يحتفل
العالم في الشهر الحالي بمرور 75 عامًا على توقيع إتفاقية "بريتون وودز"،
والتي تم إبرامها في 22 يوليو 1944 لتكون أبرز نتائجها هو إنشاء توأمي بريتون وودز
"البنك والصندوق الدوليين"، وقد جاءت هذه الاتفاقية في وقت ما بعد الحرب
العالميتين، حيث كان العالم يعاني من العديد من الأزمات الاقتصادية، ولهذا رأت
الدول الكبرى أنه لا بديل عن إحلال السلام في العالم ومحاربة الفقر وعدم تكرار
الويلات السابقة. ولا شك أن هذه الاتفاقية قدمت الكثير للبشرية، من ارتفاع معدلات
العمر المتوقع، والتحصيل العلمي، وانخفاض معدلات وفيات الأطفال والأمهات، هذا
فضلًا عن ارتفاع الناتج المحلي العالمي بأكثر من خمسة أضعافه عن عام 1945، وتحرر
أكثر من مليار نسمة من أصفاد الفقر.
ورغم هذه
النجاحات التي حققتها هذه الاتفاقية، إلا أنه يبدو وكأن العالم في حاجة إلى
"بريتون وودز 2"، لاسيما في ظل المخاوف الحالية من اندلاع حرب عالمية
جديدة مع ما يشهده العالم من أزمات مختلفة، وبصفة خاصة ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط.
تباطؤ
في النمو وتعاف محفوف بالمخاطر
مع الاحتفال بمرور 75 عامًا على إبرام اتفاقية "بريتون وودز" أصدر صندوق النقد الدولي تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي" في شهر يوليو الحالي بعنوان "مستجدات آفاق الاقتصاد العالمي: النمو العالمي لا يزال بطيئًا"، ليعلن من خلاله مزيدًا من تخفيض توقعاته بشأن النمو العالمي، حيث توقع التقرير نمو الاقتصاد العالمي بقيمة (3.2%) في 2019 و(3.5%) في 2020، بانخفاض (0.1) نقطة مئوية لكلا العامين مقارنة مع توقعات تقريره الصادر في أبريل الماضي، ويعد هذا التخفيض هو الرابع من قبل الصندوق منذ أكتوبر 2018 (1).
ويرجع صندوق النقد الدولي هذا التخفيض المستمر في
توقعاته بشأن نمو الاقتصاد العالمي إلى مجموعة من الأسباب تتمثل في استمرار الحرب
التجارية بين الولايات المتحدة والصين مما أثر على حركة التجارة العالمية وتدفق
سلاسل الإمداد بين دول العالم، واستمرار حالة اللايقين بشأن خروج المملكة المتحدة
من الاتحاد الأوروبي، هذا فضلًا عن استمرار التوترات في منطقة الشرق الأوسط
والملاحة البحرية الدولية، والحرب الأهلية في بعض بلدان المنطقة مثل سوريا واليمن.
الحرب التجارية بين
الولايات المتحدة والصين
لا شك أن
تلك الحرب التجارية الدائرة بين الولايات المتحدة والصين منذ مارس 2018 تؤثر على الاقتصاد العالمي من
خلال تقويض حركة التجارة العالمية، حيث يتباطئ نمو التجارة العالمية نتيجة هذه
التوترات التي أدت إلى زيادة الرسوم الجمركية بين البلدين، وخلق حالة من عدم
اليقين طويل الأمد حول مصير تلك الأزمة، مما أثر بالسلب على ثقة الشركات في أنحاء
العالم حول مصير التجارة العالمية. ومن المتوقع أن استمرار تلك الحرب التجارية بين
البلدين، بما في ذلك النزاعات الدائرة بشأن التكنولوجيا وأزمة شركة
"هواوي" الصينية، سوف يؤثر على النمو الاقتصادي العالمي بالخفض بما
قيمته (0.5%) عام 2020 (2).
وبحسب تقرير صندوق النقد الدولي الصادر مؤخرًا، فقد انخفض متوسط التغير السنوي للتجارة العالمية من (5.4%) عام 2017 إلى (3.8%) عام 2018، ومن المتوقع أن يصل متوسط التغير السنوي إلى (3.4%) عام 2019، ويرجع هذا الانخفاض المستمر إلى الحرب التجارية الدائرة بين البلدين، مما أثر على حركة التجارة الدولية، وسلاسل الإمداد بين دول العالم.
ومن
الصحيح أن الولايات المتحدة والصين عقدتا الدورة الثانية عشر من المشاورات
التجارية رفيعة المستوى في شانغهاي يومي الثلاثاء والأربعاء (30 و31 يوليو
الجاري)، بمشاركة نائب رئيس مجلس الدولة الصيني "ليو خه" والممثل التجاري
الأمريكي "روبرت لايتثايزر" ووزير الخزانة الأمريكي "ستيفن منوتشين"،
ورغم التصريحات الإيجابية التي صدرت من الجانبين حول وجود تفاهمات بين البلدين
لإيجاد حلول للمشكلات العالقة بينهما، إلا أنه يبدو أن الحرب التجارية بين البلدين
لن تخمد في الأجل القريب (3).
ونتيجة
هذه الحرب التجارية الدائرة بين البلدين فقد توقع صندوق النقد الدولي انخفاض النمو
الاقتصادي في الولايات المتحدة عام 2019 بما قيمته (2.3%) بعد أن حققت نموًا
اقتصاديًا بلغ (2.9%) عام 2018، ومن المتوقع أن يبلغ النمو الاقتصادي للولايات
المتحدة عام 2020 ما يقارب (1.9%).
كذلك فمن
المتوقع بحسب صندوق النقد الدولي حدوث تباطؤ في النمو الاقتصادي الصيني من (6.6%)
عام 2018 إلى (6.3%) و(6.1) لعامي 2019 و2020 على التوالي. ويرجع ذلك بالأساس إلى
التعريفات الجمركية العالية على الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة، وضعف
الطلب الخارجي، هذا فضلًا عن كون الاقتصاد الصيني يمر بمرحلة من التباطئ الهيكلي
والاعتماد الكبير على الديون.
الاتحاد
الأوروبي والبريكست
تعاني بلدان الاتحاد الأوروبي من مجموعة من الأزمات التي
أثرت بصورة كبيرة على الأداء الاقتصادي للاتحاد، وتتمثل تلك الأزمات في: (1) تراجع
الطلب الكلي من قبل المستهلكين وقطاع الأعمال في بلدان الاتحاد، (2) تطبيق معايير
جديدة تتعلق بانبعاثات الوقود من قبل السيارات في ألمانيا وتأثير ذلك على أداء
الأعمال، (3) المظاهرات التي شهدتها فرنسا والتي أثرت على النشاط التجاري فيها،
(4) استمرار فترة عدم اليقين وحالة الخوف من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
دون التوصل لإتفاق (4).
ولهذا نلاحظ أن الاتحاد الأوروبي كان يحقق نموًا
اقتصاديًا في عام 2017 يقارب (2.7%)، ثم انخفض هذا النمو تدريجيًا إلى أن وصل
(2.1%) عام 2018، ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يصل النمو الاقتصادي في الاتحاد
الأوروبي لعام 2019 ما يقارب (1.6%)، و(1.7%) لعام 2020.
وتعد قضية "البريكست" أهم وأبرز قضية على
الساحة الأوروبية منذ أن تم إجرا الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد في 23 يونيو
2016، ذلك لأن خروج بريطانيا من الاتحاد يعني ذلك التمهيد لخروج دول أخرى، مما يهدد
سلامة ومستقبل هذا الاتحاد. ومنذ أن تولى رئيس الوزراء البريطاني الجديد "بوريس
جونسون" منصبه في الشهر الجاري (يوليو) وقد أعلن أن بلاده سوف تخرج من
الاتحاد الأوروبي في 31 أكتوبر القادم سواء تم التوصل إلى إتفاق أم لا، معتبرًا
ذلك على حد قوله "مسألة حياة أو موت". الأمر الذي يعزز المخاوف بشأن
اقتصاد المملكة والاتحاد الأوروبي (5)،
ومن الصحيح أن صندوق النقد الدولي وفقًا لتقريره الأخير
"آفاق الاقتصاد العالمي" الصادر في يوليو الجاري، قد رفع توقعه لمعدل
النمو الاقتصادي للمملكة من (1.2%) إلى (1.3%) لعام 2019، إلا أن ذلك يبقى أقل بـ
(0.5 نقطة مئوية) عن معدل النمو الاقتصادي الذي حققته المملكة عامي 2016 و2017.
مما يعني أن أزمة البريكست تؤثر بصورة واضحة على اقتصاد المملكة، وفي ظل حالة
اللايقين من المتوقع أن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي بدون التوصل
لاتفاق سوف يؤثر على الناتج المحلي الإجمالي لاسيما وأنه يسجل انكماشًا منذ أبريل
الماضي، مع قيام كبار مصنعي السيارات بتقديم موعد الإغلاق السنوي المعتاد كجزء من
خطط مواجهة الطوارئ المرتبطة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
منطقة
الشرق الأوسط والتوترات الجيوسياسية
تعاني منطقة الشرق الأوسط من اندلاع الأزمات وتفاقمها
يومًا بعد الآخر، فمن الحرب الدائرة في سوريا بين النظام والمعارضة، إلى الحرب
الدائرة في اليمن بين قوات التحالف العربي بقيادة السعودية والحوثيين بدعم من
إيران، إلى التوترات السياسية بين بلدان الخليج العربي، هذا فضلًا عن التوترات في
الخليج العربي والملاحة البحرية نتيجة قيام إيران باحتجاز ناقلة النفط البريطانية "ستينا
إمبيرو" مؤخرًا، هذا فضلًا عن اتهامها بالقيام بأعمال تخريبية في مياه الخليج
العربي (6).
ونتيجة لهذه الأسباب مجتمعة، فقد قام صندوق النقد الدولي
بخفض توقعه للنمو الاقتصادي في المنطقة إلى (1%) لعام 2019، بعد أن بلغ النمو
الاقتصادي لها (1.4%) عام 2020، ويُرجع الصندوق هذا التخفيض بالأساس إلى العقوبات
الاقتصادية المفروضة من قبل الولايات المتحدة ضد إيران والمتمثلة بصورة أساسية في
العقوبات على تصدير النفط، هذا فضلًا عن الحرب الدائرة في سوريا وإليمن. ويعد هذا
التخفيض هو أقل معدل وصلت إليه المنطقة على الإطلاق.
ويتوقع
الصندوق كذلك أنه إذا استطاعت المنطقة أن
تشهد حالة من الهدوء النسبي خلال عام 2020 مع حل أزمة الملاحة الدولية، وإمكانية
تخفيض العقوبات على إيران مع اللجوء إلى الحوار بشأن الاتفاق النووي، فإنه من
المتوقع أن يصل النمو الاقتصادي في المنطقة إلى (3%)، لكن هذا الرقم مرتبط بحدوث
حالة استقرار في المنطقة.
وفي النهاية، يبدو أن مستقبل الاقتصاد العالمي محفوف بالمخاطر، وكأن العالم في الوقت الحالي بحاجة إلى مزيد من "التعقل" والنظرة الأكثر شمولًا لمستقبل البشرية، لاسيما وأن قادة العالم قبل 75 عامًا أدركوا هذا الأمر بعد – وليس قبل – الحروب والويلات التي شهدها العالم، لكننا في الوقت الحالي نحتاج أن يحدث نفس الأمر ولكن بصورة معكوسة، بحيث يتخذ قادة العالم الإجراءات الصحيحة قبل – وليس بعد – أن تقع الحروب والويلات.
الهوامش
1.
مستجدات آفاق الاقتصاد العالمي:
النمو العالمي لا يزال بطيئًا، 91 يوليو 2019، صندوق النقد الدولي، متاح على:
2.
تقرير آفاق الاقتصاد العالمي،
1 أبريل 2019، صندوق النقد الدولي، متاح على:
https://www.imf.org/~/media/Files/Publications/WEO/2019/April/Arabic/texta.ashx?la=ar
3.
جولة جديدة من المحادثات التجارية
الصينية الأميركية تنطلق اليوم في شنغهاي، 30 يوليو 2019، الشرق الأوسط، متاح على:
4.
النمو العالمي لا يزال بطيئا،
23 يوليو 2019، صندوق النقد الدولي، متاح على:
https://www.imf.org/ar/Publications/WEO/Issues/2019/07/18/WEOupdateJuly2019
5.
Nadeem Badshah, Boris Johnson 'not
bluffing' about quitting EU on 31 October with no deal, 7 Jul 2019, The
guardian, available at:
https://www.theguardian.com/politics/2019/jul/07/boris-johnson-not-bluffing-about-quitting-eu-on-31-october-with-no-deal-brexit
6.
عمرو خليل، تأثير صراع الناقلات
على أسعار النفط العالمية، 31 يوليو 2019، المركز العربي للبحوث والدراسات، متاح
على: