كسب السلام في العراق .. لا تستسلم للديمقراطية الهشة في بغداد
تعتبر
الحرب الأمريكية في العراق بمثابة تجربة سيئة لواشنطن، فعندما غزت الولايات المتحدة
البلاد عام 2003 وأطاحت بنظام صدام حسين في غضون أسابيع رأى كثيرون أن الحرب هي
محاولة ضرورية لوقف انتشار أسلحة الدمار الشامل، التي كان "صدام" يطورها، وبحلول الوقت، انسحبت القوات الأمريكية من
العراق في عام 2011، إلا أن الاحصائيات الرسمية أشارت إلى أن كلفة الحرب الامريكية
على العراق بلغت 731 مليار دولار، فيما قتل ما لا يقل عن 110000 عراقي وحوالي 5000
جندي أمريكي.
أدت تلك
الخسائر، إلى إثارة حالة من الغضب إزاء الولايات المتحدة بلغت ذروتها عندما استولت جماعة تنظيم الدولة
الإسلامية " داعش" على مساحات شاسعة من الدولة العراقية، بعد الاوضاع
الامنية الهشة التي أصبحت تعاني منها البلاد عقب الغزو.
فمعظم الأميركيين الذين ذهبوا إلى العراق
يتذكرون السيارات المفخخة والشوارع المبطنة بجدران الانفجار الإسمنتية التي يبلغ
ارتفاعها 10 أقدام، فبالنسبة لأولئك الذين لم يسبق لهم مثيل فإن العراق ليس مكانًا
أكثر من كونه رمزًا للعنف الإمبراطوري - خطأ مأساوي يفضلون نسيانه.
لكن
العراق اليوم بلد مختلف، حيث إن القليل
من الأمريكيين يفهمون النجاح الملحوظ لعملية "الحل المتأصل"، ففي الحملة
الأمريكية لهزيمة داعش تم تقديم حوالي 7000 جندي أمريكي و 5000 آخرين من 25 دولة
في التحالف المناهض لتنظيم الدولة الإسلامية دعمًا للجيش العراقي والشركاء
المحليين في سوريا، الذين حاربوا لتحرير مدنهم ومحافظاتهم من قبضة داعش الوحشية، وبحلول
الوقت الذي طردت فيه هذه القوات المدعومة من الولايات المتحدة (داعش) من معقلها
الإقليمي الأخير - في سوريا - في مارس من هذا العام، كانت الحملة قد حررت 7.7
مليون شخص بتكلفة متواضعة نسبيًا بلغت 31.2 مليار دولار، فاليوم المدارس العراقية
مفتوحة، والحياة الليلية في بغداد نابضة بالحياة، وتمت إزالة نقاط التفتيش الأمنية،
وفي مايو الماضي، أجرت البلاد انتخابات برلمانية حرة ونزيهة إلى حد كبير، فسكانها
شباب تطلعي، وحكومتها عادت إلى أقدامها.
لدى
الولايات المتحدة فرصة لتحويل هذا الزخم إلى مكسب جيوسياسي طويل الأجل، ولكن لسوء
الحظ يشعر الكثير من الأميركيين بالضجر الشديد من تدخل بلادهم في العراق لدرجة
أنهم فشلوا في إدراك الفرصة لإحراز نتيجة إيجابية هناك أفضل بكثير مما كان أي شخص
يأمل في تحقيقه حتى قبل بضع سنوات، وفي الوقت نفسه، يركز الكثير من المسؤولين
الأمريكيين على التعامل مع العراق باعتباره ساحة لمحاربة إيران، حيث يجادلون بأنه
في أعقاب هزيمة داعش أصبح العراق حليفًا غير موثوق به وحتى وكيلًا لطهران، والأسوأ
من ذلك أنهم على استعداد للتضحية بالعلاقة الأمريكية مع بغداد - وتعريض النجاح
النسبي الذي أصبح عليه العراق للخطر - في خدمة حملتهم "للضغط الأقصى" ضد
إيران.
ومن
الخطأ قطع الدعم الأمريكي في حالة تمكن بغداد من تحقيق قدر ضئيل من الاستقرار، حيث
من شأنه أن يخاطر بالمكاسب التي تحققت بشق الأنفس في السنوات الأخيرة، وخاصة خلال
عملية الحل المتأصل، وسياسة المواجهة الأمريكية تجاه العراق من شأنها أن تثير غضب
الطائفية في اللحظة التي تظهر فيها البلاد كدولة ديمقراطية غير طائفية مستقرة،
والأسوأ من ذلك أنها ستقوي يد إيران في العراق وتزود داعش بالفرصة التي يحتاج
إليها لإعادة البناء، فالطريقة الوحيدة التي تستطيع بها الولايات المتحدة تحقيق
أهدافها – والتي تتمثل في منع عودة داعش وإنهاء أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في
العراق - هي العمل من خلال بغداد ومعها.
أمل جديد
يبدو
مستقبل العراق أكثر إشراقًا اليوم مما كان عليه في أي وقت خلال العقد الماضي، حيث يمكن
أن يعزى تقدمها إلى حد كبير إلى عاملين: التطور الحديث للبلاد بعيدًا عن الطائفية
الشيعية – السنية- وانتصار التحالف على داعش.
حيث شهدت
الانتخابات البرلمانية في العراق عام 2018 مرحلة نضوج من الديمقراطية العراقية، وكانت
هذه الانتخابات الأولى التي طغت فيها الطائفية على قضايا الحكم الرشيد ومخاوف
العراقيين اليومية، إذ شكلت مجموعة من الأحزاب ائتلافات طائفية أو غير طائفية
للتنافس على الأصوات – حسب أيهما أكثر هيمنة – كما أنتجت الانتخابات عددًا من
الكتل البرلمانية التي يجب أن تتفاوض فيما بينها لإنجاز أي شيء، وتعتمد الحكومة
الحالية على الإجماع، ويقودها سياسيان لهما تاريخ في العمل مع الولايات المتحدة،
وهما: رئيس الوزراء "عادل عبد المهدي" والرئيس "برهم صالح"، فعندما
تولت الحكومة السلطة في أكتوبر 2018، كان ذلك بمثابة انتقال السلطة السلمي الرابع
على التوالي في العراق.
كانت
انتخابات 2018 دليلًا على أولويات العراقيين، وكان التحالف الذي فاز بأكبر عدد من
الأصوات، وهو تحالف سايرون (نحو مسيرة الإصلاح)، بقيادة أتباع رجل الدين الشيعي "مقتدى
الصدر" - الزعيم السابق لميليشيا
قاتلت القوات الأمريكية من 2004 إلى 2008 - حيث كان قوميًا صريحًا يريد ضمان
استقلال العراق عن كل من واشنطن وطهران، ومع اعتبار الكثير من العراقيين أن النفوذ
الإيراني الزاحف اليوم يمثل إهانة لسيادة بلادهم، حيث وضع الصدر بشكل مقنع خلال
حملته كتلة التكتل كبديل مستقل عن الكتلة التي يقودها رئيس الوزراء السابق حيدر
العبادي (والذي كان يعتبر مؤيدًا للغاية الأمريكية) والواحد بقيادة هادي العامري
(الذي كان يعتبر قريبًا جدًا من إيران).
والأكثر
أهمية من تأكيد الصدر على الاستقلال كان قراره بالدفاع عن قضايا الاقتصاد والحكم
بالخبز والزبدة، إذ يتمتع الصدر منذ فترة طويلة بالدعم بين الشيعة الفقراء بفضل
سنواته التي قضاها في المطالبة بتحسين الخدمات العامة وقمع الفساد في العراق، فعلى
الرغم من أن الكثير من العراقيين يستفيدون من رعاية الأحزاب الراسخة - حوالي 60 في
المائة من العراقيين العاملين في الرواتب العامة - إلا أنهم سئموا من السياسيين
الذين يقومون باستيلاء ملايين الدولارات من خزائن الدولة، وإدراكاً منه لهذا
الإحباط، دعا الصدر إلى إزالة المسؤولين الفاسدين وتطوير الخدمات العامة، وخاصة
الكهرباء، وبعد الانتخابات أصر على تعيين وزراء حكوميين يتمتعون بالكفاءة الفنية
بدلًا من السياسيين كشرط لدعمه للحكومة.
انتقل
الطلب حاليًا إلى تحسين الحكم وذلك بعد أن خرج العراق أخيرًا من معركته الشرسة
التي استمرت خمس سنوات ضد داعش، حيث في عام 2014، اجتاحت المجموعة الإرهابية شمال
وغرب العراق، واستولت على ما يقرب من ثلث أراضي البلاد، بما في ذلك الموصل - ثاني
أكبر مدنها- وتأكلت القوات العسكرية وقوات الشرطة العراقية بسنوات من التدخل
السياسي والفساد وتفككت كلها في وجه هجوم داعش، فرحب بعض السنّة، الذين عزلتهم
سنوات من الحكم الطائفي في عهد رئيس الوزراء الشيعي "نوري المالكي"،
بقوات داعش كمحررين، وبحلول صيف عام 2014، كان الكثيرون يخشون أن تأخذ الجماعة
بغداد.
يبدو
مستقبل العراق أكثر إشراقًا اليوم مما كان عليه في أي وقت خلال العقد الماضي، فبعد
أن شعر بالقلق من تقدم داعش، كانت إيران أول دولة تقدم مساعدات لبغداد، وبحلول
يونيو، كانت قد بدأت في إرسال المساعدات والمعدات والمستشارين من قوة القدس - وهي
وحدة من الحرس الثوري الإسلامي- ثم في سبتمبر 2014، تنحى المالكي لصالح العبادي (الموالي
للولايات المتحدة)، وعمل العبادي على تهدئة المخاوف السنية من الاضطهاد، وفي نفس
الشهر، شكلت الولايات المتحدة تحالفًا عالميًا لهزيمة داعش، إذ قدمت واشنطن
وشركاؤها في التحالف مساعدة عسكرية للعراق في شكل تدريبات، ومعدات، ومستشاري ساحة
المعركة، والقوات الجوية، لكن العراقيين هم الذين قاموا بالقتال.
في الحقيقة
كان تقديم العراقيين معظم القوات لهزيمة داعش في العراق ضروري لاستعادة معنويات
البلاد، حيث تلقت الحكومة مساعدة خارجية - الميليشيات الشيعية العراقية المدعومة
من إيران- وأصبح قاسم سليماني - قائد قوة القدس- في كل مكان في العراق خلال الحرب،
ومع ذلك فإن المكاسب العسكرية الرئيسية في حملة مكافحة داعش تم تحقيقها، بمساعدة
التحالف من قبل الجيش العراقي وخاصة دائرة مكافحة الإرهاب العراقية - وهي قوة غير
طائفية تمولها وتدربها وتدعمها الولايات المتحدة منذ عام 2003.
تقدم مستمر
لقد هزم
العراق داعش في ساحة المعركة لكنه لم يفز بعد بالسلام، حيث تواجه البلاد الآن مهمة
ضخمة لإعادة الإعمار، وأعادت الحكومة العراقية بمساعدة برنامج الأمم المتحدة
الإنمائي والتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الخدمات الأساسية إلى أماكن مثل
شرق الموصل، التي دمرها القتال العنيف في عامي 2016 و2017، لكن غرب الموصل ومناطق
أخرى ما زالت تشبه مدن أوروبا التي تعرضت للقصف في نهاية الحرب العالمية الثانية.
على الرغم من حصول العراق، في مؤتمر
دولي للمانحين العام الماضي، على حوالي 30 مليار دولار من المساعدات، والقروض، والائتمان،
إلا أن الحكومة قدرت أن الانتعاش وإعادة البناء قد يكلفان ما يصل إلى 88 مليار
دولار، وستستغرق المهمة عقدًا أو أكثر، بشرط أن تظل الحكومة العراقية والمانحون
الدوليون ملتزمين بإعادة بناء المناطق السنية، حيث بدون تقدم ثابت في هذا الجهد
سوف يتضاءل الأمل وينمو السخط، وبالفعل هناك دلائل مقلقة على أن زخم ضمان استقرار
العراق وأمنه قد بدأ يتعطل، ويمكن أن يبشر ذلك بالعودة إلى تمرد كامل.
منذ سنة
ونصف منذ كانون الأول / ديسمبر 2017، عندما أعلن العبادي تحرير العراق من داعش عاد
ثلاثة ملايين من المشردين داخليًا إلى ديارهم في العراق، لكن 1.6 مليون عراقي - معظمهم
من السنة - ما زالوا مشردين، وتقدر المنظمة الدولية للهجرة أن معظم النازحين
الباقين ظلوا على هذا الحال منذ أكثر من ثلاث سنوات، إذ يتم تجنّب العديد من هؤلاء
الأشخاص من قِبل إخوانهم العراقيين، الذين يشتبهون في قيامهم بدعم داعش.
ويكمن
الخطر في أن التوترات الناجمة عن ذلك قد تؤدي إلى إشعال النـزاع الطائفي، مما يؤدي
إلى عودة السنة الساخطين - خاصة النازحين بشكل دائم - إلى أحضان داعش، حيث بدأت
المجموعة بالفعل في الاستيقاظ، إذ يعود المقاتلون السابقون إلى ديارهم، ويشكلون خلايا
نائمة في المدن أو يخلقون ملاذات ريفية آمنة في الصحاري العراقية والسورية، فعلى
الرغم من أن هجمات داعش قد انخفضت منذ تدمير الخلافة الإقليمية، إلا أن الجماعة تدعي
أنها تنفذ عدة هجمات تتسبب في حوالي 300 ضحية كل أسبوع، معظمها في العراق وسوريا،
وهي حصيلة توازي تقريبًا تلك التي رصدها المراقبون الخارجيون.
هبوط الضغط
على
الرغم من التقدم الذي أحرزه العراق في السنوات الأخيرة، إلا أنه في موقف دقيق، حيث
ينبغي على الولايات المتحدة أن تفعل ما في وسعها ليس فقط لضمان الهزيمة الدائمة
لداعش ولكن أيضًا لمساعدة بغداد في العمل الصعب المتمثل في إعادة الإعمار، فمنذ
انتخاب دونالد ترامب في عام 2016، أصبحت السياسة الأمريكية تجاه العراق تصادمية
على نحو متزايد، حيث جعلت الإدارة من العراق ساحة قتال مركزية في معاركه مع إيران.
لقد قدم
ترامب للعراق مطلبين سيكون من الصعب على البلاد الوفاء بهما، حيث أمرت واشنطن
العراق، في نوفمبر 2018 - كجزء من سياسة العقوبات - بالكف عن استيراد الكهرباء
والغاز الطبيعي (الذي يستخدم في توليد الكهرباء) من إيران، فمن حيث المبدأ تكون
بغداد موافقة على هدف تحقيق استقلال الطاقة، لكن في الممارسة العملية يتلقى العراق
حاليًا حوالي 40% من إمدادات الكهرباء من إيران، وكما أوضح لؤي الخطيب، وزير
الكهرباء العراقي، للمسؤولين الأمريكيين في ديسمبر / كانون الأول، أن إيجاد مصادر
بديلة للطاقة سيتطلب إعادة بناء شبكة الكهرباء العراقية المتهالكة ومعالجة الأضرار
الناجمة عن عقود من الحرب وسوء الإدارة والفساد؛ وهو مشروع يقدر أنه سيأخذ ما لا
يقل عن عامين، وأصدرت الولايات المتحدة سلسلة من الإعفاءات لمدة 90 يومًا، آخرها
في يونيو، لمنح العراق وقتًا للامتثال، لكن إذا توقفت الإدارة عن منح الإعفاءات
وتوقفت الواردات الإيرانية، فإن انقطاع التيار الكهربائي الناتج سيؤدي بالتأكيد
إلى اندلاع البصرة وغيرها من المدن العراقية في احتجاجات عنيفة مثلما فعلت في
الصيف الماضي استجابة لنقص الكهرباء.
كما
طالبت الولايات المتحدة العراق بحل عدة ميليشيات شيعية لها علاقات وثيقة مع إيران،
هذه الميليشيات ليست مشكلة جديدة، حيث في عام 2009 صنفت واشنطن أقوى ميليشيات
إيرانية - كتائب حزب الله - كمنظمة إرهابية لشن هجماتها على الجنود الأمريكيين في
العراق، وخضعت الجماعة وزعيمها أبو مهدي المهندس لعقوبات أمريكية استهدفت
المتمردين والميليشيات، لكن خلال السنوات الخمس الماضية، أصبحت القضية أكثر
تعقيدًا، ففي يونيو 2014، استجابت موجة من المتطوعين معظمهم من الشيعة لدعوة من
رجل الدين الشيعي البارز في العراق ، آية الله العظمى علي السيستاني، للمساعدة في
الدفاع عن البلاد ضد داعش، وتشكلت المئات من مجموعات الميليشيات الصغيرة، وفي عام
2016، تم الاعتراف بهذه الجماعات رسميًا بموجب القانون العراقي كقوات التعبئة
الشعبية، أو لجنة التعبئة الشعبية، وأصبح مكتب الحكومة العراقية الذي تم تشكيله
للإشراف على لجنة التعبئة الشعبية قناة للنفوذ الإيراني، حيث شغل المهندس منصب
نائب رئيس اللجنة.
ويحظر
الدستور العراقي الميليشيات السياسية - وهو بند يحظى بدعم شعبي واسع- وبالإضافة
إلى ذلك، أصدر عبد المهدي مرسومًا في يوليو 2019 يدعو جميع الكيانات الحاملة
لأسلحة إلى دمجها في القوات المسلحة؛ نظرًا لأن لجنة التعبئة الشعبية هي بالفعل
جزء قانوني من القوات المسلحة العراقية، وقد يكون هذا المرسوم بمثابة أداة لحل
الميليشيات التي تدعمها إيران - وهو ما سعى العبادي إلى فعله بأمر سابق- لكن تنفيذ
هذا المرسوم سيتطلب بناء ائتلاف قوي في البرلمان خاصة مع تولي الصدريين زمام
المبادرة.
تعد لجنة
التعبئة الشعبية قضية منفصلة ومن غير المحتمل حلها بشكل مباشر، وذلك بفضل إنجازاتها
في الحملة المناهضة لداعش، فهي تحظى بشعبية سياسية وخاصة بين الشيعة، إذ تكمن المشكلة
في أن الدور الرسمي للقوات العسكرية الإسرائيلية ضروري، ويتداخل مع دور قوة شرطة
وزارة الداخلية، التي تكافح بالفعل لجذب عدد كاف من المجندين المؤهلين، وبما أن
مقاتلي لجنة التعبئة الشعبية يتلقون نفس الأجور والمزايا التي يحصل عليها ضباط
الشرطة، فإن لديهم حافزًا ضئيلًا للانضمام إلى الشرطة الفيدرالية، ويمكن معالجة
هذه القضية على أفضل وجه بمرور الوقت، كجزء من الجهود المبذولة لإضفاء الطابع
الاحترافي على جميع القوات المسلحة في العراق.
فبدلًا
من التعامل مع زملائهم العراقيين لإيجاد حلول عملية، يبدو أن المسؤولين في إدارة
ترامب عازمون على عزلهم، حيث من الواضح أن صانعي السياسة الأمريكيين يعتقدون أن
العراقيين معادون للولايات المتحدة، ولا يشعرون بالامتنان لمساعدتها، وهم مدينون
لإيران، فعندما تحدثت الكاتبة إلى أحد الدبلوماسيين الأمريكيين مؤخرًا ، لاحظت أن
ما يقرب من ثلث البرلمانيين الحاليين في العراق قد احتجزتهم القوات الأمريكية في
وقت ما قبل عام 2011، وكان معنى ذلك أنه لا يمكن الوثوق بهم، لكن منذ عام 2003
عملت الولايات المتحدة غالبًا مع المقاتلين السابقين في العراق وشجعت على إعادة
دمجهم في السياسة الرئيسية، وكان وزير الداخلية في العبادي، قاسم الأعرجي، معتقلاً
سابقاً في الولايات المتحدة، لكنه عمل عن كثب مع التحالف الأمريكي لتنسيق حملة
مكافحة داعش، وتعاونت واشنطن مع العامري، زعيم منظمة بدر المؤيدة لإيران لسنوات.
لقد
أثارت تصريحات الإدارة وأفعالها العراقيين، وذلك ربما لتجاهل سيادتهم التي لا تزال
موضوعًا مؤلمًا لدولة غزتها الولايات المتحدة، ففي فبراير، أكد ترامب في مقابلة مع
The
Face The Nation أنه يخطط لإبقاء القوات الأمريكية في العراق
لمراقبة إيران، حيث رحبت الحكومة العراقية
بوجود القوات الأمريكية للأغراض الصريحة المتمثلة في هزيمة داعش والمساعدة في
تحسين قواتها المسلحة، لكن سياستها هي الحفاظ على علاقات جيدة مع كل من واشنطن
وطهران، واستقطب بيان ترامب التوبيخ من رئيس الوزراء العراقي ورئيسه السيستاني، ثم
في 7 مايو، قام وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بزيارة مفاجئة لبغداد، حيث
التقى مع الزعماء العراقيين وطُلب علنًا التأكيدات بأنهم سيحمون الأمريكيين من أي
نشاط عدائي، ضمنيًا من إيران، وبعد بضعة أيام، أمرت وزارة الخارجية جميع الموظفين
غير الأساسيين بمغادرة السفارة الأمريكية في بغداد بعد سقوط قذيفة هاون في مكان
قريب، ومنذ ذلك الحين، تم استهداف موقعين يتمركز فيهما أفراد أمريكيون بصواريخ، من
المحتمل أن تطلقها الميليشيات التي تدعمها إيران.
كانت
الهجمات بقذائف الهاون والصواريخ بمثابة تذكير بالأيام القديمة السيئة للاحتلال
الأمريكي، وكذلك إشارات مقلقة على أن القوات الأمريكية يمكن أن تستهدف بينما تزيد
واشنطن من الضغط على طهران، ومع ذلك، لابد من أن تعمل الولايات المتحدة مع الحكومة
العراقية - التي ترغب بشدة في تجنب المواجهة مع إيران- بدلًا من التعامل معها
بازدراء، فكان يُنظر إلى تحركات إدارة ترامب على نطاق واسع على أنها ردود فعل
مبالغ فيها من جانب الولايات المتحدة ومسؤولي التحالف في العراق، الذين ظلوا
يعملون بهدوء خلال السنوات الأربع الماضية للتخفيف من التهديد الذي تشكله
الميليشيات التي تدعمها إيران والذين يثقون في قدرتهم على حماية القوات الأمريكية،
فبالنسبة لمعظم العراقيين، وبالنسبة للعديد من مسؤولي الائتلاف أيضًا، ظهر طلب
بومبيو كرد فعل حقيقي على تهديد أمني ومحاولة غير ضرورية لإذلال بغداد.
وبذلك قد
وضعت واشنطن الحكومة العراقية في موقف صعب سوف يبدو ضعيفًا للعراقيين إذا لم يقاوم
الضرب الأمريكي، وكلما زاد موقف واشنطن في المواجهة كان ذلك مؤيدًا للولايات
المتحدة بتشويه سمعة السياسيين العراقيين في عيون مواطنيهم، وبالتالي، فإن مقاربة
إدارة ترامب تخاطر بدفع العراق إلى أحضان إيران على عكس هدفها المعلن، والأسوأ من
ذلك أن الحكومة العراقية التي أجبرت على الضغط على طهران سوف تنفر السنّة مرة أخرى
مما يمهد الطريق لعودة الطائفية وحتى عودة داعش.
مواجهة إيران وفوز
العراق
مع وجود
العراق في مرحلة حرجة من انتقاله إلى ديمقراطية مستقرة وآمنة، فإن الإجراءات
الأمريكية يمكن أن تساعد إما في ضمان نجاح هذا التحول أو تهديد آفاقه بشكل أساسي،
ولأن هذه الفرصة قد تكون قصيرة العمر، ينبغي على واشنطن أن تتصرف بسرعة للاستيلاء
عليها، وينبغي أن تركز مساعدتها الأمنية وجهودها الدبلوماسية على التنسيق مع
الحكومة العراقية للتأكد من أن هناك خاتمة ناجحة لحملة مكافحة داعش، فتلك لن تؤدي
فقط إلى القضاء على آخر فلول المجموعة ولكن أيضًا معالجة المظالم التي أدت إلى
نجاحها في المقام الأول، وفي الوقت نفسه يجب على الولايات المتحدة العمل خلف
الكواليس مع بغداد لمعالجة أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في العراق، أخيرًا، يجب
على الولايات المتحدة المساعدة في دمج العراق في مجموعة من الشراكات الثنائية
والمتعددة الأطراف والإقليمية طويلة الأجل.
ستكون
المساعدة الأمنية المستمرة للعراق ضرورية لضمان عدم نجاح جهود داعش الناشئة من أجل
العودة، ولتكون قوات الأمن العراقية في حالة تحسن، لكن هناك حاجة إلى مزيد من
الاحتراف للجيش وقوات الشرطة لمنع هذه القوات من الانهيار مرة أخرى، فمزيج من
المساعدات والدبلوماسية الأمريكية يمكن أن يضمن إعادة بناء المناطق التي دمرتها
الحرب في العراق ويساهم في إيجاد مواطنيها المشردين البالغ عددهم 1.7 مليون شخص، وعليه
فينبغي على واشنطن أن تفكر في الضغط على بغداد لمراجعة أو إلغاء قانون اجتثاث
البعث، الذي ما زال يُخضِع السنّة لمعاملة غير عادلة.
ولضمان
الهزيمة الدائمة لداعش، ستحتاج الولايات المتحدة أيضًا إلى التعامل بنشاط أكبر مع
المشكلة الصعبة للمقاتلين الأجانب في داعش المحتجزين في سوريا، حيث تحتفظ القوات
الديمقراطية السورية المدعومة من الولايات المتحدة حاليًا بأكثر من 2000 مقاتل
أجنبي، لكن بما أن قوات سوريا الديمقراطية هي كيان غير حكومي، فهذا ليس حلًا دائمًا،
إذ يتعين على حكومة الولايات المتحدة الضغط من أجل أحد الحلين التاليين: محكمة
دولية لمحاكمة هؤلاء المعتقلين أو بذل جهد دولي منسق لنقلهم إلى بلادهم الأصلية
ومحاكمتهم أو احتجازهم على الأقل.
يجب على
الولايات المتحدة أيضًا تبني مقاربة للحد من التأثير السلبي لإيران في العراق من
شأنها أن تساعد على استقرار المنطقة، بدلًا من الضغط على الحكومة العراقية
وإجبارها على الاختيار بين واشنطن وطهران، فالقومية العراقية هي التحوط النهائي ضد
طموحات إيران الغالبة، حيث لا يرغب أي عراقي في أن تصبح بلاده بيدق لإيران، ومع
ذلك، يتعين على الولايات المتحدة التأكد من أن ورقة السيادة تُلعب ضد طهران وليس
ضد واشنطن، حيث إن إصدار مطالب عامة إلى بغداد يأتي بنتائج عكسية، فيجب ممارسة
الضغط خلف أبواب مغلقة، ويجب بناء تحالفات ذكية لتمكين العراقيين من الحد من
التعدي الإيراني، ومع ذلك، تعتبر إيران وستظل واحدة من الشركاء التجاريين
الرئيسيين للعراق ومصدرها الرئيسي من عائدات السياحة ودولة أكبر بكثير وأكثر قوة
إلى الأبد على حدودها، وفقط شبكة من النفوذ التعويضي من الولايات المتحدة وأوروبا
والعالم العربي هي التي ستضمن السيادة العراقية.
لدى
الولايات المتحدة كل الأدوات اللازمة لمساعدة العراق على النجاح، ومن الواضح أن من
مصلحة واشنطن أن تفعل ذلك، حيث إن وجود عراق قوي ومستقل وديمقراطي سيكون بمثابة
نعمة على المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، كأكبر دولة عربية ذات أغلبية شيعية، ويمكن
للعراق أن يعمل كجسر بين الشيعة في المنطقة والسنة والعرب والفرس، كجار ومنافسة
سابقة لإيران، ويمكن للعراق أيضًا أن يعمل على كبح لطموحات طهران الإقليمية شريطة
أن يكون في وضع يسمح لها بالاعتناء باحتياجاتها الأمنية الخاصة.
إن
الديمقراطية العراقية أكثر تماسكًا، إذ ستطالب الولايات المتحدة بأقل من ذلك، حيث يمتلك
العراق خامس أكبر احتياطي نفطي في العالم، والذسي يجب أن يزوده بالموارد اللازمة
لرعاية شعبه، وأخيرًا بدأت البلاد في استعادة العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع
دول الخليج، التي كانت قد ذبلت بعد غزو صدام للكويت عام 1990، وأعادت المملكة
العربية السعودية فتح سفارتها في بغداد، واستأنفت خدمة الخطوط الجوية التجارية إلى
العراق شريطة مساعدات إعادة الإعمار ، ورحب عبد المهدي والصدر بالرياض، وفي إبريل
/ نيسان، تعهدت المملكة العربية السعودية باستثمار مليار دولار للعراق، وعرضت بيع
الكهرباء في بغداد بسعر مخفض للمساعدة في فصل البلاد عن الطاقة الإيرانية.
إن البنية
الأساسية لعلاقة متبادلة المنفعة بين الولايات المتحدة والعراق موجودة بالفعل بعد
زيادة القوات الأمريكية عام 2007، حيث عمل السفير الأمريكي ريان كروكر مع صالح،
الذي كان حينذاك نائب رئيس الوزراء، وزميل صالح الكردي - وزير الخارجية هوشيار
زيباري- لتطوير اتفاقية الإطار الاستراتيجي، التي دعت واشنطن وبغداد إلى تعميق
علاقتهما من شراكة أمنية لإحدى العلاقات الثقافية والاقتصادية والتعليمية والعلمية،
وحتى الآن، ركزت الولايات المتحدة على الفوز بعقود للشركات الأمريكية والحصول على
مزيد من التأشيرات كشرط مسبق ضمني لأشكال أخرى من الارتباط، وهذا خطأ، فبدلًا من
ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تنظر إلى التطبيق الواسع للاتفاقية كفرصة
لاستخدام القوة الناعمة للولايات المتحدة - في شكل الاستثمار والتجارة والسياحة والتبادل
التعليمي والعلمي - لتقريب واشنطن وبغداد من بعضهما البعض.
على
الرغم من إظهار الغزو الأمريكي والاحتلال اللاحق للعراق مخاطر بدء حرب كبرى في
غياب هدف استراتيجي، مثل تحرير أوروبا في الحرب العالمية الثانية إلا إن الفصل
الأخير من مشاركة الولايات المتحدة في العراق يحمل درسًا مختلفًا إلى حد كبير، حيث
يشير نجاح "العملية المتأصلة في حلها" بتركيزه على مساعدة العراقيين
أثناء توليهم زمام المبادرة في القتال من أجل أرضهم إلى الطريق نحو نموذج جديد
للعمليات العسكرية، كحل وسط بين الحروب المكلفة وعدم التدخل، التي تعتمد أكثر حول
التعاون والدبلوماسية والمساعدة الأمنية أكثر من العمل العسكري الأحادي.
فبعد
أكثر من عقد من الحرب الأهلية، أصبح لدى العراق فرصة ليصبح قصة نجاح متشابهة لديمقراطية
ناشئة مستقرة في منطقة يصعب فيها العثور على الاستقرار والديمقراطية، حيث ينظر بعض
الأميركيين إلى العراق على أنه إخفاق لا هوادة فيه ويفضلون تقليص الخسائر
الأمريكية هناك، لكن الفشل الحقيقي سيكون التخلي عن العراق في الوقت الذي يكون فيه
نصر حقيقي في متناول اليد.
Source:
Linda Robinson, Winning the Peace in Iraq, foreign affairs, September/October
2019, at: