سوريا .. تغير العقيدة العسكرية الإيرانية في مواجهة التهديدات الأمريكية
أعرب الكثير من المحللين أبان فترة الربيع العربي في الشرق الأوسط عن أملهم في تحرك المنطقة نحو
الديمقراطية، على خلفية الهبات الجماهيرية القوية التي اندلعت في عام 2011. ولكن على
الناحية الأخرى، تختلف سوريا عن كثير من الدول العربية؛ حيث كانت دمشق حليف أساسي
للجمهورية الإسلامية أبان فترة الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، والشريك
العربي الوحيد لطهران.
كما تمكنت طهران من خلال تموضعها الاقتصادي داخل سوريا
من رفع مستوي التعاون والاستثمارات مع دمشق سيما فيما يتعلق بصناعة الموارد
الطبيعية (الفوسفات والنفط)، والمشاركة في مشروعات إعادة الإعمار، فضلاً عن دعم
طهران لدمشق فيما يتعلق بعجز الموازنة.
واستطاعت طهران من خلال نفوذها المتزايد في سوريا
التأثير بالسلب على مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة عبر الدعم الذي
تتلقاه من الميليشيات التابعة لها في دمشق، التي تخضع لتدريبات دورية من قبل
المستشارين العسكريين للحرس الثوري الإيراني.
وسنعرض فيما يلي لجذور العلاقة القوية بين دمشق و طهران،
النفوذ الاقتصادي الإيراني في سوريا و كيفية تأثير مساندة الجمهورية الإسلامية لنظام بشار الأسد
علي التحول الإستراتيجي في عقيدتها و إجراءاتها العسكرية، فضلاً عن تأثير ذلك على
مسار الصراع الأمريكي الإيراني.
أولاً- جذور النفوذ الإيراني في سوريا
كان التحالف بين سوريا وإيران سمة ثابتة على المشهد السياسي
في الشرق الأوسط لأكثر من ثلاثة عقود، وعليه، كان لهذا التوافق تأثير كبير على التطورات
في المنطقة والذي ظهر خلال الحرب العراقية الإيرانية، حرب الخليج الثانية، النزاع
مع لبنان في عام 2006، ودور طهران في الحرب الأهلية السورية بعد أحداث الربيع
العربي في عام 2011.
من الجدير بالذكر، أنه على الرغم من الاختلافات الإيديولوجية
الكبيرة، الأسس والهياكل السياسية إلا أنه التوافق الإيراني السوري مازال قائماً
منذ الثورة الإسلامية لعام 1979؛ ففي الوقت الذي كانت فيه سوريا (اشتراكية،
علمانية، عربية) كانت إيران ومازالت على النقيض (ثورية، ثيوقراطية، إسلامية). كما
أنه في الوقت الذي كان يدعي فيه حزب البعث
السوري أنه بمثابة الزعيم الشرعي للقضية العربية، كانت إيران تدافع عن العالمية الإسلامية
وترفض العلمانية(1).
وتتمثل أهمية هذا التحالف في التأثير الكبير الذي خلفة
على السياسات العامة داخل الشرق الأوسط على مدار العقود القليلة الماضية وسيما
خلال الغزو الأمريكي على العراق في عام 2003؛ حيث كان لدي الشريكين بصمة كبيرة في
إحباط مخططات وسياسات العراق وإسرائيل،
فضلاً عن الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة من خلال تعاونهم المستمر.
لقد لعبوا دوراً حاسماً في وقف غزو العراق لإيران في سبتمبر
1980، وضمان عدم تحول بغداد في عهد الرئيس
الراحل "صدام حسين" إلي القوة الكبرى في الشرق الأوسط، و نجحوا أيضاً في إفشال
استراتيجية "تل أبيب" لإدخال لبنان إلى مدارها الخاص بعد يونيو لعام
1980 و احتلالها، من خلال استخدام الوكلاء اللبنانيين وأبرزهم "حزب الله"، فضلاً عن النجاح
في كشف حدود القوة العسكرية الإسرائيلية واجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي التي
احتلتها في عامي 1984 و 2000(2).
ثانياً- التموضع الاقتصادي الإيراني في دمشق
تسبب الخروج الأمريكي من الاتفاق النووي في مايو/أيار
لعام 2018 في الكثير من الأزمات الكبيرة والخطيرة بالنسبة للحكومة والشعب الإيراني،
الأمر الذي تمثل في فرض ثلاث موجات من العقوبات الأمريكية على طهران وكان أخرها
تلك التي فرضت على قطاع الطاقة الإيراني بما يتضمن قطاعي النفط والبتروكيماويات،
مما أدي إلى انخفاض كبير في قيمة العملة الإيرانية مقابل الدولار الأمريكي، فضلاً
عن ارتفاع نسبة التضخم والبطالة. في السياق ذاته، خرجت عشرات الشركات الكبرى
متعددة الجنسية التي هرولت إلى السوق الإيراني للاستفادة من السوق الخصبة
بالمشروعات الاستثمارية وسيما الموارد الطبيعية أبان عقد الاتفاق(3).
وعليه، اندفعت طهران للبحث عن بدائل أخرى تستطيع من
خلالها انقاذ الاقتصاد الإيراني ذو الوضع المتدهور، وكانت العواصم العربية التي
تتمتع فيها الجمهورية الإسلامية بنفوذ كبير هي أولى الخيارات التي لجأت إليها
طهران. وكانت دمشق من أولى العواصم التي لجأت اليها؛ حيث قدمت طهران الكثير من
البدائل للمشاركة في المشروعات الاستثمارية المقررة لإتمام عملية إعادة الإعمار،
في رغبة لإنقاذ الاقتصاد الإيراني من جهة والقضاء على النسبة المرتفعة من البطالة
والتأكيد على أهمية دورها السياسي وشرعية الحفاظ على مكاسبها المحتملة.
ومن هنا، أبرمت طهران عدد كبير من مذكرات التفاهم مع
الحكومة السورية يتمحور أغلبها حول مجموعة واسعة من المجالات من أهمها المساهمة في
بناء محطات توليد الطاقة الكهرومائية، الاستثمار في الصناعة والزراعة، فضلاً عن
التفاهم حول إنشاء قناة مصرفية بهدف التحايل على العقوبات الأمريكية، وبالتالي،
أشار الكثير من المحللين إلى أن المشروعات الاستثمارية والمنافع الاقتصادية باتت
تفوق رغبة النفوذ والهيمنة السياسية لدى الجمهورية الإسلامية فيما يتعلق بالملف
السوري، فضلاً عن استرداد النفقات الباهظة التي تكبدتها الحكومة الإيرانية في دعم
نظام الأسد(4).
ومن الجدير بالذكر، أنها المرة الأولى التي تشجع فيها
حكومة الجمهورية الإسلامية القطاع الخاص الإيراني علي تولى المشروعات الاستثمارية
في سوريا، كما أعلنت شركة "خاتم الأنبياء" الذراع الاقتصادي للحرس
الثوري عن رغبتها في المشاركة بهذه المشروعات إذا أرادت الحكومة الإيرانية ذلك، وأكدت
طهران على استعدادها لبناء خط سكة حديد يربط معبر "شلامجة" الإيراني الحدودي
بالساحل السوري للبحر المتوسط عبر العراق.
فعلى الرغم من أن بعض المراقبين يفسرون هذه الخطة على أنها
علامة جديدة على تصميم إيران زيادة إمداداتها من الأسلحة إلى "حزب الله اللبناني"،
إلا أن المسؤولين الإيرانيين يؤكدون أن المشروع يمثل مساهمة محتملة لمبادرة الحزام
والطريق الصينية التي يمكن أن تحيي دور طريق الحرير القديم الإيراني كمحور للتجارة
والنقل للربط بين الشرق والغرب(5).
ثالثاً- التأثير السوري على مسار الحرب الأمريكية الإيرانية
تعد الحرب في سوريا هي المرة الأولى منذ انتهاء الحرب الإيرانية العراقية
التي تعرضت فيها القوات الإيرانية لقتال حقيقي خارج حدود إيران، وبالطبع كان لهذه التجربة تأثير عميق على التفكير العسكري
الإيراني، مما أجبر طهران على تحديث عقائدها وإجراءاتها العسكرية ، زيادة تماسكها وتعزيز
قدرتها على القيام بعمليات مشتركة مع الجيوش الأجنبية.
وبالتالي، قد يكون
لتطور النهج الإيراني في الحرب عواقب وخيمة على الولايات المتحدة الأمريكية، قواتها
المسلحة، قواعدها العسكرية و حلفاءها في المنطقة: سواء بشكل مباشر أو من خلال وكلاء،
فمن المرجح أن يواصل البلدان الصدام في المستقبل القريب، و تعمل القوات الإيرانية والميليشيات
التابعة لها حالياً علي مقربة من الجيش الأمريكي وشركائه في أفغانستان، العراق، سوريا
والخليج العربي.
فعلي الرغم من أنه لا تزال القدرات التقليدية لإيران لا تضاهي
قدرات الولايات المتحدة الأمريكية، و لا تزال الجمهورية الإسلامية لا تملك أسلحة نووية،
لكن تعد طهران من التهديدات الكبيرة التي تواجهها واشنطن، و يشير بعض المحللين إلي
أن أكبر تهديد تواجهه الإدارة الأمريكية الحالية من إيران يكمن في قدراتها الحربية المختلطة، التي
شحذتها طهران على مدى العقود الأربعة الماضية و التي تتكامل في سوريا؛ حيث تتمتع الجمهورية
الإسلامية الآن بقدرات توظيفية جديدة، شبكة موسعة من الوكلاء، مرجع إعلامي ضخم وقدرة
كبيرة على التنسيق مع الحلفاء المسلحين تقليديًا
مثل روسيا.
و اتجهت طهران بالفعل إلي تعميق العلاقات مع روسيا؛ حيث وقع
البلدان اتفاقية تعاون عسكري في أغسطس/أب لعام 2019 و لكن لم يتم الإعلان عن التفاصيل،
و لكن علي ما يبدو أن الاتفاقية تنطوي على عنصر بحري مهم. وعليه، سيكون من الجيد
أن تنظر الولايات المتحدة الأمريكية للقدرات العسكرية الإيرانية، سيما تلك التي
طورتها الجمهورية الإسلامية في سوريا في ظل سعيها لمواجهة التهديدات الإيرانية
المتصاعدة في الخلج العربي و مضيق هرمز(6).
الهوامش
1.
Jubin M. Goodarzi, Syria and Iran: Alliance
Cooperation in a Changing Regional Environment, Ortadoğu Etütleri,
Volume 4, No 2, January 2013, pp.31-54.
2.
Ibid.
3.
علي
فتح الله نجاد، انسحاب ترامب من الاتّفاق النووي الإيراني وتداعياته الوخيمة، بروكنجز،
14/6/2018، متاح على الرابط التالي https://www.brookings.edu/ar/opinions/ترامب-و-الاتّفاق-النووي-الإيراني/
4.
Hamidreza Azizi, Iran Seeks Economic Benefits
from Syria, Atlantic Council, 22/2/2019, available at https://www.atlanticcouncil.org/blogs/iransource/iran-seeks-economic-benefits-from-syria.
5.
majid Rafizadah, Iran’s investments in Syria in
jeopardy thanks to US sanctions, Arab News, 25/4/2019, available at http://www.arabnews.com/node/1488016