يبدو أن
الانتخابات الرئاسية التمهيدية التي جرت في الحادي عشر من أغسطس في الأرجنتين كانت
نذير شؤم على الاقتصاد الأرجنتيني بصورة كبيرة، إذ بمجرد الإعلان عن فوز المرشح
الرئاسي عن المعارضة "ألبرتو فرنانديز" في التصويت التمهيدي بنسبة وصلت
إلى 47% على منافسه الرئيس الحالي للبلاد "ماورويسيو ماكري" الذي حصل
على 32.7% من الأصوات فقط، تحول المشهد الاقتصادي في البلاد إلى صورة ضبابية
بامتياز، إذ سرعان ما تهاوى سوق المال وفقدت العملة الكثير من قيمتها، هذا فضلًا
عن خروج العديد من المستثمرين من السوق المحلي.
وتسود
حاليًا حالة من التخوف من قبل المستثمرين أنه في حالة فوز مرشح يسار الوسط "فرنانديز"
أن يقوم بإلغاء الخطوات التي وصلت إليها الأرجنتين في برنامج الإصلاح الاقتصادي
المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي، والذي بموجبه حصلت الأرجنتين على قرض بقيمة 57
مليار دولار لمدة ثلاث سنوات، لهذا حدثت هذه الحالة من الهلع في الاقتصاد
الأرجنتيني.
تعثر خانق وسقوط مدوي
للاقتصاد
شهدت
الأرجنتين العديد من الأزمات المالية كان أقوها الأزمة المالية عام 2001 والتي
شهدت البلاد وقتها احتجاجات قوية من قبل الشعب، وكذلك الأزمة المالية في عام 2018،
والتي على آثرها طلبت الأرجنتين بقيادة الرئيس الحالي المساعدة من قبل صندوق النقد
الدولي، لتحصل من خلال الاتفاق المبرم مع الصندوق في سبتمبر 2018 على قرض بقيمة 57
مليار دولار على ثلاث سنوات، في مقابل تطبيق برنامج اقتصادي تقشفي للسيطرة على
العجز المالي في البلاد (1).
ونتيجة
هذا البرنامج الانكماشي من قبل الحكومة، دخلت البلاد في مستويات جديدة من الفقر،
إذ انتقل ما يقارب من اثنين مليون مواطن من الطبقة المتوسطة إلى الطبقة الفقيرة
خلال العام الأخير، لكن البلاد لم تشهد مثل تلك الاحتجاجات التي حدثت عام 2001
نظرًا للبرامج الاجتماعية التي قدمتها الحكومة بالتوازي مع تطبيق البرنامج
الاقتصادي (2).
وعلى
الرغم من البرامج الاجتماعية المقدمة للفقراء من قبل حكومة الرئيس
"ماكري" إلا أن ذلك لم يشفع له عند الشعب، إذ أظهر الشعب يأسه من
البرنامج الاقتصادي، ولهذا اختار منافسه الذي وعد الشعب بإعادة النظر في شروط
الاتفاق مع الصندوق، لهذا جاءت الفارق بين المرشحين 15 نقطة تقريبًا لصالح مرشح
المعارضة.
ومنذ أن تم الإعلان عن نتائج الانتخابات التمهيدية شهد الاقتصاد حالة سقوط مدوي، إذ شهد سوق المال ثاني أكبر انهيار يومي في البورصات العالمية منذ عام 1950، حيث سجل مؤشر الأسهم الرئيسي المقّوم بالدولار 48% من قيمته في جلسة الاثنين (اليوم الثاني بعد الانتخابات)، كما انخفض البيزو الأرجنتيني بصورة كبيرة، حيث شهد خسائر أسبوعية بنحو 17.6%، ليشهد مع نهاية تعاملات 15 أغسطس ما يقارب من 34% من قيمته منذ بداية العام. كما أن التضخم في البلاد قد بلغ ما يقارب 54%، وتشهد أسعار الفائدة حاليًا حالة من الجنون، إذ وصلت حاليًا إلى ما يقارب 75% (3).
وإزاء
هذا الوضع المتدهور، أعلنت وكالتا التصنيف الائتماني "فيتش" و"
ستاندارد آند بورز" يوم الجمعة 16 أغسطس تخفيض الدين السيادي للأرجنتين، حيث
خفضت الأولى التصنيف الائتماني للأرجنتين من (B) إلى
(CCC)، أما الثانية فقد خفضت التصنيف من (B) إلى
(-B)، وترجع هذه الخطوة من قبل الوكالتين جراء
تراجع شروط التمويل بحدة والتدهور الحادث في بيئة الاقتصاد الكلي الذي يزيد من
احتمال التخلف في تسديد الدين السيادي أو إعادة هيكلة هذا الدين بشكل أو بآخر (4).
وقد
أعلنت وكالة فيتش أنها تتوقع أن ينكمش الاقتصاد الأرجنتيني بنسبة 2.5% في 2019،
بعد أن كانت تتوقع أن ينكمش الاقتصاد بنسبة 1.7% فقط، كما أعلنت توقعها لارتفاع
الدين الحكومي لما يقارب 95% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2019.
ووفقًا
لتقديرات مؤسسة "آي إتش إس ماركت" للأبحاث، فإن احتمالية التعثر عن سداد
الديون السيادية لأجل خمس سنوات تصل إلى 82.5%، بينما احتمالية التخلف عن سداد
الديون السيادية لجل عام واحد تصل إلى 55%
وكمحاولة
لامتصاص غضب الشعب وتهدئة المشهد الاقتصادي، قام وزير الخزانة "نيكولاس
دوخوفنى" بالاستقالة من منصبه يوم السبت 17 أغسطس، ويبدو أنه تعرض لضغوط من
قبل الرئيس "ماكري" لمحاولة السيطرة على الأزمة حتى لا تنفلت الأوضاع في
البلاد لتصل إلى احتجاجات قوية، لاسيما وأن المواطنين هرعوا إلى البنوك لسحب
أموالهم، لعدم ثقتهم في الاقتصاد (6).
محاولة للسيطرة على الأزمة
في
محاولة للسيطرة على الأزمة الخانقة للاقتصاد قام الرئيس "ماكري"
بالإعلان عن حزمة مالية بتكلفة 740 مليون دولار لدعم الاقتصاد، وتشمل تلك الحزمة
إلغاء القيمة المضافة على الأغذية الأساسية، والإعفاءات الضريبية، وزيادة الإعانات
للفقراء، ومزيد من القروض للطلاب والشركات الصغيرة، كذلك تجميد أسعار البنزين لمدة
ثلاثة أشهر (7).
كما أعلن
وزير الخزانة الجديد "هيرنان لاكونزا" أن بلاده لن تسمح بهبوط فوضوي
للبيزو، حيث قام البنك المركزي حتى الآن ببيع ما يقارب من 709 مليون دولار من
الاحتياطيات الدولارية لديه في السوق، لمحاولة السيطرة على انهيار العملة، الأمر
الذي أدى إلى تعافي العملة بالفعل، حيث بلغت قيمة البيزو أمام الدولار ما يقارب 55
بيزو للدولار في تعاملات الأربعاء 21 أغسطس بعد أن وصلت إلى 60 بيزو للدولار في
تعاملات الخميس 15 أغسطس.
ولكن على
الرغم من هذا التعافي القليل، إلا أن المشهد ما زال ضبابيًا، لاسيما أن الحزمة
المالية المقدمة من قبل الحكومة ضئيلة للغاية، هذا فضلًا عن انخفاض الثقة لدى
المستثمرين الأجانب والمحليين في الاقتصاد الأرجنتيني، مما دفع الكثير منهم للخروج
من السوق إلى أن تتضح الأمور.
الانتخابات ومصير البرنامج
الاقتصادي
من
الصحيح أن الانتخابات التي جرت في الحادي عشر من أغسطس ليس إلا انتخابات تمهيدية،
إلا أنها تعطي صورة تقريبية لمصير الانتخابات الرئاسية المزمع إجرائها في السابع
والعشرين من أكتوبر القادم. وبحسب الدستور الأرجنتيني فإن المرشح يحتاج للفوز
بالرئاسة الحصول على 45% من الأصوات، أو 40% مع فارق يصل إلى 10% مقارنة مع
المنافس الآخر، وإذا لم يحدث ذلك يتم الذهاب إلى جولة ثانية من الانتخابات.
وبما أن
مرشح يسار الوسط "فرنانديز" قد حصل على 47% من الأصوات، فضلًا عن وجود
فارق 15%، فإن هذا يعد مؤشرًا واضحًا على الاحتمال الكبير لفوز مرشح يسار الوسط
على الرئيس الليبرالي "ماكري"، وفي حالة فشل المعارضة في الفوز في
الجولة الأولى فمن المقرر إجراء جولة ثانية في الرابع والعشرين من نوفمبر القادم.
وتثير
تلك الأزمة القاتمة التساؤلات حول مصير البرنامج الاقتصادي الذي يتم تطبيقه
بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، فإذا لم يستطع الرئيس الحالي التوصل إلى حل
لتعديل البرنامج لتخفيف سخط الشارع، فإن الفوز المؤكد سيكون للمرشح المعارض
"ألبرتو فرنانديز" الذي هدد بإعادة هيكلة الديون الخاصة بالدولة
والتباحث مع الصندوق حول الشروط الخاصة بالبرنامج وإمكانية تمديد آجال تسديد
الديون (توسيع آجال الاستحقاق). ويبدو أن صندوق النقد ذاته حريص على استمرار
البرنامج وعدم وصول مرشح يسار الوسط للحكم؛ إذ أعلن المتحدث الرسمي باسم الصندوق
"جيري رايس" أن الصندوق بصدد إرسال وفد رسمي إلى العاصمة بوينس آيرس
للتباحث مع الحكومة حول الخطط التي يمكن تقديمها لمعالجة الوضع الصعب في البلاد
(8).
وحتى
الآن قام صندوق النقد الدولي بصرف 44 مليار دولار من قيمة القرض، ومن المتوقع أن
يصرف الصندوق الشريحة القادمة في سبتمبر المقبل بقيمة 5.4 مليار دولار، وبالتالي
فإن مصير الشريحة القادمة مرهون بنتائج الانتخابات الرئاسية، علمًا بأن هذا الرقم
الأخير لا يمكنه أن يحل مشكلات الاقتصاد الأرجنتيني، لاسيما أزمة الديون، حيث
تحتاج الأرجنتين 30 مليار دولار على الأقل العام المقبل لسداد ديونها (9).
وأخيرًا، ووفقًا للمعطيات السابقة فإن هناك توقع بأن الأرجنتين سوف تكون غير قادرة على سداد نصف ديونها على الأقل بحلول العام القادم، لاسيما في ظل تراجع الاستثمارات والمصداقية في السوق، الأمر الذي سيؤدي بالقطع إلى انكماش الاقتصاد خلال السنة المقبلة على الأقل، هذا في ظل ارتفاع احتمالية وصول مرشح يسار الوسط "ألبرتو فرنانديز".
الهوامش
1. صندوق النقد يرفع برنامج إقراض الأرجنتين إلى 57 مليار
دولار لدعم البيزو، 17 سبتمبر 2018، اليوم السابع، متاح على: https://cutt.us/M5Md5
2.
Uki Goñi, Plunging
peso, grinding poverty: Argentina hears echoes of 2001 crisis, 20 Aug 2019 , the guardian, available at:
https://www.theguardian.com/world/2019/aug/18/cristina-kirchner-fiery-ex-president-returns-crisis-argentina
3.
Sarah Ponczek,
Argentina's 48% Stock Rout Second-Biggest in Past 70 Years, August 12, 2019,
Bloomberg, available at:
https://www.bloomberg.com/news/articles/2019-08-12/argentina-s-46-stock-rout-second-biggest-in-past-70-years
4. وكالتان للتصنيف الائتماني تخفضان تصنيف الأرجنتين، 17
أغسطس 2019، فرنسا 24، متاح على:
https://cutt.us/fKd1P
5.
Sam Meredith, What
next for Argentina? Historic market crash ramps up fears of another default, AUG
15 2019, CNBC, available at:
https://www.cnbc.com/2019/08/15/argentina-stock-market-crash-ramps-up-fears-of-another-debt-default.html
6. استقالة وزير الخزانة الأرجنتيني بعد انهيار العملة، 18
مارس 2019، بوابة الأهرام، متاح على:
http://gate.ahram.org.eg/News/2253941.aspx
7.
Argentina faces
the prospect of another default, Aug 15th 2019, the economist, available at:
https://www.economist.com/the-americas/2019/08/15/argentina-faces-the-prospect-of-another-default
8. صندوق النقد الدولي يعتزم ارسال فريق إلى الارجنتين قريبًا،
20 أغسطس 2019، فرنسا 24، متاح على:
https://cutt.us/dvt9I
9. صندوق النقد الدولى يستعد شريحة بقيمة 5.4 مليار دولار
من قرض للأرجنتين، 5 يوليو 2019، اليوم السابع، متاح على:
https://cutt.us/E9PgY