شهد
العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بعض التطورات الهامة فيما يتعلق بمياه حوض
نهر النيل، والتي تمثل أبرزها في اتجاه دول الحوض لتحقيق التعاون الجماعي لتحقيق
التنمية المستدامة من خلال الانتفاع المنصف لمياه النيل. في السياق ذاته، تم كل ما
سبق في إطار "مبادرة حوض النيل" التي تم الإعلان عنها في عام 1999 والتي
كان من المقرر أن تتحول إلى إطار دائم للتعاون تحت مسمى مفوضية حوض النيل.
ولكن،
طالبت دول المنابع مثل إثيوبيا أيضاً بحقوقها في الاستفادة بمياه النيل، بغض النظر
عن الاتفاقيات القائمة منذ العهد الاستعماري، والتي أعلنت هذه الدول أنها لن تعترف
بها. وعليه، بدأت إثيوبيا في إقامة سلسلة من المشروعات المائية على نهر النيل دون الالتزام
بالحقوق التاريخية ومبدأ عدم الإضرار والإخطار المسبق لدولتي المجرى والمصب (مصر والسودان).
وسنقوم
فيما يلي، بعرض حقوق مصر التاريخية ومبدئي عدم الإضرار والإخطار المسبق، فضلاً عن
الحجج المصرية وتقديم حسن النية خلال فترة المفاوضات.
أولاً- حقوق مصر التاريخية في
مياه النيل
وقعت مصر عدد كبير من الاتفاقيات التي نظمت علاقتها بدول
حوض النيل والتي تمحورت حول اتفاقيات ثنائية بين كل دولتين على حدا، ويعد أبرزها
تلك الموقعة بين مصر ودول حوض النيل، مصر وأثيوبيا، مصر والسودان،
ولكن سيتم التركيز فيما يلي على الاتفاقيات الموقعة مع أثيوبيا، وهي كما يلي: -
1- برتوكول روما: تم توقيعه في 15 إبريل لعام 1981 بين كل من
بريطانيا وإيطاليا التي كانت تحتل إريتريا في ذلك الوقت، بغرض تحديد مناطق نفوذ
كلا الدولتين في أفريقيا الشرقية، وتعهدت إيطاليا في المادة الثالثة من الاتفاقية
بعدم إقامة أي منشآت لأغراض الري على نهر عطبرة يمكنها التأثير على تصرفات نهر
النيل.
2- اتفاقية أديس أبابا: تم
توقيعها في 15 مايو 1902 بين بريطانيا وأثيوبيا، التي تعهد فيها الإمبراطور منليك
الثاني ملك إثيوبيا في ذلك الوقت بعدم إقامة أو السماح بإقامة أي منشآت على النيل
الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط أو منشآت من شأنها أن تعترض مياه النيل إلا
بموافقة الحكومة البريطانية والسودانية مقدماً.
3- اتفاقية لندن؛ تم توقيعها في 13 ديسمبر لعام 1906 بين كل من
بريطانيا، فرنسا وإيطاليا، والتي ينص البند الرابع فيها على أن تعمل هذه الدول
معاً على تأمين دخول مياه النيل الأزرق وروافده إلى مصر.
4- اتفاقية روما: عبارة
عن مجموعة خطابات متبادلة بين بريطانيا وإيطاليا في عام 1925 وتعترف من خلالها إيطاليا
بالحقوق المائية المكتسبة لمصر والسودان في مياه النيل الأبيض والأزرق وروافدهما،
كما تتعرض بعدم إقامة أي منشآت عليهما من شأنها أن تنتقص من كمية المياه المتجهة
نحو النيل الرئيسي.
5- إطار التعاون؛ تم توقيعه في القاهرة في عام 1993
بين كل من الرئيس المصر السابق حسني مبارك ورئيس وزراء إثيوبيا مليس زيناوي، الذي
تضمن التعاون بين مصر وأثيوبيا فيما يتعلق بمياه النيل في النقاط التالية؛ عدم
قيام أي من الدولتين بعمل أي نشاط يتعلق بمياه النيل، بما قد يتسبب في ضرر بمصالح
الدولة الأخرى، فضلاً عن ضرورة الحفاظ على مياه النيل وحمايتها، احترام المعاهدات والقوانين
الدولية، التشاور والتعاون بين الدولتين فيما يتعلق بإقامة مشروعات تزيد من حجم
تدفق المياه وتقليل الفواقد(1)، ولكن رفضت إثيوبيا الاعتراف بهذه
المعاهدات و شرعت في بناء السد.
ثانياً- مبدأيّ عدم
الإضرار والإخطار المسبق
نشأت
قواعد القانون الدولي للمياه في رحم الممارسات العرفية للدول النهرية على مستوى
الأحواض الدولية منذ قرون طويلة، وباتت قواعد قانونية مستقرة بالنسبة للجماعة
الدولية، وتم نشأتها بهدف تنظيم العلاقات بين دول الحوض الواحد بما يتضمن عمليات
استخدام وتقاسم المياه، ويعد مبدئي عدم الإضرار والإخطار المسبق من أهم هذه
المبادئ، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي: -
1-
عدم الإضرار
يتم
تعريف الضرر من قبل الجماعة الدولية للقانون على أنه "مساس بحق أو مصلحة
مشروعة لأحد أشخاص القانون الدولي، وتدخل الدولة في نطاق المحاسبة متى تسببت في
إحداث ضرر"، الأمر الذي يعنى إنقاص لنصيب دولة متشاطئة، أو إحداث تأثير على
نوعية أو كمية المياه المتدفقة نحو باقية الدول الأخرى. كما اتبع البنك الدولي
سياسة مرنة فيما يتعلق بتمويل المشروعات المائية، بما يتضمن تقدير كل الة على حدا،
ولكن يعد مبدأ عدم التسبب في ضرر لدولة مشاطئة من أهم المبادئ الحاكمة لسياسات
البنك الدولي، ومن ثم يوجب البنك على الدول الراغبة في إنشاء سد أو مشروع مائي أن
تقدم كافة المعلومات والبيانات المرتبطة بالموضوع حتى تستطيع باقي البلدان الأخرى
تقييم الأثار المحتملة عليها وتداعياتها.
وعليه،
اتفق الفقه الدولي في النهاية على أن مبدأ عدم التسبب في ضرر أو إحداثه يختلف من
حالة إلى أخري، وذلك على حسب الضرر الذي يمكن أن يصيب الدول الأخرى جراء القيام
بالمشروع المائي المرغوب فيه، الأمر الذي يتطلب تأسيس لجان وهيئات خاصة تضم ممثلين
عن دول الحوض الواحد، بما يتضمن خبراء متخصصين بهذا الشأن لدراسة وتقييم ظروف
الحوض من كافة النواحي سواء الاقتصادي والاجتماعية والسياسية لتحديد درجة وخطورة
الضرر بشكل موضوعي(2).
2-
الإخطار المسبق
يعد
الاخطار المسبق هو إحدى صور مبدأ التعاون النهري بين دول الحوض الواحد، باعتباره
أحد أهم الإجراءات الواجب اتباعها من قبل الدول التي ترغب في إقامة مشروعات مائية ومن
بينها السدود، بغرض عدم إلحاق الضرر بمصالح الدول الأخرى وتحقيق الاستغلال الأمثل
من المشروع المائي. وينشأ الإخطار المسبق عندما ترغب إحدى دول الحوض في ادخال
استخدام جديد لمياهه أو إجراء تعديل على استخدام موجود فعلاً يكون من شأنه التأثير
سلباً على باقي دول الحوض، مع تقديم كافة البيانات اللازمة حتى يتسنى للدول محل
التأثير دراسة هذه الأعمال بشكل كاف وفي غضون فترة مناسبة تمكنها من قياس هذا
التأثير.
وتتمثل أهمية
الاخطار المسبق في توثيق أواصر بين الدول بما يعود بالنفع على كل دول الحوض، وتحقيق
الاستخدام الأمثل والرشيد للمياه في ظل إظهار حسن النية وحسن الجوار، ومن ناحية
أخري، يهدف الإخطار المسبق إلى رعاية النظم الأيكولوجية ومعايير الحماية البيئية
للنهر الدولي بالإضافة إلى ضمان مشاركة جميع الدول في تقييم أثار هذه المشروعات
على البيئة النهرية بما يؤدي إلى تحقيق التوافق بين دول الحوض الواحد(3).
ثالثاً- الحجج والأسانيد القانونية التي اعتمدت عليها
مصر خلال فترة المفاوضات
اعتمدت
مصر على عدد من الأدلة والأسانيد في مواجهة رغبة إثيوبيا في بناء سد النهضة دون التشاور
مع الإدارة المصرية، والتي تمثل أبرزها في الاتفاقيات التاريخية بين كل من مصر وأثيوبيا،
مصر والسودان والقانون الجديد للأنهار الذي أقرته الأمم المتحدة لعام 1977. وتمثلت
أبرز المبادئ التي اعتمدت عليها مصر خلال فترة المفاوضات في؛ -
1-
مبدأ التوارث الدولي للمعاهدات
أكدت
اتفاقية فيينا والتي تم إقرارها في عام 1978 على مبدأ التوارث الدولي للمعاهدات، واتضح ذلك
منذ بداية الموافقة على مبدأ تورث وقدسية الحدود، وهو الأمر الذي وافقت عليه الدول
الأفريقية سابقاً في إطار اجتماعات منظمة الوحدة الأفريقية – الإتحاد الإفريقي حالياً-
ولكن عادت دول المنبع لترفض الأخذ بهذا المبدأ من جديد وتصر على ضرورة تغييره.
لذا، أكدت مصر على أن اتفاقية عنتيبي التي تم عقدها بين
عدد من الدول الأفريقية وسيما دول المنابع لا يمكنها التأثير بأي حال على
الاتفاقيات السابقة سواء الثنائية أو متعددة الأطراف التي تم عقدها بين مصر وأي
دولة أخري من دول حوض النيل(4).
2-
مبدأ الانتفاع العادل والمنصف للمجاري المائية
دعت مصر إلى الإعمال بهذا المبدأ عند النظر إلى توزيع
الأنصبة المائية في حوض نهر النيل؛ حيث يقر هذا المبدأ بحصول كل دولة على نصيب عادل
ومنصف عند تقاسم مياه النهر، وتعرضت المادة الخامسة من قواعد هلسنكي للقانون
الدولي لعام 1966 الذي حدد حوالي إحدى عشر مؤشراً إرشادياً لتحديد ما يعرف بمبدأ
الاقتسام العادل والمنصف لمياه أحواض الأنهار الدولية، وهو الأمر الذي أكدت عليه
اتفاقية الأمم المتحدة عام 1977 مع الأخذ في الاعتبار عوامل الجغرافيا و المناخ،
فضلاً عن الحاجات الاقتصادية و الاجتماعية، و الوزن النسبي للسكان الذين يعتمدون
على النهر(5).
3-
مبدأ الحقوق التاريخية المكتسبة
يعتمد هذا المبدأ على ضرورة احترام الكيفية التي جرى
العمل بها في اقتسام واستخدام مياه النهر الدولي بين الدول المتشاطئة والمشتركة في
مجراه، بشرط ان يكون هذا الاقتسام قد جرى العمل به لفترة زمنية طويلة إلى الحد
الذي تصبح فيه حصة المياه التي تستخدمها دولة ما واقعاً متوتراً لفترة طويلة دون
اعتراض دول النهر على أن تكون هذه الحصة تمثل أهمية حيوية ولا يمكن الاستغناء عنها
بالنسبة لدول النهر. ومن هنا تؤكد مصر على ضرورة احترام حقوقها التاريخية والمكتسبة
في مياه النيل من قبل الجانب الإثيوبي(5).
ختاماً؛ على الرغم من تقديم مصر لمبدأ حسن النية ومطالبة الجانب الإثيوبي بالعمل من خلال ذات المبدأ، إلا أنها وجدت تعنت كبير من قبل الجانب الإثيوبي فيما يتعلق ببناء السد بل مجموعة السدود المقترح بناءها دون النظر إلى وضع مصر المائي أو حاجتها الشديدة لحصتها في مياه نهر النيل، لذا يجب أن تلجأ مصر إلى تدويل الأزمة والمطالبة بحقوقها في المحافل الدولية، على أن يكون الخيار العسكري هو الحل الأخير إذا فشلت الدبلوماسية.
الهوامش
1. أحمد على سليمان، سد النهضة الإثيوبي ومستقبل الأمن
القومي المصري، مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي: رابطة الجامعات الإسلامية،
2013، متاح على الرابط التالي:
http://www.creativity.ps/data/library/124135470563023lib.pdf
2. مساعد
عبد العاطي شيتوى، الضوابط القانونية الحاكمة لإنشاء المشروعات المائية: دراسة
تطبيقية على حوض النيل، الهيئة العامة للاستعلامات مجلة أفاق أفريقية،
المجلد الحادي عشر، العدد التاسع والثلاثون، 2013، ص ص 81-84.
3. المرجع السابق،
ص ص 86-88.
4. علي سبتي بطي، التوارث الدولي في المعاهدات الدولية، ماجستير،
(عمّان، جامعة الشرق الأوسط، كلية الحقوق، 2015)، ص ص 15-19.
5. محمد شوقي، الانتفاع المنصف بمياه الأنهار الدولية، مفاهيم:
الأسس العلمية للمعرفة، المركز الدولي للدارسات المستقبلية والاستراتيجية،
2008، ص ص 1-10.
6. أيت جبارة محفوظ، إشكالية قاعدة الاحترام الدولي للحقوق المكتسبة في القانون الدولي العام، ماجستير، (الجزائر، جامعة الجزائر، كلية الحقوق، 2002)، ص ص 9-18.