني في
مؤتمره الوطني الذى عقد فى 2017، على ضرورة الإلتزام بالمبادرة في دستوره، وهذا
يشير إلى أن الحزب ينظر إلى مشروعات البنية التحتية على أنها أكثر من سياسة خارجية
منتظمة.
3.
رغبة
الصين في زيادة فتح أسواقها المحلية أمام السلع الأجنبية مقابل زيادة الوصول إلى
الخارج. ونتيجة لذلك أقامت معرض تجاري كبير في شنغهاي في نوفمبر 2018 لعرض إمكانيات
البلد كوجهة للسلع الأجنبية، كما قامت بخفض تعريفتها الجمركية من 10.5% إلى 7.8%.
القطبية الثنائية على مستوى الممارسة
وفى هذا الإطار يمكننا الإشارة
لعدد من القضايا وذلك على النحو التالى:-
1. الحرب
يرى الكاتب ان احتمالات الحرب في
إطار القطبية الثنائية بين الصين والولايات المتحدة، ضعيفة جداً حتى مع زيادة حدة
المنافسة بينهما، والسبب فى ذلك، هو أن الصين تركز بشكل كبير على النمو الاقتصادى
وبالتالى لا تريد الدخول فى مواجهات عسكرية مع الولايات المتحدة حتى لا تخسر
الأسواق الأوروبية والأمريكية، ولا الشراكات الاستراتيجية مع حلفاء الولايات
المتحدة. وعلى الجانب الآخر، فانسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ متوسطة
المدى لا يعنى احتمال حدوث حرب، بل ذلك من أجل إحداث توازن وخلق حالة من الردع مع
الصين.
ومع ذلك، لا يمكن استبعاد
الحروب بالوكالة، وحدوث مناوشات عسكرية بين الدول الصغيرة، لأن ضبط النفس في
القوتين العظميين قد يشجع بعض الدول الصغيرة على حل النزاعات المحلية بالقوة. وقد تميل
روسيا إلى الحرب وهي تحاول استعادة وضعها كقوة عظمى والحفاظ على نفوذها في شرق
أوروبا والشرق الأوسط. إضافة إلى الصراع من أجل الهيمنة الإقليمية بين إيران
وتركيا والمملكة العربية السعودية مما يحفز هذا على استمرار الحرب. كما ستستمر
الصراعات الانفصالية والهجمات الإرهابية، خاصةً إذا كان التنافس بين الصين
والولايات المتحدة يقلل من تعاونها في تدابير مكافحة الإرهاب.
2. المجال الاقتصادي
سيستمر نظام التجارة
الليبرالي العالمي المبني على اتفاقيات التجارة الحرة والعضوية في منظمة التجارة
العالمية، خاصةً مع وجود الاقتصادات القائمة على التصدير، مثل الصين وألمانيا
واليابان
بغض النظر عن المسار الذي ستتخذه الولايات
المتحدة.
3.
مجالات
التعاون بين الطرفين
ستكون
احتمالات التعاون ضعيفة بين الصين والولايات المتحدة، لأن
قائمة التهديدات المشتركة التي قد تجبر البلدين على التعاون قليلة جداً، فبعد 17
عاماً من حملات مكافحة الإرهاب، تلاشى الإحساس بالإلحاح الذي كان يحيط بتلك القضية.
كما ومن غير المحتمل أن يصبح تغير المناخ من ضمن التهديدات في أي وقت قريب. والسيناريو
الوحيد الأكثر قبولاً هنا هو حدوث أزمة اقتصادية عالمية جديدة في السنوات القادمة،
تدفع القادة الأمريكيين والصينيين إلى إخماد خلافاتهم للحظة واحدة لتجنب الكوارث
الإقتصادية، ولكن يظل هذا مجرد افتراض.
بالإضافة إلى استمرار بعض نقاط الصراع ألا وهى "قضية
تايوان"، فقد زادت حدة التوتر فى العلاقات بين بكين
وتايبيه في السنوات الأخيرة، حيث شككت حكومة تايوان الحالية المنتخبة في عام 2016،
في الفكرة القائلة بأن البر الرئيسي للصين وتايوان يشكلان بلدا واحدا فيما يُعرف
باسم مبدأ "الصين الواحدة". ومن المرجح أن يشكل استفتاء الاستقلال
التايواني خطًا أحمرًا لبكين وقد يدفعها إلى اتخاذ إجراء عسكري، وإذا كانت
الولايات المتحدة سترد بالقدوم إلى تايوان، فإن التدخل العسكري من قبل بكين يمكن أن
يتحول بسهولة إلى حرب أمريكية صينية كاملة. ولتجنب مثل هذه الأزمة، فإن بكين مصممة
على تقويض أي تطلعات لاستقلال تايوان في مهدها بوسائل سياسية واقتصادية.
بمعنى آخر، فإن الصين تنظر إلى السيادة الوطنية، وليس المسؤوليات والقواعد الدولية، باعتبارها المبدأ الأساسي الذي ينبغي أن يستند إليه النظام الدولي. وبالتالى حتى لو كانت الصين قوة عظمى جديدة في العقد القادم، فسوف تتبع سياسة خارجية أقل تدخلا ًمن الولايات المتحدة، فهى تشير فقط إلى دعمها لنظام اقتصادي ليبرالي، وليس لتكامل سياسي دائم. فما زالت بكين تخشى من التدخل الخارجي خاصةً فيما يتعلق بهونج كونج، وتايوان، وشينجيانغ، وكذلك فيما يتعلق بمسائل حرية الصحافة واللوائح على الإنترنت.