الحضور الديني في الثورة السودانية .. قراءة في خريطة الفاعليين، دورهم، وأهدافهم
يلعب
الدين دورًا هامًا في لحظات الأمم الفارقة مثل لحظات الحرب، والتغيير السياسي
المتمخض عن أزمات الشرعية السياسية كاللحظة التاريخية التي تمر بها الحالة السودانية.
ودائمًا ما اتهم علماء سوسيولوجيا الأديان بالغرب الموقف السلبي للإسلام من التحول
الديمقراطي والاصلاح السياسي مستشهدين بذلك بحالة الديمقراطية في الدول الإسلامية
والعربية، ولكن الواقع السياسي يُبرز الدور السلبي الذي يُمكن أن تلعبه الأديان
عمومًا في تعطيل التحول؛ بمعنى أنه ليس قاصرًا على ديانة بعينها، فقد لعبت الكنيسة
دورًا سلبيًا في تعطيل التحول في أوربا وأمريكا اللاتينية ثم استفادت من أخطائها
ودعمَّت موجة التحولات السياسية التي شهدتها دول أوربا وأمريكا اللاتينية في موجات
التحول الديمقراطي بدءًا من ثورة الإصلاح الديني وصولًا إلى المشاركة في
الاحتجاجات من خلال تبني مطالب المحتجين كحالات التحول التي شهدتها البرازيل
والأرجنتين وتشيلي.
سيتناول
هذا التقرير دور الدين في المجال العام في الثورة السودانية من خلال دراسة طبيعة
هذا الدور وانعكاساته على القوى السياسية الدينية المؤثرة في حالة الحراك التي
شهدتها السودان منذ ديسمبر/كانون الأول 2018 حتى الآن. ويتطلع هذه التقرير إلى
محاولة دراسة الحضور السياسي (سواءً الرسمي أو غير الرسمي) في الفضاء الديني
السوداني بعد ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 التي أطاحت بحكم الحركة الإسلامية في
السودان.
الظاهرة الدينية في الحالة
السودانية ... نظرة تفكيكية
تتعدد
مقاربات تحليل وفهم الظاهرة الدينية عمومًا، وذلك لفهم ميكانيزمات العلاقة التي
تحكم الدين والسلطة. وتذهب بعض التحليلات إلى ما هو أبعد من ذلك؛ حيث تسعى للإجابة
على تساؤلات تتعلق بدور المجتمع في فهم العلاقة بين ثنائية السلطة والدين، وهل
يُمكن أن يلعب الدين دورًا مؤثرًا بغض النظر عن نمط تدين المجتمع أم أن تدين
المجتمع يعتبر حلقة الوصل بين هذه الثنائية. ولّما كانت الحركة الإسلامية بقيادة
الرئيس السوداني السابق "عمر البشير" تحكم السودان منذ أكثر من ثلاثين
عامًا، وهو ما انعكس بالطبع على نمط تدين المجتمع سواءً من خلال قوانين الآداب
العامة التي فرضتها حكومة البشير، أو التعليم، أو وسائل التنشئة والتربية المختلفة.
وفي نفس السياق الذي يجعلنا نٌفكر في تغير نمط تدين الشعب السوداني خلال الثلاثين
عامًا الماضية بفعل السلوك الحكومي، نذهب إلى ما يُمكن تسميته بالمقاومة
"الهيمنة المضادة" التي طرحها عالم الاجتماع "جرامشي" وهي
تتعلق بمقاومة التدجين الثقافي الذي عملت حكومة "البشير" على ترسيخه
طوال فترة حكمها سواءً عن اقتناع أو كمحاولة لاكتساب الشرعية والجماهيرية (1). ويبدو اتجاه المقاومة، والهيمنة المضادة في
تصدر إعلان قوى الحرية والتغيير الذي يهيمن عليه الحزب الشيوعي السوداني للمشهد
السياسي وذلك في ضوء تهميش الأحزاب والحركات الإسلامية التي يُنسب لها سوء وتدهور
أوضاع السودان طيلة الفترة الماضية، وهو ما يعني بطريقة أو بأخرى أن ثورة 2018
كانت موجهة لنمط الحكم الديني الذي رسخه حكم الحركة الإسلامية طوال الفترة الماضية.
وبالعودة لأحداث الربيع العربي في
2011، فقد كان أهم ما يُميزها خروجها وتجمعها حول المساجد كوسيلة للتعبئة وتنظيم
الحشود، وهو ما يختلف تمامًا في الحالة السودانية التي تحصن فيها النظام الحاكم
بالمساجد والمؤسسات والجماعات والدينية، بل واتخذ من منابر المساجد وسائل لمقاومة
الاحتجاجات التي ضربت السودان أواخر عام 2018 سواءً بتحريم الخروج عليه أو تكفير
من يخرج ضد نظام الحركة الإسلامية. وظهر المحتجون في كثير من المشاهد في مواقف
المعارضين للأئمة المحسوبين على نظام الحركة الإسلامية "الكيزان" الذين
لم يتوانوا كما ذكرنا أعلاه عن مهاجمة الاحتجاجات واتهامها بأنها احتجاجات ضد
الدين مستدلين في ذلك إلى قيادة الحزب الشيوعي السوداني للاحتجاجات والاعتصامات.
ويبرز هنا اتجاه الأداتية الذي يحكم العلاقة بين السلطة السياسية والمؤسسة الدينية
في السياق العربي والإسلامي على وجه العموم، والسوداني على وجه الخصوص. وفي هذا
الاتجاه، حاول "البشير" استخدام الدين لقمع الآراء المخالفة له وهو ما كان
يفعله طوال فترة حكمه سواءً في الحرب الأهلية التي انتهت بإعلان انفصال جنوب
السودان عام 2009 بعد فشل إعلان الجهاد المقدس الذي أطلقه ضد مسيحي الجنوب في
بدايات الصراع، أو حتى في علاقاته مع القوى والأحزاب السياسية السودانية المناوئة
لحكمه.
خريطة الفاعلين الإسلاميين
في الثورة السودانية
تضم
خريطة الفاعلين الإسلاميين في الثورة السودانية عدد كبير من الكيانات سواءً
المحسوبة على النظام السياسي السابق، أو حتى الكيانات المنشقة عنه. وفي هذا
السياق، سنتناول أهم الفاعلين في هذا الخريطة بهدف تفسير سلوكهم السياسي مستقبلًا
وتأثيره على مستقبل الثورة السوداني التي يتزعم حراكها أطرافُ غير محسوبين على
خريطة اللاعبين الدينيين في السودان.
1.
الحركة الإسلامية السودانية: ارتكز حكم البشير على الدعم اللامحدود الذي قدمته له
الحركة الإسلامية بالسودان بدءً من دعم انقلاب البشير عام 1989 وصولًا إلى تديين (religionization)الحرب الأهلية التي انتهت بانفصال جنوب السودان. وتتكون
الحركة الإسلامية السودانية من 3 عناصر أساسية وهم؛ حزب المؤتمر الوطني الحاكم،
وحزب المؤتمر الشعبي الذي أسسه الأب الروحي للحركة الإسلامية السودانية "حسن
الترابي"، والإخوان المسلمون(2). ورغم سقوط نظام "البشير" إلا أن هذه
الكيانات الثلاث ما زالت قادرة على الحشد والتأثير على الرأي العام السوداني
مستفيدة من تغلغلها في جسد الدولة السودانية طوال الفترة الماضية. وقد اتخذ حزب
المؤتمر الوطني الحاكم موقفًا معارضًا تمامًا من الاحتجاجات وانحياز الجيش لها،
وطالب بالإفراج عن "البشير"، وعلى العكس من ذلك، حاول حزب المؤتمر
الشعبي أن يُظهر نفسه في جبهة الثوار، وذلك لمواكبة الحراك الشعبي. وفي هذا
السياق، اعتبر "بشير آدم رحمة" نائب الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي
دعمه لموقف الجيش معتبرًا انه جاء كرد فعل لموقف الشعب السوداني في ميادين
الاعتصام. أما فيما يتعلق بالإخوان المسلمين، فيرى المحللون أنها تحاول أن تتوارى
عن الأنظار هذه الفترة لتجنب غضب الشارع المواتي لأي تصرف حكومي
من السلطات الانتقالية ضد الحركة الإسلامية وأذرعها. وهناك العديد من المؤشرات
والدلالات التي تؤكد لفظ الشارع السوداني لكل ما هو على علاقة بالحركة الإسلامية
مثل تعرض مستشار الرئيس السوداني السابق والقيادي في الحركة الإسلامية
"إبراهيم السنوسي" للطرد من أحد منابر المساجد بالسودان (3)إضافة إلى دعوات الحل والإقصاء التي تُطلقها
ميادين الاعتصام وقوى التغيير ضد عناصر الحركة الإسلامية. ويدعم الإسلاميون رؤية
المجلس العسكري الانتقالي بتولي شخصية عسكرية لمجلس السيادة المقرر له إدارة
البلاد خلال الثلاث أعوام المقبلة. ويقول "حسن رزق" نائب رئيس حركة
الإصلاح المنشقة عن حزب المؤتمر: "نتفق
معهم في أن يكون هناك مجلس وزراء مدني تكنوقراط، ولكن يكون المجلس السيادي برئاسة
القوات المسلحة لأن هناك مشكلة أمن".
2.
حزب الإصلاح: يُعد حزب
الإصلاح آخر الكيانات المنشقة عن البشير؛ حيث انشق حزب الإصلاح بقيادة "غازي
صلاح الدين" احتجاجًا على مقتل 200 متظاهرًا في موجة الاحتجاجات التي شهدتها
السودان عام 2013. وانضم إلى "صلاح الدين" عددُ من شباب الإسلاميين
الذين يرون أنفسهم أكثر انفتاحًا وليبرالية على المستوى السياسي. ورغم مشاركة حزب
الإصلاح في المظاهرات ضد البشير إلا أن الشارع السوداني يُبرز سخطًا كبيرًا لكل ما
له علاقة بالحركة الإسلامية السودانية وهو التحدي الأكبر الذي يواجه حزبي الإصلاح
وحزب المؤتمر الشعبي.
3.
هيئة علماء السودان: يعتبرها
السودانيون كيانًا حزبيًا تابعًا لحزب المؤتمر الوطني نظرًا لسيطرة الإخوان
المسلمين عليها، وتُتهم بالتمويل من الحزب نفسه. وللهيئة العديد من المواقف الاجتماعية
والسياسية والدينية التي أثارت حفيظة السودانيين مثل دعم البشير، ودعوتها لمنع
الغناء والطرب، ودعم قطر في الأزمة الخليجية الأخيرة وهو ما ينفي عنها صفة
الدينية، ويجعلها تخلط بين ما هو ديني وما هو سياسي، وهو الشيء الذي ضاق به
السودانيين وثاروا عليه أواخر 2018. وعملت الهيئة مؤخرًا على خطب ود المجلس
العسكري الانتقالي الحاكم من خلال تحريمها دعوات الإضراب التي أطلقتها قوى الحرية
والتغيير(4).
4.
التيارات السلفية: أسهم
انقلاب الحركة الإسلامية عام 1989 في نمو الظاهرة السلفية بتشكلاتها المختلفة؛ حيث
أسهم انقلاب 1989 في تحول السودان إلى مسرح لنشاط السلفيين المطرودين من بلادهم،
وكذلك الذين قدموا من حرب أفغانستان وذلك بحجة إقامة دولة الخلافة في السودان، واحتضنهم نظام البشير،
ووفر لهم إمكانات الدولة السودانية بمن فيهم التيار الجهادي الذي تزعمه
"أسامة بن لادن"(5). وضمن النمط الديني الذي ظهر عليه حكم البشير طوال
الفترة الماضية تأييدًا ودعمًا له من قبل الحركات السلفية السودانية بمّن فيهم
جمعية أنصار السنة المحمدية التي لم تتوانى عن دعم البشير سواءً في دعم ترشحه
للانتخابات أو مساندته في قمع الاحتجاجات المختلفة التي مرت على السودان، والتي
كان آخرها احتجاجات ديسمبر/كانون الأول 2018. في المقابل، يُلوح المجلس العسكري
الانتقالي بتعبئة وحشد الحركات السلفية والدينية لمواجهة قوى الحرية والتغيير
بدعوى الحفاظ على الهوية الإسلامية للسودان. وظهر ذلك في لقاءاته مع ممثلي جمعية
أنصار السنة المحمدية التي دعته للتوافق وتغليب مصلحة السودان، وكذلك تدخله لتأجيل
مليونية الشريعة الإسلامية التي دعا لها التيار الإسلامي السوداني لمواجهة قوى
الحرية والتغيير التي يتهمون الحزب الشيوعي السوداني بقيادتها.
5.
التيارات الصوفية: استطاعت الحركة الصوفية السودانية أن تؤسس لنفسها دورًا
سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا في المجتمع السوداني، وذلك لما لها نفوذ روحي وتأثيري
على مريديها الذي يُعدون بالآلاف. ورغم أن الصوفيين لم يكن لهم دور سياسي في
السودان إلا أن عام 2017 شهد تأسيس أول حزب صوفي سوداني برئاسة "عبد الجبار
الشيخ بلال"، وهو شيخ الطريقة السمانية الطيبية، وهو ما قد يفتح الباب واسعًا
أمام احتمال أن يكون لهم دور سياسي في الفترة المقبلة خاصة أن المجلس العسكري
الانتقالي يعمل خلال هذه الفترة على توسيع قاعدته الجماهيرية بعد عدم توافقه مع
قوى "إعلان الحرية والتغيير" على طبيعة المرحلة الانتقالية. تجدر
الإشارة إلى أن الطرق الصوفية شاركت في اعتصامات القيادة العامة داعمة مطالب
الثوار، ولكنها في الوقت نفسه حرصت على التواصل مع إدارة المجلس العسكري
الانتقالي؛ حيث التقى وفد ممثل لمشايخ الطرق الصوفية بنائب رئيس المجلس العسكري
الانتقالي "محمد حمدان دقلو"، وأكدوا له على ثقتهم في إدارة المجلس
العسكري الانتقالي. ويظهر من هذا اللقاء سعي المجلس العسكري إلى كسب ثقة الطرق
الصوفية لمواجهة قوى "إعلان الحرية والتغيير" خاصة أن الصوفيين في حالة
عداء مستترة مع الحركة الإسلامية والسلفيين المدعومين من نظام البشير في السابق
بسبب اتهامهم بالذندقة ومخالفة الشريعة الإسلامية في ممارسة شعائرهم الصوفية.
ختامًا؛
عمل هذا التقرير على تفكيك
الظاهرة الدينية في السودان وتقاطعاتها مع إرث نظام الرئيس السابق
"البشير" الذي حكم البلاد لمدة 30 عامًا بشعارات تطبيق الشريعة وحماية
الدين، وهو ما كان له أثرًا سلبيًا على الدولة السودانية سواءً في استقلال جنوب
السودان أو هروب الكفاءات العلمية. وأبرز التقرير كذلك عددٍ من الملاحظات التي تخص
الفاعلين الدينيين في السودان، ويُمكن إجمالها فيما يلي:
1. رغم تغلغل التيارات الدينية في الدولة السودانية
إلا أنهم لا يُعتبروا قوة مؤثرة في المرحلة الانتقالية التي يتصدرها قوى "إعلان
الحرية والتغيير" للتفاوض مع المجلس العسكري الانتقالي.
2. قد تعمل القوى
الإسلامية السودانية خلال هذه الفترة على استغلال الخلاف الواقع بين المجلس
العسكري الانتقالي وقوى "إعلان الحرية والتغيير" من أجل أن تخلق لنفسها
فرصة للعودة إلى الواجهة السياسية ولو تدريجيًا، وذلك من خلال إعلان انحيازهم للمجلس
العسكري الانتقالي الذي يتخوفون من سلوكه نحوهم خاصة في ظل توفر الظرف السياسي
والدعم الشعبي للقضاء على وجودهم، وحل أجهزتهم وكياناتهم الموازية لمؤسسات الدولة.
3. يُمكن أن تشهد الفترة
المقبلة سيولة في ظهور قوى دينية جديدة مؤثرة سياسيًا لا سيما من التيار الصوفي
الذي تربطه بالمجلس العسكري الانتقالي وقياداته علاقات وثيقة خاصة أن رئيس المجلس
"عبد الفتاح برهان" ينتمي إلى أحد هذه الطرق. وتأكد ذلك بحرص نائب رئيس
المجلس العسكري الانتقالي "حميدتي" بمقابلة وفد الطرق الصوفية لاطلاعهم
على آخر تطورات العملية التفاوضية التي بدأها المجلس مع قوى "إعلان الحرية
والتغيير".
4. ستشهد السودان الفترة
المقبلة صراعًا حول الهوية التي يجب أن يكون عليها السودانيون؛ حيث نصت الوثيقة
التي تقدمت بها قوى "إعلان الحرية والتغيير" على مدنية الدولة، وهو ما
اعتبره التيار الإسلامي محاولة للعلمنة والتغريب، وهددوا بتنظيم مليونية أمام
القصر الجمهوري أواخر أبريل/نيسان 2019 باسم "تيار نصرة الشريعة ودولة
القانون" لمناهضة ما اعتبروه دعوات العلمنة، ولكن تم تأجيلها بعد تدخل نائب
رئيس المجلس العسكري الانتقالي "حميدتي"، وتواصله مع الداعين لهذه
التظاهرة.
5. وثيقة قوى إعلان الحرية والتغيير التي تقود الحراك في السودان والتي قدمتها للمجلس العسكري الانتقالي على أن "السودان جمهورية مستقلة ذات سيادة، مدنية، ديمقراطية، تعددية، لا مركزية، تقوم فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة بدون تمييز بسبب الدين والعرق والنوع والوضع الاجتماعي".
الهوامش
1.
Bates, Thomas R. “Gramsci
and the Theory of Hegemony.” Journal of the History of Ideas, vol. 36, no. 2,
1975, pp. 351–366. JSTOR, www.jstor.org/stable/2708933
2.
محمد عطايا، الحركة الإسلامية
في السودان: صعود بانقلاب ثم طرد من السلطة، مصراوي، على الرابط:
3. مصلون يطردون مساعد البشير السابق من مسجد بالخرطوم،
وكالة أنباء الأناضول، على الرابط:
4. عبد
الجليل سليمان، هيئة علماء السودان.. انتهازية إخوانية تسعى للسلطة، حفريات، على
الرابط:
https://www.hafryat.com/en/node/681
5. التيارات
السلفية في السودان، مركز التقدم العربي للسياسات، على الرابط: