بين الاستعراض والدعاية السياسية .. خطاب ترامب الحماسي في عيد الاستقلال
خلافاً للمتبع من
قبل رؤساء أمريكيين سابقين خطبوا في شعوبهم؛ في ذكرى عيد الاستقلال الأمريكي، الذي
يقام سنويا في الـ4 من يوليو، من أن يكون مضمون الخطاب هو مضمون اتحادي يعبر عن حالة
الفيدرالية السياسية للولايات المتحدة الامريكية، ومشجعا للأمة على مواصلة النجاح والتفوق،
فقد جاء الرئيس ترامب بعكس المطلوب إثباته ، حيث ألقى خطابه وهو محاطاً بمظاهرة عسكرية
شاركت فيها سرب طائرات، ورتل الدبابات والعربات العسكرية، حيث كان الأمر أشبه باستعراض
للقوة في وجه خصومه سواء كانوا في الداخل أو في الخارج.
المغزى السياسي للخطاب
فمن
أمام نصب الرئيس السابق أبراهام لينكولن في واشنطن. وتحت عنوان وضعه ترامب بنفسه
" تحيا لأمريكا"، استعرض الرئيس الأمريكي وعلى ما يبدو قوته في وجه خصومه
سواء على المستوى الداخلي، والمقصود بهم هنا بطبيعة الحال الديمقراطيين، فقد توجه ترامب
نحوهم مباشرة بالإنتقاد والإنتقاص حيث قال في لغة سياسية خبيثة قبيل إلقاءه كلمته على
منصة تواصله الإجتماعي المفضلة تويتر: "يبدو أن الناس يأتون من بعيد للانضمام
إلينا اليوم والليلة إلى أحد أكبر الاحتفالات في تاريخ بلدنا. ونتيجة لذلك الخطاب فقد سارع الديمقراطيون بإتهام
ترامب بتنظيم مسيرة انتخابية في غير محلها، وقال منتقدوه إن تدخله في احتفالات عيد
الاستقلال ترقى إلى استيلاء حزبه الجمهوري على عطلة وطنية من المفروض أن تكون للجميع.
كما قال عضو مجلس النواب عن ولاية فرجينيا، الديمقراطي دون باير، في تغريدة إن الاستعراض
"يعرض البنى التحتية للتلف ويلقي مبالغ طائلة من أموال دافعي الضرائب في النار
الأزلية لغرور دونالد ترامب"، مضيفا أن "الغالبية العظمى من ناخبي دائرتي
والآخرين الذين يعيشون هنا لا يريدون هذا الاستعراض". كما واصل ترامب وأكد للصحفيين
في تحد بأنه يستطيع شن هجوم على سياسات الديمقراطيين بشأن الرعاية الصحية والضرائب.
(1)
وقد
وصف أحد أعضاء الكونغرس مراسم الاحتفال بأنها غرور ترامب. وقال ترامب إن الاستعراض
"لن يكون له مثيل، سيكون متميزا".
ورغم
تحذيرات مسؤولي السلطات البلدية والمحلية في واشنطن من أن العرض العسكري للدبابات والرتل
العسكري سيؤثر على البنية التحتية حيث ذكروا: "قلناها سابقا وسنكررها ثانية: شكرا،
ولكن لا للدبابات". وتبدو الإشكالية كما عرضها الخصوم في مدى قدرة جسر آرلينغتون
على نهر البوتوماك على تحمل أوزان الدبابات التي ستعبره في طريقها إلى مكان الاستعراض.
كما حلقت طائرة "بيونغ 747" المعدّلة التي تستخدم كطائرة "إير فورس
وان" الرئاسية فوق المكان إضافة إلى مقاتلات تثير الصخب يتوقع أن تشمل طائرات
"إف-35" وأخرى من فريق "بلو أنجلز" (الملائكة الزرق) الاستعراضي
التابع للبحرية. (2)
لكن
ترامب على الرغم من التحذيرات التى توقعها الخبراء والمختصين لم يعيرها إهتمامه على
الإطلاق، كما فعل في الوقت نفسه مع أصوات المعارضين بل مضى في طريق إحتفاله وفقا لتصوره
وهواه الشخصي، وقد أوردت صحيفة واشنطن بوست أنه أمر بإجراء عرض جوي يشارك فيه فريق
"الملائكة الزرق" الاستعراضي التابع للقوة الجوية، كما تشارك فيها طائرة
"القوة الجوية واحد" الرئاسية مما أوقف المجال الجوي في سماء واشنطن لمدة
45 دقيقة أخرى بينما يجري عرض للألعاب النارية. كما أمر ترامب بأن يقف قادة صنوف الجيش والبحرية
والقوة الجوية ومشاة البحرية إلى جانبه في الاستعراض، بحسب صحيفة نيويورك تايمز. ولم
يمانع ترامب في العرض من السماح لجمهوره ومؤيديه بالحضور المجاني. الأمر الذي أثار
حفيظة باقي التيارات في المجتمع الأمريكي.
الخطاب .. ومدى تأثيره على الفيدرالية الأمريكية
يبدو
أن الولايات المتحدة الأمريكية التى قامت نتيجة ثورة قام بها المستوطنون الأوروبيون
البيض ضد التاج البريطاني. والذي تأسس الدستور الأمريكي في عام 1787 لنظام اتحادي يتضمن
فصلا للسلطات لم يتغير جذريا منذ ذاك. لكن ما ينشره ترامب في خطاباته وكثرة إنتقاده
للديمقراطيين قد تسببت في حالة من الشقاق. حقا إن الولايات المتحدة الامريكية ليست
بالدولة الهشة الضعيفة. لكن الشقاق وبداية المخاطر تبدأ من أقل وأتفه الأشياء كما يذكر
علماء التاريخ السياسي، إذ كان من المفترض أن تكون كلمة او عظة الرابع من يوليو وطنية
في المقام الأول والأخير، يقوم فيها الرئيس بإستعراض نجاحات الامة ويؤكد كذلك على عظمة
الوحدة، كما كان يفعل أسلافه وبعيداً عن السجالات المعتادة بين الجمهوريين والديموقراطيين،
كما ينبغي أنيتخذ الحفل شكلا مدنيًا أكثر منه عسكريًا.إلا أن إصرار ترامب على لغته
المعهودة منه، جعلت الجميع يتساءل عن قيم المجتمع الامريكي وأهمية الإحتفاظ بحالة الوحدة.
فالخطاب
الترامبي حمل تغييرا واضحا في الشكل والمضمون، ومن ثم تزداد خطورة الأمور في كون ترامب
يحظى بدعم قوي من نحو نصف البلاد ومعارضة شديدة من النصف الثاني قبيل انتخابات عام
2020 التي يسعى للفوز بولاية ثانية فيها. ويبدو انه في سبيل العرش أنه لا يبال بخلق
حالة شقاق من عدمه، بل كثيرا ما يؤكد ترامب على انه يمثل وجه الحقيقة المطلقة ولا يخجل
من إعلان هذا سواء أمام خصومه في الداخل، أو على المستوى الخارجي. ورغم مردود خطابه
السيء، إلا انه يدافع عن نفسه بإستماتة حيث قال مؤخرا:" "أعتقد أنني تمكنت
من الوصول إلى معظم الأميركيين".
ونتيجة
لهذا الخطاب فقد اعتزم متظاهرون معارضون إحياء نسختهم من الاحتفالات السياسية في
"ناشونال مول"، وهو منتزه يمتد من نصب لنكولن التذكاري إلى مبنى الكابيتول.كما
ستطلق منظمة "كود بينك" اليسارية بالونًا كبيراً يمثل ترامب كطفل يضع حفاضات.(3)
وقد
اندلعت أعمال عنف أمام البيت الأبيض في 4 يوليو 2019 بين المحتجين والمتظاهرين المضادين،
ما أدى إلى اعتقالات قبل خطاب الرئيس دونالد ترامب من خطوات نصب لنكولن التذكاري. كما
ردد أنصار ترامب القريبون الذين يرتدون قبعات حمراء ساطعة تحمل شعار "اجعلوا أمريكا
عظيمة مرة أخرى" بوصف المتظاهرين بأنهم "رقاقات ثلجية" وهتفوا
"أنا أحب أمريكا! أحب أمريكا!".
وقد
ذكر البعض بخصوص حضور الحفل إلى أن تذاكره ذهبت فقط إلى المؤيدين وأعضاء الحزب الجمهوري،بينما
تم تجاهل الديمقراطيين وباقي فئات الشعب الأمريكي، كما أشار البعض إن اختزال الامة
في الدبابات وعروض العضلات يجعل الشعب الأمريكي يبدو مختلفا مع بعضه البعض، بدلاً من
أن يكون أمة شديدة التنوع والحيوية.
وكان
عالم الإجتماع النرويجي الأشهر يوهان غالتونج مؤسس معهد بحوث السلام بأوسلو، قد تنبأ
بإنهيار الولايات المتحدة بسبب ترامب، حيث أستند في ذلك إلى خطاب الرئيس الفاشي مع
العالم، وأنه قد كون عداوات كثيرة بين الولايات المتحدة والعالم، وضرب مثالا على ذلك
عداوته مع المهاجرين. (4)
كما كثرت
التنبؤات في عهد ترامب عن الإنهيار الامريكي القريب، وكان الكاتب الكاتب الأمريكى ستيفن
كينزر قد قارن بين الولايات المتحدة الآن والامبراطورية الرومانية القديمة، قائلا إن
واشنطن هى "روما هذا العصر" متسائلا "هل تؤول إلى نفس النهاية؟".(5)
وقال
كينزر - فى مقاله بصحيفة (بوسطن جلوب) الأمريكية - أنه على الرغم من أنها كانت إحدى
أعظم الدول فى التاريخ وبرغم سعة ثروتها ومساحتها وسيطرتها على أوروبا وعلى معظم مناطق
الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلا أن الإمبراطورية الرومانية انهارت فى نهاية الأمر.
وأشار
إلى أن المؤرخ الشهير إدوارد جيبون عزا انهيار الدولة الرومانية إلى تبلُد الشعور بـ"الصالح
العام" لدى المواطنين، فضلا عن أن الحكومة كانت مرهقة من خوض حروب عديدة فى الخارج،
وبات القادة الرومان يظنون - وقد أخضعوا جانبا كبيرا من العالم- أنه لا حدود لقدرتهم
على توسيع نطاق سُلطتهم.
الأمر قد يبدو في ظاهره صعبا في ظل إحتفاظ الولايات المتحدة الأمريكية بقوتها، وكذلك ديمقراطيتها، ولكن قد يبدو هذا منطقيا إذا ما فاز ترامب في الأنتخابات الأمريكية المزمع إجراءها خلال العام القادم، فمع إستمرار الخطاب الترامبي المتعال، ومع تصميمه على إقصاء خصومه، فإن الديمقراطية الامريكية سوف تكون في هذه الحالة على المحك.
الهوامش
1- روسيا اليوم،
ترامب يستعرض القوة في عيد الإستقلال، 5/7/2019
الرابط متاح على:
http://cutt.us/FaYmA
2- بي بي سي عربي، دونالد ترامب يأمر بإشراك
دبابات في مواكب عيد الاستقلال الأمريكي، 3/7/2019 الرابط متاح على:
http://www.bbc.com/arabic/world-48853502
3- Nothing America cannot
do': Donald Trump touts U.S. military ،أمريكا اليوم،4/7/2019، ترجمة إبراهيم صالح، الرابط
متاح على:
4- في الصميم، عالم نرويجي: إنهيار الولايات
المتحدة مسألة وقت،21/12/2018 الرابط متاح على:
https://www.alsamim.com/topics/279
5- أ ش أ، كاتب أمريكى: الولايات المتحدة
تسير صوب الانهيار، مبتدا، 7/8/2018
الرابط متاح على: