التحديات الاقتصادية أمام الحكومة الانتقالية الجديدة في السودان وكيف يمكن التغلب عليها
ترك نظام البشير الاقتصاد السوداني مبحراً في بحر لُجي
من الأزمات، حيث أدت السياسات الخاطئة وسوء الإدارة من قبل النظام إلى انتشار
الفقر والبطالة، وتعاظم مشكلات ارتفاع الأسعار وانهيار العملة وفقدان التواصل مع
النظام المالي العالمي.
ونتيجة لقرار حكومة البشير برفع أسعار الخبز والوقود في
ديسمبر 2018 فقد خرجت التظاهرات التي استمرت لمدة أربعة شهور أدت إلى اسقاط نظامه
في أبريل 2019، لتشهد البلاد فوضى عارمة لبضعة أشهر أخرى إلى أن تم الإعلان عن
تشكيل المجلس السيادي في العشرين من أغسطس 2019، والذي يقود البلاد خلال الفترة
الانتقالية التي تمتد ثلاث سنوات.
وقد أعلن المجلس السيادي عن اختيار الأمين العام السابق للجنة
الاقتصادية لإفريقيا التابعة للأمم المتحدة الدكتور "عبدالله الحمدوك"
رئيسًا للحكومة الانتقالية في البلاد. وفي ظل ترقب تشكيل الحكومة الانتقالية الجديدة
تُثار التساؤلات حول أبرز المشكلات التي يعاني منها الاقتصاد السوداني وكيف يمكن
العمل على حلها؟
أزمة
الديون السيادية
يمتلك السودان ميراث ثقيل من الديون المجمدة منذ أربعة عقود
حتى الآن؛ إذ تخلف السودان عن سداد أقساط الديون منذ بداية الثمانينيات، هذا فضلًا
عن العقوبات المفروضة عليه من قبل الولايات المتحدة بسبب الصراع في إقليم دارفور منذ
عام 1997. كما أدت الحروب الأهلية المستمرة وانفصال الجنوب في عام 2011 إلى تقليص
موارد الدولة، هذا فضلًا عن الفساد وسوء الإدارة من قبل النظام، مما أدى في
النهاية إلى تفاقم أزمة الديون السيادية بصورة كبيرة.
وتصل ديون السودان السيادية ما يقارب 58 مليار دولار
أمريكي وفقًا لآخر إحصاء رسمي بما في ذلك الفوائد الخاصة بتلك الديون والتي تبلغ
ما يقارب 3 مليار دولار، كما أن السودان هو البلد الوحيد في العالم – باستثناء
الصومال – الذي يدين بمتأخرات لصندوق النقد الدولي تمثل أكثر من 80% من إجمالي
المتأخرات المستحقة للصندوق. كما تضاعف العجز الكلي في ميزان المدفوعات خلال عام
واحد فقط، حيث ارتفع من 13 مليار دولار عام 2017 إلى 25 مليار دولار تقريبًا عام
2018 (1).
ووفقًا لتصريحات رئيس الوزراء الجديد "عبدالله
الحمدوك" فإن السودان في حاجة إلى ما لا يقل عن 10 مليار دولار أمريكي لإنقاذ
الاقتصاد خلال الفترة الانتقالية والتي تمتد إلى ثلاث سنوات، وذلك لتوفير الغذاء
والدواء والقدرة على دفع تكاليف الواردات (2).
العزلة
عن النظام المالي العالمي
يعاني السودان من عزلة عن النظام المالي العالمي منذ عام
1993 حيث تم إدراج السودان ضمن قائمة "الدول الراعية للإرهاب" من قبل
الولايات المتحدة، هذا فضلًا عن فرض العديد من العقوبات الاقتصادية والتجارية
عليها من قبل الإدارة الأمريكية عام 1997، ومنذ ذلك الحين ويعاني السودان من عدم
القدرة على الحصول على القروض الخارجية أو استخدام النظام المالي العالمي في تسوية
المدفوعات (3).
ومن الصحيح أن إدارة الرئيس "ترامب" رفعت في
أكتوبر 2017 العقوبات الاقتصادية والتجارية التي تم فرضها على السودان لأكثر من
عشرين عامًا، إلا أن الآثار التي ولدتها تلك العقوبات ما زالت قائمة ولا يمكن محو
نتائجها السلبية خلال فترة قصيرة.
ومن الضروري خلال الفترة القادمة أن يتم السعي نحو رفع
اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، حتى يستطيع السودان الحصول على
المساعدات والقروض وإعادة هيكلة الديون السيادية، حتى يمكن تجاوز الأزمة
الاقتصادية الراهنة.
التضخم
وانهيار العملة
لا شك أن الثورة على نظام البشير كان السبب الرئيسي فيها
هو الغلاء الفاحش الذي أصبح ينهش في جسد البلاد، ونتيجة للسياسة النقدية المنفلتة
من عقالها المتبعة من قبل البنك المركزي في ظل نظام البشير، أدى ذلك إلى ارتفاع
الأسعار بشكل جنوني وانهيار قيمة العملة، حيث عمد البنك المركزي لطبع المزيد من
الأوراق النقدية دون تغطية آمنة من خلال المعادن النفيسة أو العملات الأجنبية، مما
سبب انخفاضًا حادًا ومستمرًا لقيمة العملة، فقد تم طبع ما لا يقل عن 47.7 مليار
جنيه سوداني خلال عام 2018 وحده، وهو ما يفوق ما تم طبعه خلال عامي 2016 و 2017
(4).
وقد رفعت الحكومة الدعم عن الوقود والخبز في ديسمبر
الماضي، حيث ارتفعت أسعار الوقود والخبز إلى ثمانية أضعاف وثلاثة أضعاف على
التوالي. كما بلغ التضخم في ديسمبر 2018 ما يقارب 72.94%، ومن الصحيح أنه استقر
نسبيًا خلال الفترة الأخيرة عند 52.3% في يوليو الماضي، إلا أنه ما زال مرتفع،
ويحتاج إلى مزيد من السياسة النقدية الرشيدة لخفضه إلى مستويات دنيا (5).
وبالتوازي مع التضخم المستمر في ظل حكم البشير فقد تعرض
سعر صرف الجنيه لضغوط قوية، إذ انخفض إلى أكثر من 70 جنيهًا مقابل الدولار منذ نهاية
2018، ويبلغ الجنيه السوداني في الوقت الحالي ما يقارب 61 دولار في السوق السوداء
و 45 جنيه للدولار الواحد في السوق الرسمي. ومن المتوقع أن تتحسن قيمة الجنيه في
الفترة القادمة مع الاستقرار السياسي والأمني الذي تشهده البلاد في الفترة الحالية
بعد تشكيل المجلس السيادي (6).
الفقر
والبطالة
لا شك أن التدهور المستمر لقيمة العملة فضلًا عن
السياسات الاقتصادية الخاطئة من قبل الدولة والاستمرار في الحروب لعقود طويلة قد
أفقر الشعب السوداني، حيث تقدر الأمم المتحدة أن ما يعادل 13% من السكان (حوالي
5.7 مليون مواطن) يعانون من شح حاد في الأمن الغذائي. هذا فضلًا عن أن 46% من
السكان يعانون من الفقر (7).
ونتيجة لتوقف الكثير من المنشآت الانتاجية عن العمل في
الفترة الأخيرة نتيجة للاضطرابات السياسية التي شهدتها البلاد، فقد زادت معدلات
البطالة بشكل كبير كما شهدت البلاد حالة من الركود. ويقدر صندوق النقد الدولي
والبنك الدولي ارتفاع البطالة في البلاد من 12% عام 2011 إلى 20% السنوات الأخيرة،
كما تجاوزت نسبة البطالة بين الشباب 27% (8).
كيف
يمكن تجاوز الأزمة الاقتصادية الراهنة؟
من المتوقع أن يساهم التقدم السياسي الذي شهدته البلاد
مؤخرًا بعد أن تم تشكيل المجلس السيادي واختيار رئيس وزراء جديد في تيسير الوضع
الاقتصادي في البلاد وتسهيل عملية حصول السودان على المساعدات الدولية لتقليص حدة
الأزمة الاقتصادية التي تواجهه.
وتحتاج البلاد إلى برنامج اقتصادي واضح المعالم ومحدد
الخطوات من أجل السيطرة على الوضع الاقتصادي المتدهور، لاسيما فيما يتعلق بإدارة
الدين السيادي والسيطرة على التدهور المستمر لقيمة العملة، ونستعرض فيما يلي أبرز
تلك الخطوات التي يمكن الاعتماد عليها في برنامج الاصلاح الاقتصادي.
1. تحقيق السلام والاستقرار الأمني:
يكاد المرء أن يجزم بأنه من المستحيل تحقيق تحسن اقتصادي
في أي دولة ما بدون تحقيق استقرار أمني وسياسي، لهذا فأن أولى الأولويات لحكومة
"الحمدوك" في الفترة الحالية هو تحقيق تفاهم مع الحركات المسلحة في
البلاد في مناطق النزاع في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وغيرها، حيث ما زالت
تلك الفصائل المسلحة تتحفظ على اتفاق تقاسم السلطة، حيث رأت أنه لا يعالج قضايا
الثورة ويتجاهل أطرافًا وموضوعات هامة (9).
أما على المستوى الدولي، فعلى الحكومة السودانية أن تسعى
للتفاوض مع واشنطن حول رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وكذلك
التفاوض مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والجهات المانحة الأخرى حول إعادة
هيكلة الديون وإعفاء الدولة من بعض تلك الديون المتعثرة، هذا فضلًا عن ضرورة السعي
نحو الحصول على مساعدات جديدة وجذب رؤوس الأموال الأجنبية لتحقيق التنمية في
البلاد.
2. الاستفادة من تحويلات السودانيين في الخارج:
مع بدء الاستقرار السياسي والأمني في البلاد ودخول
السودان في مرحلة جديدة، فإن ذلك سيعزز الثقة لدى المواطنين في الخارج لتحويل
أموالهم إلى داخل البلاد، لاسيما أن السودانيين في الخارج كانوا يعزفون عن تحويل
أموالهم للداخل نظرًا لعدم الثقة في النظام المصرفي السوداني في ظل حكم البشير.
أما اليوم فقد تبدلت الأوضاع، لهذا على الحكومة أن تسعى لطرح مبادرات أو حملات
توعية بضرورة تحويل المواطنين لأموالهم إلى الداخل.
ووفقًا للإحصاءات الرسمية فمن المتوقع أن تصل تحويلات
المغتربين السودانيين في الخارج إلى ما يقارب 7 إلى 8 مليار دولار سنويًا، بينما
لم يدخل البلاد العام الماضي عبر المصارف سوى 271 مليون دولار فقط، لهذا على
الدولة أن تعيد بناء الثقة لدى مواطنيها في الخارج في الاقتصاد الوطني، لاسيما وأن
تلك التحويلات قادرة وحدها على دفع الاقتصاد للأمام بصورة قوية، دون الحاجة إلى
الاستدانة من الخارج (10).
3. إعادة هيكلة الاقتصاد:
يعتمد الهيكل الاقتصادي للسودان على تصدير النفط
والمنتجات الأولية الزراعية والحيوانية، وبالتالي فالاقتصاد السوداني يعتبر اقتصاد
مستهلك وليس منتجًا، لهذا على الحكومة السودانية في الفترة القادمة أن تعمل على
تنويع مصادر الدخل والسعي نحو خلق قيمة مضافة لصادراتها للعالم الخارجي بدلًا من
العمل على تصدير المواد الخام فقط والتي يكون سعرها منخفض للغاية مقارنة بأسعارها
بعد عملية التصنيع.
ويحتاج السودان إلى تطوير القطاعات الإنتاجية الأساسية
من الزراعة والتعدين، لاسيما وأنه يمتلك مزايا نسبية في هذين القطاعين، حيث يمتلك
السودان المياه اللازمة للزراعة والتربة والمناخ المناسب لزراعة المحاصيل النقدية،
هذا فضلًا عن توافر الموارد الكبيرة من المعادن وخاصة الذهب وباحتياطيات قدرها 523
ألف طن (11).
وفي الخاتمة؛ فإن أمام المجلس السيادي والحكومة الانتقالية العديد
من الملفات والتحديات على رأسها الملف الاقتصادي، والذي يعد أخطر الملفات على
الإطلاق، كون تتداخل فيه العديد من الموضوعات والأزمات جراء السياسات الخاطئة التي
اتخذها نظام البشير على مدى 30 عامًا مضت.
وإجمالًا؛ يمكن القول أن حكومة "الحمدوك" التي من المتوقع أن يتم الإعلان عنها خلال الفترة المقبلة عليها أن تسرع في وضع برنامج اقتصادي لإدارة الوضع الاقتصادي المتعثر في البلاد، على أن يشمل هذا البرنامج ثلاثة محاور أساسية؛ أولها ضرورة معالجة الاختلالات النقدية والمالية التي تفاقمت في البلاد خلال الفترة الماضية، وثانيًا ضرورة الحصول على الأموال اللازمة لتوفير الغذاء والخبز، وثالثًا ضرورة العمل على تنويع مصادر الدخل وإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني.
الهوامش
1. ديون السودان المتعثرة منذ
4 عقود تطفو على السطح عقب عزل البشير، 13 أبريل 2019، العين الإخبارية، متاح على:
https://al-ain.com/article/sudan-s-troubled-debts-surfaced-bashir-s-isolation
2. خالد عبدالعزيز، حصري-حمدوك:
السودان يحتاج ما يصل إلى 10 مليارات دولار لإعادة بناء الاقتصاد، 24 أغسطس 2019،
وكالة رويترز، متاح على:
https://ara.reuters.com/article/topNews/idARAKCN1VE0R6
3. السودان: قرار رفع العقوبات
الاقتصادية الأمريكية "إيجابي"، 7 أكتوبر 2017، بي بي سي العربية، متاح
على:
http://www.bbc.com/arabic/middleeast-41533736
4. الاقتصاد السوداني بعد إطاحة
البشير.. هل سيلتقط أنفاسه ويوقف نزيف الجنيه؟، 16 أبريل 2019، روسيا اليوم، متاح
على:
https://cutt.us/cO7Yy
5. السودان: هل يشكل اتساع
رقعة الاحتجاج خطرا على حكومة الخرطوم؟، 20 ديسمبر 2019، بي بي سي العربية، متاح
على:
http://www.bbc.com/arabic/interactivity-46641691
6. الدولار يقفز إلى 70 جنيهاً
بالسوق الموازية في السودان، 21 فبراير 2019، الشرق الأوسط، متاح على:
https://cutt.us/rxRtp
7. حنين ياسين، إلى أين يتجه
اقتصاد السودان في ظل حكم العسكر؟، 22 يونيو 2019، الخليج أونلاين، متاح على:
https://cutt.us/gJqNh
8. البشير يدعو لتأجيل تعديل
الدستور ويحل الحكومة ويفرض حالة الطوارئ، 2 فبراير 2019، سي إن بي سي العربية،
متاح على:
https://www.cnbcarabia.com/news/view/50478
9. الاقتصاد والسلام .. ملفات
صعبة أمام السلطة في السودان، 22 أغسطس 2019، موقع النيل، متاح على:
https://cutt.us/4t3aO
10. الاقتصاد السوداني يتحسس
خطواته وسط تحذيرات من انهياره، 22 يوليو 2019، الدستور، متاح على:
https://www.dostor.org/2731017
11. خالد المنشاوي، بعد اتفاق
تقاسم السلطة... إلى أين تتجه الحكومة الانتقالية باقتصاد السودان؟، 24 يوليو
2019، اندبندنت عربية، متاح على:
https://cutt.us/JUsdm