فيسبوك ومعضلة العملات الالكترونية .. التباحث حول ليبرا ما بين التهديد الأمني والمعضلة القانونية
أثار إعلان شركة فيسبوك لوسائل التواصل الاجتماعي عن
خطتها لإطلاق عملة ليبرا الافتراضية بين ملايين المستخدمين الأوروبيين خلافًا في
الاتحاد الأوروبي حول كيفية التعامل مع هذه العملة في ظل غياب تشريعات أوروبية
ناظمة لها الذي يمكن الأفراد والمؤسسات وقطاع الأعمال من التعامل بها دون وجود
إطار قانوني واضح. وبرغم هذا الخلاف، بدا التوافق الأوروبي جليًا في اجتماع وزراء
مالية منطقة اليورو في الثالث عشر من سبتمبر 2019 بهلسنكي، حول اعتبار عملة ليبرا
مهددًا النقدية للدول الأوروبية.(1)
تأسيسًا على ما تقدم، سيتم تناول التهديدات التي تمثلها
العملة الافتراضية "ليبرا"، الاقتصادية والأمنية، عقب التعريف بها وموقف
دول الاتحاد الأوروبي منها، وأخيرًا تحليل الوضع القانوني الراهن للعملات
الافتراضية ومعوقات تنظيمها.
ماهية
ليبرا
تُعرف ليبرا على أنها نوع من العملات الافتراضية أطلقتها
شركة فيسبوك، وهي تستخدم نموذجًا آمنًا للتشفير للتحقق من المعاملات، وتعتمد على
تقنية (Blockchain) المبني عليها قيمة العملة. أعلنت الشركة
أنه تم تصميمها لتكون لها قيمة مستقرة وموثوقة ومقبولة على نطاق واسع في جميع
أنحاء العالم، (2) ولتجعل تحويل الأموال عبر الانترنت أسهل وأرخص. (3) ستقوم
بإدارة هذه العملة جمعية ليبرا (Libra
Association) والتي
سيكون لها سلطة اتخاذ القرار النهائية حيث إن فيسبوك ستحتفظ بدورها القيادي حتى
نهاية العام الجاري، وبمجرد إطلاق العملة في النصف الأول من عام 2020 ستصبح شركة
فيسبوك أحد أعضاء الجمعية، وسيكون لجميع أعضاء مثل (MasterCard و Visa و PayPal و Uber و eBay و Vodafone و Mercy Corps) سلطة
متساوية في الإدارة، وكذلك لهم نفس الامتيازات وعليهم نفس الالتزامات. وعبر
المحفظة الرقمية (Calibra) سيتمكن المستخدمون من إرسال واستقبال
العملة وإضافتها إليها، كما سيتمكنون من تحويل النقود التقليدية إلى عملة
"ليبرا" عبر تلك المحفظة. (4)
وتتشابه ليبرا مع العملات الافتراضية الأخرى مثل البيتكوين
والإيثر (bitcoin & ether) في أنها
موجودة بشكل رقمي، ويتم تسجيل معاملاتها على (Blockchain)، وتتميز في
أنها بخلاف العملات الأخرى، سيتم ربطها بسلة من الأصول التي ستثبت قيمتها ومن ثم
لا تتقلب بشكل سريع مفاجئ، وقد أشارت جمعية ليبرا أن هذه الأصول ستشمل الودائع
المصرفية والأوراق المالية الحكومية. (5)
رفض
جماعي وبحث عن مخرج
أثار إعلان فيسبوك عن إطلاق العملة الافتراضية
"ليبرا" مخاوف دول الاتحاد الأوروبي إلى حد قول ماركوس فيربر، عضو
البرلمان الأوروبي، إنه يجب أن يكون الاتحاد في حالة تأهب قصوى. ورأت دول الاتحاد
أن ليبرا تشكل مخاطر على القطاع المالي واستقراره وعلى المستهلكين، بجانب تهديدها
للسيادة النقدية للدول الأوروبية حسبما أُعلن في اجتماع هلسنكي، والذي أكدت فيه
دول الاتحاد وعلى رأسها فرنسا وألمانيا على فشل شركة فيسبوك في إقناعهم بمعالجة
هذه المخاطر بشكل صحيح.
دفع الشعور بالتهديد مؤسسات الاتحاد الأوروبي لتحذير
المواطنين من عملة ليبرا، فأكدت السلطات الإشرافية الأوروبية للأوراق المالية (ESMA) والخدمات
المصرفية الأوروبية (EBA) والتأمين والمعاشات التقاعدية (EIOPA) أنها
محفوفة بالمخاطر وغير خاضعة للتنظيم وغير صالحة للاستثمار والادخار.(6) كما دفع دول الاتحاد للتباحث حول آليات مواجهة
مخاطر ليبرا مثل منع ترخيص ليبرا، ووضع تشريع ينظم العملات الافتراضية بشكل عام نظرًا
لأنها غير خاضعة للرقابة إلى حدٍ كبير، بجانب تطوير عملة افتراضية أوروبية بديلة،
أو إعادة النظر في مشروع (TIPS) الذي أطلقه البنك المركزي الأوروبي، وهو
يمكن المستهلكين من استخدام النقود الإلكترونية دون الحاجة إلى حسابات مصرفية أو
وسطاء ماليين، وهذه النقود ستودع في البنك بما يضمن رقابة أوروبية عليها.(7)
تهديد
مالي أمني ... ومأزق قانوني
يُظهر عدد من البلدان عجزًا تامًا عن الاستجابة بشكل
مناسب وكفء للتقدم التكنولوجي بشكل عام. ولحل الجوانب القانونية للعملة
الافتراضية، واجه الاتحاد الأوروبي الحاجة إلى إنشاء التنظيم القانوني المناسب،
فإلى الآن لا يوجد تعريف قانوني واحد للعملة الافتراضية أو تنظيم قانوني عام في
الاتحاد الأوروبي.
لكن ظهرت عدة
محاولات لتسليط الضوء على مخاطر غياب قانون منظم لها وتقديم بعض الحلول المقترحة،
أولها محاولة البنك المركزي الأوروبي إصدار تقرير بعنوان "مخططات
العملات الافتراضية" والذي عُرفت فيه على أنها نوع من النقود الرقمية غير
المنظمة التي يتم إصدارها والتحكم بها من قبل مطوروها، وتُستخدم وتُداول بين أعضاء
مجتمع افتراضي محدد. ورأى البنك المركزي الأوروبي أن عدم وجود إطار قانوني منظم
للعملات الافتراضية يترتب عليه عدة مشكلات، أولها أن العملات الافتراضية عادةً ما
تكون مملوكة لشراكات خاصة غير مالية وليست الجهات المالية التقليدية بما في ذلك
البنوك المركزية وهو ما يعني أن الترتيبات
القانونية المتبعة لتنظيم القطاع المالي والإشراف عليه لا تنطبق عليها، ثانيها أن
القوانين المالية الحالية لا تنظم الصلة بين العملة الافتراضية والعملة التقليدية
مما يثير إشكالًا عن استرداد الأموال، وأن السيطرة الكاملة على العملة الافتراضية
تكون لمطوريها من ثم هم من يتحكموا في بعرض العملة حسب رغبتهم.(8) وأشار كذلك إلى
أن غياب التنظيم وعدم خضوعها للإشراف من قبل أي سلطة عامة يعرض مستخدميها لمخاطر
الائتمان والسيولة وكذلك مخاطر قانونية. كما أنها يمكن استخدامها من قبل المجرمين
والمحالين وغاسلي الأموال لأداء أنشطتهم غير القانونية. (9)
ثاني المحاولات كانت للهيئة المصرفية الأوروبية (EBA) التي قدمت في يوليو 2014 رأيها حول العملات الافتراضية،
سلطت فيه الضوء على قائمة كبيرة من المخاطر التي يتعرض لها المشاركون في العملات
الافتراضية سواء كانوا مستخدمين، أو مؤسسات مالية والجهات التنظيمية الحالية. ورأت
أنه في المدى القصير، يمكن تنظيم بعض المخاطر الناجمة عن التفاعل بين العملات
الافتراضية والمؤسسات المالية الخاضعة للتنظيم، وتشمل غسل الأموال والجرائم
المالية، والمخاطر المتعلقة بلمعلومات
المستخدمين. وأوصت الهيئة بعدم تشجيع المؤسسات المالية القائمة على التعامل مع
العملات الافتراضية ومن ثم حمايتها، وفي الوقت نفسه أوصت بإلزام البورصات
الافتراضية بمتطلبات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.(10)
وثالث المحاولات كانت للبرلمان الأوروبي عام 2016،
عندما اعتمد قرارًا بشأن العملات الافتراضية (2016/2007 (INI)) يهدف
لتنظيمها جزئيًا على مستوى الاتحاد الأوروبي وتحديد المشكلات المرتبطة باستخدمها.
ولكن هذا القرار لم يسفر سوى عن اعتماد لوائح قانونية على مستوى الاتحاد الأوروبي
فقط فيما يتعلق بمنع تمويل الإرهاب وإضفاء الشرعية على عائدات الجريمة. (11)
توضح المحاولات السابقة أن التنظيم القانوني المفصل
الشامل من قبل الاتحاد الأوروبي –والذي سينطبق على عملة ليبرا- سيكون عملية طويلة
وصعبة بالأخذ في الاعتبار حقيقة أن
العملات الافتراضية نفسها –محل التنظيم- تتطور بشكل أسرع من محاولات المشرع
الأوروبي لتنظيمها. يُضاف لذلك عدم كفاية المعلومات المتاحة حول بعض العملات
الافتراضية وبشكلٍ خاص ليبرا، لأن شركة فيسبوك لم تفصح عن معلومات كثيرة حولها.
ومن معوقات إصدار قانون ناظم وجود الآلاف من العملات الافتراضية المختلفة من
الضروري مراعاة طبيعة خدمة تشفير الأصول على أساس كل عملة على حدى. ويُؤخذ في
الاعتبار أيضًا أن عملية تقنين العملات الافتراضية تمثل مأزقًا قانونيًا في
الاتحاد الأوروبي لأن المنظمين لم يتمكنوا من الاتفاق حول عدة أمور منها ما إذا
كان يجب معاملتها كالنقود التقليدية، أو كبديل للمال، أو كنقود إلكترونية، أو أداة مالية، أو كسلعة، أو
كخاصية.
فيرى الفريق المنادي بمعاملة العملات الافتراضية معاملة
النقود التقليدية، أنها تتشابه معها فهي وسيلة للدفع مقابل السلع والخدمات، ويمكن
أن تكون وحدة يتم بها دفع الأجور، واستخدامها في كافة المعاملات المالية ومن ثم
ينطبق عليها القوانين المنظمة للنقود التقليدية، وذلك على غرار المشرع الياباني
الذي أقر بأن عملة البتكوين لها نفس وظيفة
المال وبناءً عليه تقرر تطوير إطار تنظيمي للإدماج الكامل للعملات الافتراضية في
النظام المصرفي.
ويجادل معارضو معاملة العملات الافتراضية على قدم
المساواة مع النقود التقليدية بأن تلك العملات ليست أداة نقدية لأن الدولة لا
تصدرها ولا تضمن قيمتها ولا تحدد الالتزام بقبولها. هذا الرأي تؤيده عدة دول فعلى سبيل
المثال، لا تعتبر مصلحة الضرائب في هولندا العملة المشفرة وسيلة قانونية للدفع، وقد
أعلن بنك الدنمارك المركزي في عام 2014 أن بيتكوين ليست عملة، فمن وجهة نظر المشرع
الدانمركي، ليس لهذه العملة المشفرة أي قيمة تداول حقيقية مقارنة بالذهب أو الفضة.
ويرى أخرون أن العملات الافتراضية هي نوع من النقود
الإلكترونية والتي تُعرف في القانون الدولي على أنها التخزين الإلكتروني للقيمة
النقدية على جهاز تقني يمكن استخدامه على نطاق واسع لإجراء مدفوعات ليس فقط
للمُصدر ولكن أيضًا للشراكات الأخرى، دون الحاجة للاستخدام الإلزامي للحسابات
المصرفية للمعاملات، فهي تعد أداة مسبقة الدفع لحاملها. (12)
ويرى فريق آخر أن العملات الافتراضية هي أداة مالية
مشتقة من الأوراق المالية، كعقد يحقق الالتزام بشراء أو بيع السلع أو العملات أو
الأوراق المالية نفسها. ويمكن أن يكون الأصل الأساسي للأداة المالية هو العملة أو الوساطة
المالية. قد تم اتخاذ هذا الموقف بأن العملة الافتراضية أداة مالية من قبل وزارة
المالية الألمانية، ففي عام 2013 تم إصدار مرسومًا بشأن الاعتراف بالعملات
الافتراضية كوسيلة رسمية للتسوية.
ويوجد فريق آخر يعتبر العملات الافتراضية سعلة، وينادي
بمعاملتها على أنها سلعة خاضعة للضريبة، ويرى أيضًا أن النظم القانونية يجب أن
تصنفها كسلعة غير مادية لا تنضب، ذات قيمة محددة في كل لحظة. ويتقارب هذا الفريق
مع المنادين بمعاملة العملات الافتراضية كملكية يجب فرض ضريبة عليها نظرًا لأن
أصحابها يحصلون على ربح منها، وفي نفس الوقت إذا تم دفع الأجور بالعملات
الافتراضية فهي تخضع لضريبة الدخل. (13)
ختامًا، يمكن القول إن المعضلة الأساسية أمام وضع الاتحاد الأوروبي تشريعًا منظمًا للعملات الافتراضية رغم التوافق حول مخاطرها وتهديداتها المالية والأمنية، هي الخلاف بين الدول حول ماهيتها التي تحدد تباعًا كيفية معاملتها قانونًا. وعليه؛ يصبح لازمًا على الاتحاد الأوروبي التباحث حول هذا الأمر بداية للتوصل لاتفاق يمهد بعد ذلك الطريق لوضع تشريع ناظم لها.
الهوامش
[1] Francesco Guarascio, “France, Germany
blast Facebook's Libra, back public cryptocurrency”, Reuters, 13
September 2019, available at:
[1] Libra, Available at:
https://libra.org/en-US/learn-faqs/
1.
Andrew Morse, “Everything you need to know
about Facebook's Libra cryptocurrency”, Cnet, 15 July 2019, Available
at:
https://www.cnet.com/news/everything-you-need-to-know-about-facebooks-libra-cryptocurrency/.
2.
Rajarshi Mitra,
“What is Facebook Libra Cryptocurrency?”, Block geeks, at:
https://blockgeeks.com/guides/understanding-facebooks-cryptocurrency-libra/.
3.
Andrew Morse, Ibid.
4.
Elena Sánchez Nicolás, “France urges EU
virtual currency rules amid Libra risk”, EU Observer, 16 September 2019,
available at:
https://euobserver.com/science/145942.
5.
Francesco Guarascio, Ibid.
6.
European Central
Bank, Virtual Currency Schemes, October 2012, available at:
http://www.ecb.europa.eu/pub/pdf/other/virtualcurrencyschemes201210en.pdf
.
7.
Op.cit,
p. 47.
8.
European Banking
Authority, “EBA Opinion on Virtual Currencies", 4 July 2014, available at:
http://www.eba.europa.eu/documents/10180/657547/EBA-Op-2014-08+Opinion+on+Virtual+Currencies.pdf
.
9.
“European Parliament
resolution of 26 May 2016 on virtual currencies (2016/2007(INI))”, available at:
https://eur-lex.europa.eu/legal-content/EN/TXT/PDF/?uri=CELEX:52016IP0228&rid=9.
10.
European
Central Bank, “Report on Electronic Money”, August 1998, available at:
https:// www.ecb.europa.eu/pub/pdf/other/emoneyen.pdf.
11. [1] "Commodity
Futures Trading Commission, Order Instituting Proceedings Pursuant to Sections
6(c) and 6(d) of the Commodity Exchange Act, Making Findings and Imposing
Remedial Sanctions”, USA, Office of proceedings,
17 September 2015, available at: