لسنوات طويلة تجاهل باحثو العلوم الاجتماعية دراسة
الآثار المحتملة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي على الظواهر الاجتماعية، فجُل الاهتمام
به أتى من الاقتصاديين والفنيين. ومع تطور الذكاء الاصطناعي إلى درجة امتلاكه
القدرة على تغيير كافة مناحي الحياة تمامًا وبخاصة السياسية منها بدأ على استحياء
دراسته كمؤثر ذو أهمية مركزية عليها حتى تم استخدامه للتأثير على الرأي العام،
ومعرفة التوجهات السياسية للأفراد من خلال تحليل البيانات الهائلة من وسائل
الإعلام على اختلافها والتي مكن الذكاء الاصطناعي من الوصول إليها بشكل غير مسبوق.
هذا دفع بعض الباحثين لإثارة تساؤلات حول ماهية تأثيرات الذكاء الاصطناعي على
الظواهر السياسية وبخاصة الديمقراطية عقب استخدامه في بعض الحملات الانتخابية-والتي
تشكل جانبًا أساسيًا للديمقراطية- وأبرزها حملة أوباما في 2008 و2012 حيث استخدم
القائمين على الحملة لأول مرة خوارزميات التعلم الآلي وتحليل البيانات الضخمة
لتحديد وبناء كل جانب من جوانب استراتيجيتهم في الحملة، وكذلك لتعبئة الناخبين
وإقناعهم بتقديم الدعم لأوباما خاصة في فترات الحوار السياسي في المجتمع السابقة
على الانتخابات، بما مثل حقبة جديدة من الحملات السياسية أداتها الذكاء الاصطناعي،
عرج آخرون على استغلالها بعد النجاح الملحوظ الذي حققه بفوز أوباما في الانتخابات.
وتم استخدامه من قبل الراغبين في خروج بريطانيا من
الاتحاد الأوروبي للتأثير على إرادة الناخبين في استفتاء الخروج والدفع بها نحو
التصويت لصالح الخروج بشكل يجعل الأمر يبدو وكأنه إرادة الناخبين أنفسهم. ولكن عقب
خروج مظاهرات منددة بالخروج، وكذلك زيادة القوى السياسية –خاصة البرلمانية-
الراغبة في البقاء وليس الخروج، (1) واتهام رئيس الوزراء بوريس جونسون إياهم
بالعمل ضد الديمقراطية وضد إرادة الشعب أصبح من الأهمية إثارة تساؤلات حول ما إذا
كان الخروج هو رغبة الشعب حقًا!، وما إذا كان الاستفتاء تم بشكل نزيه وديمقراطي
كما يدعي خاصة في ظل عدم وجود حالات تزوير فيه!، وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يخرج
المواطنون الآن مطالبين بالبقاء؟ لماذا تحول بعض المحافظون إلى تأييد البقاء وليس
الخروج؟ كل هذا دفع نحو القول باحتمالية تأثير الذكاء الاصطناعي المستخدم على
عملية الاستفتاء.
الذكاء الاصطناعي والديمقراطية
يُعد الذكاء الاصطناعي أداة متطورة للغاية تستخدم في عدة
سياقات منها السياق الديمقراطي، عبر أساليب معقدة تستطيع تحليل مجموعات كبيرة من
البيانات عن عامة السكان، على غرار الاستطلاعات، تسعى إلى اكتساب المعرفة حول
الناخبين وتفضيلاتهم وتصرفاتهم ومعتقداتهم ومواقفهم، ولكن الذكاء الاصطناعي بخلاف
الأدوات التقليدية، أكثر دقة وشمولًا، وأكثر قدرة على استنتاج معلومات عن الناخبين
مما كان ممكنًا في السابق. فيُمَكِن استخدام التعلم الآلي المحللين من الوصول إلى
معلومات مفصلة ودقيقة عن الناخبين. لا تستند هذه المعرفة إلى المعلومات الجغرافية
والديموغرافية فحسب، بل تعتمد أيضًا على ما يُسمى بالمعلومات النفسية، وهو تقدير
أكثر تفصيلًا وشمولًا للسمات الشخصية للناخبين.
تأسيسًا على ذلك يؤدي امتلاك المقدرة على استخدام
تطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى اختلال توازن القوى بين المرشحين بما يؤثر سلبًا على
ديمقراطية الانتخابات من منطلق أن القدرة التنافسية على قدم المساواة للحصول على
دعم الناخبين باعتبارها أحد المكونات المركزية للانتخابات الديمقراطية أضحت معرضة
للتهديد نظرًا لامتلاك بعض المرشحين دون الآخرين تلك الأداة بما يمكنهم من التأثير
على الموضوعات محل النقاش العام وكذلك على مواقف الناخبين مقارنة بأولئك الذين
يستخدمون إعلانات تقليدية، كما يمكنهم استخدام الذكاء الاصطناعي –من خلال عمليات
المحاكاة والتغذية العكسية في الوقت الفعلي- اختبار الاستراتيجيات والرسائل
الإعلاني التي تلقى صدى أفضل مع الجمهور المستهدف وتعديلها وتحسينها باستمرار، وهو
ما يمثل تهديدًا آخر للعملية الديمقراطية حيث يوجه المشرح النقاش السياسي إلى ما
يفضله هو بغض النظر عن مدى نفعه للصالح العام.
بالإضافة لما سبق، يؤثر الذكاء الاصطناعي بهذه الكيفية
على شفافية ونزاهة الانتخابات، حيث يمكن استخدامه للتضليل والتلاعب وتشويه الخصوم
من خلال الإعلانات المروجة لمعلومات سياسية مضللة تحفز المتلقي-الناخب- على
الاقتناع بها خاصة أن سلوك التصويت لا يتم تحديده دائمًا من خلال التفكير المنطقي في
المعلومات المتاحة، ولكن في أشياء مثل التعرف الإيديولوجي والاختصارات الإدراكية. وهو
ما يمثل نقطة ضعف في الفكرة الديمقراطية ويمنح المرشحين إمكانية التأثير على الناخبين،
ليس على أساس ادعاءات واقعية، ولكن على جاذبية عاطفية، وما شابه. ويُحدث التعلم الآلي
فرقًا مهمًا في هذا الصدد، نظرًا لقدرته المعقدة على معرفة الناخبين واستهدافهم بشكل
فعال. وبالتالي، فإنه سيعيق إمكانية الفهم المستنير والتفكير المنطقي.
ويمكن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي أيضًا لعزف
الناخبين عن الإدلاء بأصواتهم إما لقمع الناخبين الذين يُعتقد أنهم يدعمون الخصم
أو لمنع بعض الجماعات من الحصول على نفوذ سياسي، وبشكل أكثر سرية من ذي قبل، من
خلال التأثير على مشاعر الناخبين وحالتهم المعرفية التي تم تحليلها مسبقًا
باستخدام التعلم الآلي، بما يمكن من إيجاد طرق غير مباشرة لعزف الناخبين، وخفض
إقبالهم على التصويت.
الذكاء الاصطناعي واستفتاء البريكست
في 23 يونيو 2016، صوت الشعب البريطاني للخروج من الاتحاد
الأوروبي. أنتج هذا القرار المفاجئ مجموعة واسعة من النظريات التي تحاول تفسير هذه
النتيجة، بدءً من الانطباعية الثقافية التاريخية العميقة الجذور؛ احتجاج ديمقراطي شعبي
لاستعادة السيادة الوطنية؛ تعبير عن المشاعر المناهضة للهجرة لمجرد كونه أحد أعراض
الموجة اليمينية التي اجتاحت السياسة الأوروبية بشكل عام...الخ. ومن الأسباب
المفسرة أيضًا استخدام الراغبين في الخروج من الاتحاد الأوروبي الذكاء الاصطناعي
في حملتهم السياسية لترجيح كفة الخروج من الاتحاد على كفة البقاء، سواء من خلال
التأثير على الناخبين لدعم ذلك الهدف أو من خلال خفض إقبالهم عن الاستفتاء، حيث إن
جزءًا كبيرًا من السكان في المدن الكبرى بالمملكة لم يصوتوا. جدير بالذكر أن
الذكاء الاصطناعي تم استخدامه من قبل 3 فواعل للتأثير على استفتاء الخروج من
الاتحاد الأوروبي، الأول هي شركة كامريدج أناليتيكا (Cambridge Analytica)، والثاني هم وسائل التواصل الاجتماعي المستخدمة من قبل مؤيدو
الخروج، والثالث هم الأطراف الأجنبية.
فقد أكدت عدة تحقيقات أن شركة كامريدج أناليتيكا -التي
تستخدم تحليل البيانات الضخمة لتوجيه الحملات السياسية- كانت عاملًا رئيسيًا في
نتيجة التصويت لصالح الخروج. فقد نفذت ما يُطلق عليه استراتيجية الاستهداف، من خلال
جمع كميات هائلة من المعلومات حول الشعب البريطاني، ليس فقط من وجهات نظرهم السياسية
المعلنة، ولكن أيضًا من مجموعات بيانات المستهلكين ووسائل التواصل الاجتماعي. وباستخدام
معلومات من فيسبوك وتفاعلات وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى والتحليل من خلال تقنيات
التعلم الآلي، تمكنوا من إجراء ما يسمى بالتوصيف البيولوجي النفسي الاجتماعي على المستوى
الفردي، وتعديل حملتهم وفقًا لذلك. جدير بالذكر أن التوصيف البيولوجي النفسي الاجتماعي
هو طريقة تم تطويرها فيما يُسمى بالحرب المعرفية، ويتم التعبير عنها أحيانًا بمفهوم
"كسب القلوب والعقول"، ويستخدم لتغيير الروايات والمواقف والتوجهات السياسية
للأفراد. وباستخدام أداة الذكاء الاصطناعي تم بناء حملة استهدفت الناخبين الأفراد
بطرق محددة، تحولت من مجرد حملة من إعلانات ودعاية انتخابية مبنية على المعلومات إلى
حملة تهدف إلى إطلاق ردود انفعالية، وهو ما يكون أكثر نجاحًا في إقناع الناخبين.
مرت عملية وضع هذه الحملة بثلاثة مراحل: الأولى جمع معلومات عن الأفراد باستخدام
اختبارات الشخصية عبر الانترنت، الثانية جمع هذه المعلومات مع معلومات من الوسائل
الاجتماعية وقواعد بيانات المستهلك في قاعدة بيانات واحدة، والثالثة تحليل قاعدة البيانات وإنتاج دعاية فردية مصممة
خصيصًا للمستقبِل. (2)
بجانب الدور الذي قامت به شركة كامريدج أناليتيكا، قد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا رئيسيًا أيضًا في دعاية الخروج من الاتحاد الأوروبي لا يختلف عما قامت به الشركة، مثلما تلعب دورًا في الحياة اليومية للأفراد عن طريق التحكم في المعلومات التي تعرض عليهم، السلع والمنتجات التي يجب شراؤها، وحتى الأفكار السياسية الواجب تأييدها، وهو ما أكده بولونسكي في الدراسة التي قام بها لتحليل تفاعل الأشخاص على وسائل التواصل الاجتماعي أثناء حملة الخروج من الاتحاد. فقام بولونسكي بإنشاء تصور للـ Hashtags المتعلقة بالبريكست (كما هو موضح بشكل 1) وأوضح من خلاله أن النقاش عبر وسائل التواصل حول البريكست كان مستقطبًا للغاية، بالكاد يتفاعل المعسكران -معسكر الخروج، ومعسكر البقاء-، ويُظهر تحليل بولونسكي أيضًا أن معسكر الخروج كان أكبر وأكثر تنظيمًا في اتصالاته من معسكر البقاء. (3)
يُضاف للسابق، احتمالية وجود تدخلات أجنبية وبشكل أساسي
"روسيا" في استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي باستخدام تقارير إخبارية
متحيزة تنتجها شركات إعلامية مرتبطة بالدولة الروسية مثل آر تي، وسبوتنك نيوز، أو
باستخدام الروبوت، أو البرمجيات المصممة
لمحاكاة السلوك البشري عبر الانترنت للتأثير على الخطاب السياسي واستقطاب النقاش.
هذا أكده تقرير مجلس العموم البريطاني الذي نص على عدم استبعاد احتمال وجود تدخل
أجنبي باستخدام الروبوتات للتأثير على نتيجة الاستفتاء. (4) وأشار
التقرير إلى أن فهم المملكة المتحدة للسيبرانية يعتمد على الانترنت والكمبيوتر في
حين تستخدم روسيا والصين نهجًا إدراكيًا قائمًا على فهم علم النفس الجماهيري
وكيفية استغلال الأفراد، وهو ما دفعهم في نهاية التقرير إلى التوصية بضرورة مراجعة
استراتيجية الأمن السيبراني فيما يتعلق بالانتخابات.
في الختام، يمكن القول إن الذكاء الاصطناعى أثر على ديمقراطية استفتاء البريكست من خلال عدة طرق؛ أولها أنه ساهم في زيادة تركيز السلطة في أيدي أقلية مؤيدة للخروج من الاتحاد الأوروبي تمكنت بواسطته من فرض إرادتها، وكذلك المساهمة في زيادة الاستقطاب في النقاش من خلال خوارزميات الاستهداف التي ساعدت على التجزئة والعزلة بما خدم المجموعات المتطرفة اليمينية لأن هذا دفع الناخبين إلى الاقتراب منهم. وقد ساهمت شبكات الروبوت المستخدمة في دفع خطابات داعمة للخروج في النقاش العام من خلال جعل بعض الأخبار تتحول إلى فيروسات وأدوات لاستهداف مجموعات محددة بهذه الأخبار ودفعها لمشاركتها والتفاعل معها. كما أدت تطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى وصول معلومات مضللة للأفراد حول جدوى الخروج، وهو ما يؤثر سلبًا على ديمقراطية الاستفتاء لكون المعرفة وفقًا لشومبيتر- في عنصر أساسي في العملية الديمقراطية. هذا التضليل لم يؤدي إلى زيادة قوة معسكر الخروج فحسب بل أنه حد من فهم المواطنين لآثار السياسية والاجتماعية والاقتصادية للخروج. وقد مكنت خورزمات التعلم الآلي من التنبؤ والتأثير في سلوك وتفضيلات الأفراد السياسية ومعتقداتهم وسماتهم بما ساعد على تصميم حملات توجههم لتأييد الخروج.
الهوامش:
(1)
" نكسة جديدة لجونسون..
والأخير متفائل"، العربية، 15 سبتمبر 2019، متاح على الرابط التالي:
(2) Carole Cadwalladr, “Robert Mercer:
the big data billionaire waging war on mainstream media”, The Guargian,
26 Feb 2017, available at: https://bit.ly/2lcD3Is ؛Carole Cadwalladr, “The
great British Brexit robbery: how our democracy was hijacked”, The guardian,
7 May 2017, available at: https://bit.ly/2pORice .
(3)
Vyacheslav Polonski, “Analysing the social media voices of the UK’s EU
referendum”, Medium, 15 May 2016, available at: https://bit.ly/2lUYhAA
.
(4) House of Commons, “Lesson Learned from the EU Referendum” , Public Administration and Constitutional Affairs Committee, 2017, Twelfth Report of Session 2016 – 2017, p.5.