متطلبات الدور .. التسلح العسكري التركي والمقاربة الأمريكية – الروسية
تتزايد حدة التوترات في نمط العلاقات الأمريكية –
التركية، بالتقارب والتباعد وفق العديد من المحددات الحاكمة لهذا النمط، أبرزها
ملف العلاقات التركية – الروسية في سوريا، والعلاقات التجارية بين الدولتين، فضلًا
عن موقفهما من إيران التي تستهدفها الولايات المتحدة بالعديد من العقوبات التي
تهدف منها إلى تحجيم الدور الإيراني في المنطقة والوقوف حائلًا أمام امتلاك طهران
للأسلحة النووية، إلا أن ملف التسلح التركي من منظومة الصواريخ الدفاعية الروسية من
طراز S-400، يمثل أبرز الملفات المؤثرة على نمط العلاقات الثنائية بينهما
خاصة وأن الأمر يمتد إلى حلفاء الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي (الناتو)،
التي تشكل تركيا أحدى الدول في عضويته، الأمر الذي يفرض عليها العديد من الالتزامات
تجاه تحقيق الأمن الجماعي لدول الحلف، دون التحرك بصورة منفردة، خاصة في ظل العديد
من المؤشرات التي تؤكد ابتعاد تركيا تدريجيًا عن المعسكر الغربي، ولكن على الرغم من
ذلك ما زال من السابق لأوانه القول بأنها على استعداد لتوحيد قواها مع روسيا، وخاصة
داخل منطقة الشرق الأوسط.
دوافع
ومؤثرات التوجهات التركية
هناك العديد من الدوافع الحاكمة لتوجهات السياسة
الخارجية التركية ما بين معسكري الغرب متمثلًا في الولايات المتحدة ودول الاتحاد
الأوروبي، والشرق متمثلًا في روسيا، خاصة وأن هذه الدوافع في مجملها تظل محكومة
بنمط محدد لا يخرج عن السياسات البراجماتية التي تنتهجها تركيا في تحقيق أهدافها،
ولعل هذه السياسات تبرز بصورة كبيرة إلى الواجهة بسبب تناقضات العلاقات التركية مع
العديد من المحاور، فالعلاقات الأمريكية – الروسية تشهد على مدار تاريخها توترات
عدة حول الملفات المثارة على الساحة الدولية، كما أن العلاقات التركية – الأمريكية
شهدات مؤخرًا العديد من الأزمات التي تبلورت في النهاية إلى فرض عقوبات اقتصادية
من جانب واشنطن تجاه أنقرة، وفيما يلي أبرز الدوافع التركية: (1)
1) توسيع
دائرة التسليح التركية وعدم اقتصارها على نمط تسليحي خاص بارتباطها الخارجية بحلف
شمال الأطلسي(الناتو)، خاصة في ظل العديد من الملفات المتوترة في العلاقات بين
تركيا وسياسة الحلف، وكذلك التوترات في العلاقات التركية – الأوروبية، وكذلك العلاقات
التركية – الأمريكية، في ظل تزايد التوترات بعد قيام الولايات المتحدة وألمانيا من
قبل في عام 2015، بسحب بطاريات صواريخ باتريوت من تركيا. ومن ثم تأتي التوجهات
التركية التسليحية تجاه روسيا لعدم خضوعها تحت تأثير الضغوط الأمريكية والأوروبية
فيما يتعلق بحماية مصالحها.
2) بلورت تركيا
استراتجيتها العسكرية على مواجهة المخاطر الداخلية كالحركات الكردية المسلحة، ومواجهة
الخطر الخارجي وهي الدول المحيطة بها وعلى رأسها سوريا والعراق وإيران وكذلك اليونان
وقبرص رغم انتمائهما إلى الحلف الأطلسي، الأمر الذي أدى إلى خلافات جذرية فيما
يتعلق بالتحركات التركية الخارجية مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، في ظل
تضارب المصالح لكل طرف في مواجهة الآخر.
3) كان
للتحولات في مسارات السياسة الإقليمية والدولية التأثير القوي على تغير وجهة
السياسة التركية ودوافعها، بالإضافة لذلك؛ فإن الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط،
والعلاقات المتوترة مع الولايات المتحدة، وطبيعة القيادة في أنقرة وموسكو هي التي لعبت
دورًا رئيسيًا في تشكيل نمط العلاقات التركية – الروسية، ودفعهما نحو التقارب
السياسي والاقتصادي والعسكري في ظل الارتباطات الجديدة التي برزت في تلك الفترة
خاصة الملف السوري الذي يمثل نقطة محورية لتركيا في تأمين مصالحها الخارجية في ظل
التقارب الجغرافي بين البلدين.
4) بجانب
التحولات التي تمر بها المنطقة العربية خاصة ومنطقة الشرق الأوسط بصورة عامة؛ كان لنمط
العلاقات التركية – الأمريكية، التأثير المباشر على علاقات تركيا الودية مع روسيا؛
فعندما تكون أنقرة وواشنطن متقاربين؛ لا تسعى تركيا إلى الوصول إلى تطوير لعلاقاتها
الثنائية مع موسكو؛ ويمكن الإشارة إلى أن تركيا تعتمد على مقاربتين بفعل تأثير تقاربها
وتباعدها مع الولايات المتحدة، وعلى العكس من الجانب الأول فعندما تشعر تركيا بالإحباط
من الغرب - كما هو الحال الآن بسبب الدعم الأمريكي للقوات الكردية السورية - فإنها
تجد في روسيا حليف أقرب من الغرب، وتعتمد عليه في تأمين مصالحها الحيوية خاصة ملف
الطاقة، وملف التسليح الدفاعي الذي ظهر بصورة واضحة باعتماد تركيا على امتلاك
المنظومة الدفاعية الصاروخية S-400، التي تعارضها الولايات المتحدة وتساوم
عليها تركيا بطائرات F-35.
5) التوترات المتصاعدة في نمط علاقات تركيا بحلف
الناتو، في ظل التوترات بينهما، يمثل أحد المحركات الأساسية التي دفعت تركيا إلى
البحث عن نمط تسليحي آخر بجانب ذلك، في ظل الادراك التركي بأن حلف الناتو لم يعد يوفر
لها الضمانات العسكرية والسياسية الكافية في ظل تزايد حجم التهديدات التي تشعر بها
تركيا في محيطها الإقليمي والدولي، ولعل موقف حلف الناتو من الأزمة التركية – الروسية
التي اندلعت مع روسيا بعد إسقاط أنقرة للمقاتلة الروسية في نوفمبر 2015، عزز اتجاه
تركيا نحو إبرام تلك الصفقة وعدم تكرار الإجراء الذي اتخذته في الشهر ذاته بإلغاء صفقة
منظومة الدفاع الصاروخي مع الصين بعد التحفظات التي أبداها الناتو في هذا الصدد، أي
أن تركيا اتخذت من هذه الصفقة فرصة لعودة العلاقات مع روسيا خاصة وأن تركيا تشترك معها
في العديد من القضايا الأمنية في المنطقة العربية خاصة الملف السوري.
6) يمثل
دور القيادة في صنع السياسة الخارجية أحد أهم الدوافع والمحركات في تركيا وكذلك في
روسيا نحو تحقيق مزيد من التقارب، وهذا النمط من العلاقات جسده الرئيس التركي رجب
طيب أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في بلورة وصياغة أهداف سياساتهما
الخارجية.
7) ملف
الغاز في منطقة شرق المتوسط يعد أحد أهم الدوافع الحيوية والتي برزت بصورة كبيرة
في الفترة الأخيرة، خاصة في ظل التوترات المتشابكة التي تتميز بها تلك المنطقة في
ظل الطموحات الكبيرة لدى دول منطقة شرق المتوسط ومن بينها اليونان وقبرص ومصر، وهم
في الأساس يجمع بينهما العديد من الخلافات السابقة والتي أضاف لها البعد الجديد
أهمية كبرى، ومن ثم تحولت السياسة الخارجية التركية نحو تعظيم قدراتها الدفاعية
والهجومية لمواجهة ذلك التهديد بالتقارب مع روسيا، بعد الانتقادات الموجهة إليها
من دول الاتحاد الأوروبي تجاه نهديداتها للعديد من السفن العاملة في قطاع النفط.
وتأسيسًا على ذلك يمكن القول بأن الرؤية التركية تأتي
وفق العديد من الدوافع والمؤثرات التي تمثل في معظمها رد فعل على السياسات
الأوروبية والأمريكية تجاهها في العديد من القضايا الخارجية والداخلية، ومن ثم تسعى أنقرة إلى محاولة
توظيف كافة الأطراف في الاتجاه الذي يخدم مصالحها سواء في المعسكر الغربي أو
الشرقي، ومن خلال ذلك تهدف تركيا إلى تحقيق مزيد من التفاعل مع السياسات الإقليمية
والدولية ومحاولة لعب دور مهم في صياغة تلك الأحداث خاصة تلك المرتبطة بمصالحها
القريبة، من خلال توظيف التناقضات بين الجانبين لتحقيق أكبر قدر من الاستفادة في تنفيذ أهدافها الإقليمية
وتحقيق حماية لأمنها القومي، وبنت تركيا استراتجيتها العسكرية على مواجهة المخاطر الداخلية
كالحركات الكردية المسلحة، ومواجهة الخطر الخارجي من تقلبات الصراعات الإقليمية والدولية
تكون تركيا أحد أطرافه.(2)
إن امتلاك تركيا لمنظومة S-400، الروسية، سيغنيها
عن استخدام مقاتلات إف 16 الأميركية في الدفاع بالمجال الجوي التركي، وستخولها إمكانية
الرد السريع على التهديدات الخارجية، وبفضل منظومة S-400، لن تضطر أنقرة
إلى إقلاع مقاتلاتها وتوجيهها إلى مسافات بعيدة لمواجهة الخطر القادم من الخارج، وترى
أنقرة أنها باتت تقع في محيط إقليمي مأزوم يفرض عليها امتلاك قدرات عسكرية كافية لحماية
أمنها ومصالحها، على عكس التصورات التي يتبناها حلفاؤها والتي تقوم على أن قدراتها
الحالية تتيح لها القيام بذلك.
المقاربة
الأمريكية – الروسية
لا يمكن فهم دوافع السياسة التسليحية التركية أو دوافع
سياساتها الخارجية دون التطرق إلى حدود العلاقات الأمريكية – الروسية التي تعد
المحور البارز والأهم في التحكم في هذه التوجهات ونذكر في هذا الاتجاه عملية
التوترات بين كلًا من تركيا من جانب والولايات المتحدة وروسيا من جانب آخر بصورة
فردية؛ فالنسبة للعلاقات الأمريكية – التركية؛ فقد شهدت بينهما برودة غير مسبوقة منذ
سنوات طويلة، بدأت مع عدم تجاوب الولايات المتحدة في ملف تسليم فتح الله جولن زعيم
حركة الخدمة، والمتهم من قبل تركيا بتنفيذ عملية الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو 2016، ومن قبل علقت البعثة الأمريكية في تركيا
والبعثة التركية في واشنطن خدمات إصدار التأشيرات بعد اعتقال أحد موظفي البعثة الأمريكية
في تركيا في أكتوبر 2017، بتهمة الانتماء إلى حركة الخدمة بزعامة فتح الله جولن وأرجعت
كل بعثة القرار لحاجتها إلى إعادة تقييم التزام الطرف الآخر بأمن أفرادها، وعليه، فتحت
السلطات الأمريكية التحقيق بحق 15 شخصًا من أفراد حماية الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان،
على خلفية الأحداث التي وقعت أمام السفارة التركية في واشنطن، خلال زيارة أردوغان لها
مايو 2017. تبع ذلك قيام السلطات الأمريكية بفتح تحقيقًا آخر بحق 19 تركيًا بينهم
15 عنصر أمن، بتهمة الاعتداء على محتجين، وجرى إعداد لائحة اتهام بحقهم، فيما أعربت
الخارجية التركية، عن أسفها لقبول محكمة أمريكية لائحة الاتهام، وكذلك ملف تسليم
القس الأمريكي أندرو برونسون، وهذه الأحداث كان لها الأثر الكبير على نمط العلاقات
التركية – الروسية من حيث التقارب معها خاصة بعدما فرضت الولايات المتحدة العقوبات
الاقتصادية على تركيا مما دفعها إلى التوجه شرقًا لمواجهة هذه الضغوط.(3)
على الجانب الآخر؛ كانت موسكو وأنقرة على وشك المواجهة العسكرية
في أواخر عام 2015، بعد أن أسقطت تركيا طائرة روسية، والموقف من الجماعات المسلحة في
أدلب؛ حيث تعتزم روسيا والنظام السوري ومعهم إيران التخلص من الجماعات المسلحة، إلا
أن تركيا تعارض الهجوم على إدلب لوجود الفصائل المسلحة المدعومة من جانبها ولعل اتفاق
موسكو وأنقرة فيما يتعلق بالدخول إلى إدلب وإن كان توافقيًا مرحليًا، إلا أنه بديلًا
عن المعادلة الصفرية في ذلك الأمر، بالإضافة إلى الخلاف بين الجانبين فيما يتعلق بمستقبل
النظام السوري بقيادة بشار الأسد، على الرغم من التصريحات التركية الأخيرة المتعلقة
بإمكانية التعاون مع النظام السوري في المرحلة الانتقالية.
ومن ثم فقد تشهد العلاقات الثنائية بينهما تصادمات محتملة
في سوريا، في حال تقارب الأتراك مع واشنطن، على حساب العلاقات مع روسيا، الجدير بالذكر
أن تركيا ليست لديها مشكلة مع التواجد الأمريكي في سوريا، فتركيا ترى في واشنطن أنها
ضمانة لتحقيق توازن القوى على الأرض في سوريا، خاصة في مواجهة تمدد النفوذ الروسي والإيراني
على حساب النفوذ التركي، ولكن تركيا ترى في الدعم الأمريكي المقدم للأكراد هو محور
الخلاف بين الجانبين.
يضاف لذلك وبالنظر إلى الانخراط الروسي العسكري في الحرب
الأهلية السورية منذ عام 2015، في ضوء سياساتها الهادفة إلى إبقاء الرئيس بشار الأسد
في السلطة، كان ذلك شكل من أشكال الاشتباك والتقاطع بين روسيا وتركيا الجار الاستراتيجي
لسوريا، ومن ثم فإن التعامل المباشر بينهما أمرًا لا مفر منه تقريبًا. وتداخل هذا التوتر
بين التعاون والصراع مع مرور الوقت، ولكن يبدو أن الجانبين قد استقروا على التعاون
في النصف الثاني من عام 2016. وبحلول ذلك الوقت، كانت روسيا تسيطر فعليًا على شمال
سوريا غرب الفرات. لذلك كان على تركيا الاعتماد على موافقة روسيا للقيام بعمليات عسكرية
على طول حدودها، أولًا ضد الدولة الإسلامية، وثانيًا ضد القوات الكردية السورية.
(4)
ختامًا: تتحرك تركيا بسياسة التناقضات بين الفاعلين الإقليمين والدوليين لرسم الخطوط الفاصلة في سياساتها الخارجية العامة والتسليحية بصورة خاصة، وبالتالي ليس هناك انفصال بين توجهات السياسة التركية بل أضحت مفاتيح السياسة الخارجية التركية مبنية بصورة أكبر على التفاعلات الإقليمية والدولية.
المراجع
1) الأصدقاء الأعداء .. هل على الولايات المتحدة أن تخشى من
العلاقات الروسية التركية؟، على الرابط:
2) سباق التسلح .. تركيا بين اعتبارات المصلحة القومية والتزاماتها
الخارجية، على الرابط:
3) اتفاق منبج ومستقبل العلاقات التركية الأمريكية، على
الرابط:
4) تقارب حذر .. تركيا والموقف من العقوبات الأمريكية على طهران،
على الرابط: