الاحتواء الناعم... الاستراتيجية الفرنسية في التعاطي مع العائدون من سوريا
أثارت أزمة العائدون من مناطق الصراعات إلى أوروبا حالة
من الجدل داخل العواصم الأوروبية، نتيجة رفض بعض الدول استقبالهم، في حين استجابة
دولة أخرى كانت في مقدمتهم فرنسا التي حاولت احتواء الأزمة لتجنب تفاقمها في
المستقبل، وذلك في سياق ما تواجه القيادة الفرنسية من تحديات داخلية تكاد تصف بأمن
واستقرار البلاد. بجانب تنامي التهديدات
الخارجية المستمرة نتيجة سياساتها تجاه الشرق الأوسط.
توقيت
الأزمة
تزامنت هذه الأزمة مع تقدم قوات سوريا الديمقراطية المدعومة
من الولايات المتحدة إلى أخر معاقل تنظيم "داعش" في سوريا في منطقة
"الباغوز" التي تسيطر عليها الدولة الإسلامية "داعش"، التي
تبلغ مساحتها كيلومترًا واحدًا في محافظة دير الزور السورية، وتمكنها من السيطرة
عليها لتعلن القضاء على التنظيم بشكل رسمي، الأمر الذي أدى إلى إثارة الجدل حول مصير
المقاتليين الأجانب الذين انضموا إلى التنظيم، علاوة على كيفية إدارة الوضع
الإنساني والقانوني لنساء والأطفال.
فوفقًا للمفوضية الأوروبية، انضم أكثر من 42000 مقاتل أجنبي
إلى عدد من التنظيمات الإرهابية بين عامي 2011 و 2016، ويعتقد أن حوالي 5000 منهم من
أوروبا. (1) وقد استطاعت قوات سوريا الديمقراطية احتجاز ما يقرب من 850 مقاتل في السنوات
القليلة الماضية، حسب الولايات المتحدة، مما دفع نداءات واشنطن لدول لإعادة مواطنيها
ومحاكمتهم. وقد جاءت دعوة "دونالد ترامب" في الوقت الذي يستعد فيه للمطالبة
بنهاية الخلافة في شمال غرب سوريا مع سقوط المدينة الأخيرة التي تسيطر عليها داعش.
(2)
وقد مثلت دعوة واشنطن للدول الأوروبية لاستعادة
المقاتلين، ورقة جديدة للضغط عليهم. فمنذ تولي "دونالد ترامب" الحكم سعى
في انتهاج سياسات مغايرة تجاه أوروبا، مرتكزة على إعادة تشكيل نمط التعاون
والشراكة الاستراتيجية معهم، علاوة على المشاركة العادلة في تقاسم أعباء الأمن
الأوروبي من خلال زيادة مخصصات الأمن والدفاع في حلف شمال الأطلسي.
الموقف
الأوروبي
تباين
الموقف الأوروبي بصفة عامة من هذه الأزمة، وكيفية التعاطي معها في ظل تنامي موجات
الهجرة، وعدم السيطرة عليها، والتوافق حول السياسات الخاصة بها وفقًا لاستراتيجية
الاتحاد الأوروبي. بدأت بعض الدول الأوروبية وفي مقدمتهم جمهورية مقدونيا الشمالية
بإعادة توطين كبيرة للعائدون؛ حيث استعادت سبعة من المقاتلين ومحاكمتهم في أغسطس
2018. في يناير/ كانون الثاني، بينما قالت فرنسا إنها تفكر
في إعادة 130 رجلاً وامرأة إلى وطنهم ليتم محاكمتهم، لكن بعد مرور شهر ، يبدو أنه لم
يتم إحراز أي تقدم.
ويقال إن ألمانيا، التي لديها الكثير من المقاتلين الأجانب،
تراقب القضية الفرنسية عن كثب. وقالت وزارة الخارجية الألمانية في بيان في نوفمبر
/ تشرين الثاني: إن "الحكومة الفيدرالية تدرس جميع الخيارات لعودة محتملة للمواطنين
الألمان". (3)
وفيما يتعلق بنساء "داعش" حاولت بعض الدول الأوروبية
تخليص نفسها من مأزقها بالقول إنها ليست مسؤولة عن مساعدة الأشخاص الذين هجروا بلادهم
على العودة إلى ديارهم - حتى لو لم يتمكنوا من رفض قبولهم إذا تمكنوا من الحصول على
جوازات سفر والوصول وطنهم. (4)
ويمكن فهم الموقف الأوروبي في
سياق حالة عدم التوافق بين القوى الدولية حول السياسات الموحدة الخاصة بالاتحاد
تجاه هذه الأزمات التي أصبحت عبئًا عليهم، كما انعكست بشكل عميق على الداخل
الأوروبي، وأسفرت عن تنامي الاحتجاجات، بالتوازي مع تعالي أصوات قوى اليمين
المتطرف، والشعبويين برفض سياسات الاتحاد تجاه العائدون من مناطق الصراعات، وذلك
لحماية وضمان استقرار الأمن الأوروبي الذي يتعرض لعدد من التهديدات الخارجية في ظل
المتغيرات الدولية والإقليمية المتلاحقة.
التحرك
الفرنسي
اتخذت فرنسا موقفًا واضحًا منذ بداية الأزمة
السورية، مستندًا إلى التوصل إلى تسوية سلمية لإنهاء القتال الدائر بين القوى
السياسية وبعض التنظيمات الإرهابية، تمهيدًا لبحث سبل التعاون بين الشركاء
الفاعلين في الأزمة لتسويتها، حفاظًا على وحدة وسيادة الأراضي السورية.
بجانب تمكين وصول المساعدات الإنسانية للسكان
المدنيين، والعمل على ضمان عودة الاستقرار على المدى الطويل للمناطق المحررة من تنظيم
"داعش" من أجل تجنب أي عودة من الجماعات الإرهابية. وبالتالي فهي تدعم العديد
من المنظمات غير الحكومية والهيئات متعددة الأطراف التي تنشط على أرض الواقع.
لذا يمثل تحسين الوضع الإنساني في سوريا أولوية بالنسبة لفرنسا؛ حيث أعلنت القيادة الفرنسية أن المساهمات الإنسانية خلال الفترة من
2018-2020 ستصل إلى أكثر من 1 يورو مليار دولار للشعب السوري والمجتمعات المضيفة
في البلدان التي تستقبل اللاجئين ستبلغ أكثر من 250 مليون يورو في شكل منح و850
مليون يورو في شكل قروض. يشمل هذا
التعهد برنامج الاستجابة للطوارئ في سوريا وقدره 50 مليون يورو والذي أعلنه الرئيس
الفرنسي في 16 أبريل/ نيسان 2018. (5)
احتواء
العائدين
في سياق التحالف الدولي والهجوم على معاقل
تنظيم "داعش" سوريا، وإعلان فرنسا موافقتها في التعاطي الحذر مع
المقاتلين والعائدون من سوريا، واستمرار حالة الجدل حول مصيرهم في ظل عدم التوافق
الدولي في التعامل معهم فقد سمحت لهم بالعودة خاصة لحاملي جنسيتها لمحاكمتهم على جرائمهم
في المنطقة بشرط توفير محاكمة عادلة لهم، بحسب تقرير البرلمان الأوروبي.
وقد أبدت الحكومة الفرنسية مؤخرًا استعدادها لنقل المزيد من مقاتلي
التنظيم من سوريا. (6) وذلك نتيجة تزايد عدد الفرنسين المنضمين إلى صفوف
"داعش" في العراق وسوريا وبلغ عددهم ما يقرب من 1700 فرنسي منذ 2014،
قتل منهم 450 مقاتل.
وفيما يتعلق بالأطفال فقد تم نقل عدد كبير
منهم إلى باريس إلا أن وزارة الخارجية الفرنسية لم تقدم رقمًا دقيقًا حول العائدون
من الأطفال؛ حيث أعلنت فقط عن عودة "القاصرين اليتامى والمعزولين، وجميعهم من
عمر 5 سنوات أو أقل". (7) والجدير بالذكر أن عدد الأطفال المولدين من آباء
فرنسيين يبلغ عددهم 450 طفلاً.
وعليه يعد ملف العائدون من أهم التحديات التي ستواجه فرنسا في المستقبل، لما له من تداعيات على الهوية والأمن القومي الفرنسي بشكل عميق. لذا فقد أطلقت الحكومة الفرنسية في مارس/ آذار 2019، مشروعًا يساهم في إعادة دمج الأطفال العائدون في المجتمع الفرنسي بعد عودتهم، ومساعدتهم في حماية أنفسهم، فضلاً عن التخلص من التأثيرات النفسية والعصبية التي تعرضوا لها إبان النزاعات والصراعات وذلك تحت إشراف وزاري يشمل وزارة التعليم، والداخلية، والأسرة والطفولة. (8)
الهوامش
1.
Rachael Kennedy, "What is Europe's
approach to repatriating ISIS members? Euro news answers", euro news,
7-3-2019. https://www.euronews.com/2019/03/07/what-is-europe-s-approach-to-repatriating-isis-members-euronews-answers
2.
"Trump: EU must take back 800 Isis
fighters captured in Syria", the guardian,
17-2-2019. https://www.theguardian.com/world/2019/feb/17/islamic-state-isis-baghuz-trump-calls-on-european-allies-to-take-800-fighters-captured-in-syria
3.
Rachael Kennedy, Ibid.
4.
"In legal
limbo: EU returnees in the post-ISIS era", 26-2-2019. https://www.ecfr.eu/article/commentary_in_legal_limbo_eu_returnees_in_the_post_isis_era
5.
"War
in Syria: Understanding France’s position”، France Diplomatic. https://www.diplomatie.gouv.fr/en/country-files/syria/war-in-syria-understanding-france-s-position/
6.
" كيف تتعامل أوروبا مع مواطنيها العائدين من "الدولة
الإسلامية"؟"، هئية الإذاعة البريطانية، فبراير 2019. http://www.bbc.com/arabic/world-47270847
7.
Elian Peltier, “France Repatriates Several
Orphan Children Who Were Stranded in Syria”, The New York Times,
15/3/2019. https://www.nytimes.com/2019/03/15/world/europe/france-isis-repatriates-children.html
8. " الحكومة الفرنسية تطلق مخططا لإدماج أبناء الجهاديين العائدين إلى أراضيها"، فرانس 24، 25-3-2019. http://cutt.us/6z7N