يشغلنا جميعاً هَم التواصل المصري مع القارة السمراء التي تعتبر أحد أهم مكونات الهوية المصرية واحد مرتكزات المشترك التاريخي المصري منذ الفراعنة حتى يومنا هذا وتكلل الأمر برئاسة سيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي للاتحاد الأفريقي بعد فترة طويلة وبعد ممانعة عقب ثورتين متتاليتين. ومع هذا الحرص يأتي أمامنا دوما تحدي التكلفة خاصة إذا تحدثنا عن التواصل والقوى الناعمة المصرية في ظل نشاط كبير لبعض القوى المناوئة لمصر التي تنشط بقوة داخل القارة السمراء كقطر وتركيا وإسرائيل وإيران وغيرها.

                وجميع تلك القوى سواء كانت متصادمة أو منافسة للدور المصري لكنها تجيد استخدام منافذ القوى الناعمة. وما سأطرحه اليوم خلال هذا المقال هو أمر مفاجئ لي بالفعل واعتقد أنه مفاجئ لكثيرين من محبي الوطن.

                كان لي شرف تمثيل مصر في أحد مؤتمرات آلية النظراء الأفارقة التابعة بالاتحاد الأفريقي بمدينة مومباسا في كينيا ووجدت بالصدفة خلال مشاهدتي للتلفاز قناة "المصرية" –أحد القنوات الفضائية المصرية- تعرض داخل الفندق بجودة عالية 24 ساعة يوميا دون توقف او انقطاع. ورغم زيارتي لنيروبي منذ ستة أشهر لكنني لم أجد أية قناة مصرية وما وجدته فقط كانت قناة الجزيرة التي تعرض لمدة ساعتين فقط باللغة الانجليزية حيث تشتري ساعتين للبث على أهم القنوات الكينية المحلية الأكثر صيتاً. ولكن وجود المصرية على تلفاز الفندق أمر أثار دهشتي وخلال الزيارة حاولت الإجابة على عدد من التساؤلات:

§       هل الفندق يعرض القناة لان أحد مالكيه يدين بالإسلام؟

§       هل الفندق الذي كنت أقيم به هو الفندق الوحيد في مومباسا الذي يعرض المصرية؟

§       هل المواطنين الكينيين بمومباسا يشاهدون القناة؟ ولماذا إن صح ذلك؟

§       ما تكلفة وصول القناة للمنازل بمومباسا؟

                قبل إجابتي على هذه التساؤلات المهمة يجب أن أطلع القارئ على ما تمثله مومباسا من مقومات مهمة حيث تعد ثاني أكبر مدينة في كينيا بعد العاصمة نيروبي، يبلغ عدد سكان مدينة مومباسا 939,370  نسمة حسب إحصائية عام 2009 . ويمثل المسلمون أغلبية السكان؛ حيث يبلغ عددهم 338,701، وترتدي نساء المسلمين الحجاب الإسلامي وبعضهن يلبسن النقاب. هنا يتضح أنها تحمل مقومات مهمة يمكن استثمارها في ظل وجود المسلمين كأغلبية داخل المدينة والتزامهم بتعاليم الإسلام وإقامة شعائره واحترامهم لمقدستنا الإسلامية من الأزهر الشريف ومساجد آل البيت.

هنا ستكون الإجابة على التساؤلات أكثر منطقية لربطها بعد ذلك بما يمكن وما يقتضي الاطلاع به:

§       أغلب الفنادق بمومباسا تعرض لقناة المصرية داخلها؛ فالأمر لا يتعلق بديانة مالكي الفندق، مع العلم أن مومباسا مدينة سياحية تعج بالفنادق ويأتي إليها السياحة من كل حدب وصوب.

§       السبب الذي نمى لعلمي ببث المصرية داخل الفنادق هو وجود سياحة عربية وإسلامية تأتي إلى مومباسا.

§       أما بشأن السكان فكانت المفاجأة أن الغالبية المسلمة تشاهد القناة المصرية بسبب رغبتهم في مشاهدة قنوات اسلامية تحترم شعائر الدين وتبعد عن الإباحية التي يحرمها الدين خاصة أننا نمتلك الأزهر الشريف.

§       ويشاهدون القناة عبر ضبط ترددها خلال ريسيفر التلفاز ، إذاً فالأمر غير مكلف للأسر بمومباسا.

                هنا سنتساءل إذاً، هل بوجود القناة المصرية يمكننا أن نكون مؤثرين إعلامياً؟ هنا الأمر له شقين للإجابة في هذا الشأن:

§       جودة القناة المصرية التي تبث

§        القنوات الإسلامية المناوئة الأكثر صيتاً

                للأسف القناة المصرية بمشاهدتي لها بمومباسا لا تقدم مادة جذابة وإنما شعرت بمشاهدتي لها بأنني أشاهد أحد القنوات الإقليمية المغمورة التي تفتقر لمادة علمية وإعلامية وإعلانية تجذب المشاهد خاصة وإن كان من خارج حدود الوطن.

                القنوات المناوئة تأتي في مقدمتها الجزيرة القطرية للأسف، حيث يعتبرها مواطني مومباسا رقم واحد ويشاهدها المسلمين والمسيحيين ورغم إطلاع قطر في أعمال إرهابية ضد العديد من الدول الأفريقية وبثها لبعض البرامج المسيئة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) بل وللفظ الجلالة عز وجل ولكنها تمتلك الأدوات الأكثر جذباً.

                إذاً، هنا المحك ليس التكلفة ولكن جودة ما يقدم الذي يمكننا العمل عليه. الأمر الذي لا يجب قصره على مومباسا فقط ولكن علينا كباحثين ومخططين النظر بشكل أكبر للقارة ككل وخارجها وإن كان يعنيني في هذا المقال القارة السمراء بالأساس، بمعنى قد يكون في أماكن تجمعات المسلمين في الدول الأفريقية المختلفة قنوات مصرية أخرى يصل بثها إليها، الأمر الذي يحتاج إلى عمل أبحاث سوق market researches للتأكد من صحة المعلومة وماهية القنوات التي تصل إلى هناك، وهنا سأطرح عدد من محاور العمل المهمة التي ينبغي العمل في إطارها من أجل فاعلية وتأثير أكبر:

§       رؤية تطوير القنوات الفضائية المصرية: يجب التأكيد من النظر إليها ليس باعتبارها قنوات محلية وإنما هي بالفعل قنوات فضائية تصل لأماكن ودول مختلفة فيجب أن تليق بصورة مصر. باعتبارها أحد أدواتها الناعمة للتأثير والتواصل.

§       طبيعة البرامج التي تبث: يمكن تطويرها في إطار عدد من المحاور:

·       برامج دينية إسلامية كبرنامج فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي فهو يبث بالفعل ولكنه باللغة العربية فيمكن ترجمة حلقاته ليشاهدها الجميع، وتخصيص قدر أكبر لأئمة الأزهر الشريف مع الحرص على الترجمة الانجليزية لتقدم صورة عن الإسلام الوسطي السمح الذي تقدمه مصر. ويمكن أيضاً عرض برنامج لفضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب الأمر الذي سيكون له كبير الأثر في نفوس المسلمين.

·       برامج دينية مسيحية: الكنيسة المصرية لها دور كبير خاصة إذا نظرنا للكنيسة الإثيوبية والعلاقات الممتدة ويمكن بوجود برنامج يخاطب المسيحيين يقدم من قبل نيافة البابا تواضرس الثاني مع الحرص على ترجمته. الأمر الذي سيكون له كبير الأثر في اجتذاب المسيحيين بالدول الأفريقية مثلاً.

·       نشرة الأخبار باللغة الانجليزية والفرنسية: قديما كانت القناة الثانية المحلية تحرص على تقديم النشرة باللغتين المذكورتين والآن اقتصر الأمر على النايل تي في Nile Tv - في ظل ما تعانيه من مشاكل كبيرة في الجودة-. هنا يمكن بث نشرة أخبار كل ساعة باللغتين الفرنسية والانجليزية بجانب العربية، لأن ما يقدَّم من أخبار خارج مصر أمر مغلوط يستهدف تشويه سمعة مصر خاصة من قبل القنوات المناوئة كالجزيرة القطرية. فعلينا واجب تصحيح صورة مصر فهو فرض عين.

·       برامج سياحية عن جمال مصر والحضارة المصرية القديمة والانجازات والأماكن السياحية الممكن زياراتها.

·       انتقاء الدراما التي تقدم عن مصر فيجب الابتعاد عن الأفلام والمسلسلات الهابطة التي تقدم المرأة المصرية كسلعة، والتي تقدم صورة العشوائيات والتدهور الأخلاقي الذي حرص على تقديمه بشكل مخزي من قبل بعض المخرجين والمنتجين دون وعي بتبعات ذلك على صورة مصر الداخلية والخارجية وساهموا في فساد أجيال كاملة.

·       نقل حفلات من الأوبرا المصرية تعكس جودة الذوق العام خاصة الحفلات التي تقام بالشراكة مع فرق أجنبية.

·       برامج توك شو تعكس حقيقة القوة المناوئة لمصر بالوثائق والمستندات في إطار الحرب الإعلامية ونقل الحقيقة ومحاربة الشائعات، هنا استحضرني مثال إذا استطاعنا نقل تصريحات السفير القطري بتمويل العمليات الإرهابية بعدد من الدول الأفريقية وترجمة التصريح باللغات المختلفة على القنوات الفضائية المصرية سنستطيع بالأدلة البرهان عن حقيقة هذه القوى الداعمة للإرهاب خاصة أن الدول الأفريقية تعاني من ضربات إرهابية موجعة من حركات إرهابية مدعومة من قطر بشكل مباشر وغير مباشر -وكانت كينيا ذاتها يوماً ما أحد أهم أهداف تلك الجماعات وخاصة من تنظيم القاعدة-، الأمر الذي يقتضي رفع الوعي بمثل هذا الدور المخرب بالدول الأفريقية، وهو ما قد يساهم في تقويض هذه الأداة الأكثر انتشارا لقطر بالقارة الأفريقية.

·       نشر الفرص والإعلان عن البعثات التي تقدمها الجهات المصرية للوافدين من الخارج كبعثات الأزهر الشريف على سبيل المثال حيث تعاني من وفرات دائما فنسبة الإشغال اقل من المطروح وقد يكون السبب بعد السفارات المصرية عن أماكن تواجد المسلمين خارج العاصمة، الأمر الذي يحتاج لأداة للنفوذ والترويج وستكون تلك القنوات المصرية مرتكز جيد يمكن الاعتماد عليه.

                وختاماً، أعتقد أننا بحاجة إلى إعادة النظر إلى المحتوى المقدم عبر قنواتنا الفضائية التي بوصولها للدول الأفريقية قد وفرت أموال طائلة كانت ستنفق لإقامة قناة تصل لدول القارة الشقيقة الأمر الذي يعد فرصة في حد ذاته يجب الاستثمار فيها وعدم إضاعتها. فهي مدخل مهم للقوى الناعمة المصرية.