"تركيا" وتطور الهوية الجيو-استراتيجية لمنطقة شرق المتوسط
أثارت
تركيا حالة من الجدل إبان انطلاق سفينة الفاتح التركية عملياتها في شرق البحر المتوسط؛
حيث انتقدت قبرص هذه الخطوة باعتبارها تقويضًا لسيادة البلاد بموجب القانون الدولي.
وعلى الجانب الآخر أوضحت تؤكد تركيا أن لها الحق في البحث عن الغاز الطبيعي في هذه
المنطقة، لأن حقوق تركيا في مياه المتوسط قد تم قبولها بموجب قرار للأمم المتحدة، وتجادل
بأن جميع أنشطتها تجري في منطقتها الاقتصادية الخالصة. لذا فقد حاولت الإدارة القبرصية اليونانية زيادة الضغط من خلال التهديد
بالقبض على طاقم سفينة الحفر ردًا على التحركات الاستفزازية من قبل أنقرة.
في المقابل صرحت وزارة الخارجية التركية إنها "ستواصل
حماية حقوقها ومصالحها داخل الجرف القاري، وكذلك حقوق القبارصة الأتراك". فيما
صرح " تشاووش أوغلو" وزير الخارجية التركي "أن أنقرة انتهت من
أنشطة الاستكشاف، والآن ستدخل مرحلة الحفر بواسطة سفينة "الفاتح"، كما
سيتم إرسال سفينتين إلى المنطقة "، وذلك على الرغم من الضغوط الدولية لعدد من
الفاعلين الدوليين في المنطقة، لأن أمن ومصلحة تركيا تُعد خط أحمر. (1)
شرق المتوسط في العقيدة
التركية
تطورت هوية
منطقة شرق المتوسط نتيجة حالة التنافس بين القوى الإقليمية والدولية الكبرى، فيما سعت
بعض منها إلى تشكيل تكتلات اقتصادية، لخلق إطار للتعاون، والتنسيق المشترك فيما
يتعلق بكيفية الاستفادة، وتحقيق المصلحة المشتركة للجانبين، فضلاً عن دعم وحماية
سيادة الشعوب في استثمار ثرواتهم الطبيعية.
وفي هذا
السياق؛ تجلت مصالح بعض الدول مثل مصر، التي تنظر إلى الانتماء إلى البحر المتوسط على أنه جزء
من مواردها وامتداد لسيادتها الجغرافية والوطنية لا يمكن المساس به، وفرصة لتعزيز مكانتها
الرائدة في الساحتين الإقليمية والدولية، التي تتجلى في تمركز مقر منتدى الغاز في القاهرة.
وفيما يتعلق بإسرائيل فإنها ترى أن تطور العلاقات في منطقة شرق المتوسط هو جزء
أصيل من أمنها القومي، وترغب أن تكون جزء منه، حتى لا تُطوق وتُعزل من قبل القوى
المنافسة لها في المنطقة. (2)
فيما تسعى
اليونان أيضًا إلى دور مركزي في المنطقة، نظرًا للمزايا المستمدة من عضويتها في حلف
الناتو والاتحاد الأوروبي. في حالة اليونان وقبرص، الافتراض هو أنه من خلال التعاون
في شرق البحر الأبيض المتوسط، يمكن لهاتين الدولتين التغلب على بعض الآثار السلبية
لانعدامهما الديموغرافي العددي، وبالنسبة لتركيا فإنه يتجلى في عدد من
الأبعاد على النحو التالي:
1.
البعد الاقتصادي؛ تعد تركيا من الدولة المستوردة للطاقة، وتعتمد على دول أخرى
مثل روسيا وإيران من أجل تلبية احتياجاتها من الطاقة. وقد بلغت وارداتها من الهيدروكربونات
إلى 45 مليار دولار أمريكي في عام 2018، وهو ما يمثل ضغطًا كبيرًا على الميزانية، حيث
ضعفت الليرة مقارنة بالعام الماضي. لهذا السبب، لذا فمن الضروري أن تجدد مواردها الطبيعية
من أجل تقليل الاعتماد على الأسواق الخارجية. بفضل احتياطاتها المؤكدة الضخمة من قبل
دول أخرى.
2.
البعد الطاقوي؛ تسعى أنقرة إلى أن تصبح دولي رئيسي في نقل الطاقة من دول
الشرق الأوسط إلى أوروبا وآسيا، ومن روسيا إلى أوروبا مرتكزة على عدد من المشاريع والبنية
التحتية المؤهلة لذلك تحاول أنقرة فتح مجال جديد يعزز من مكانتها في أسواق الطاقة،
ويدعم اقتصادها الي شهد عدد من الاهتزازات القوية في الآونة الأخيرة على غرار
تحركات التوسعية في دول الجوار الجغرافي.
3.
البعد الدفاعي؛ القيادة التركية لا تفكر في منطقة الشرق الأوسط من منظور
اقتصادي فحسب بل تسعى إلى خلق موطئ قدم استراتيجي، يخدم احتياجاتها الأمنية الوطنية.
وتجلى ذلك في الأنشطة العسكرية لتركيا في شرق البحر المتوسط باعتبار المنطقة
خط دفاع في مواجهة التهديدات التي قد تأتي من الجنوب. (3)
الأهمية الجيو-استراتيجية
للمنطقة
مع زيادة
استكشافات الطاقة في منطقة شرق المتوسط، تنامت أهميتها في بشكل كبير، وقد تمثل ذلك
في تحركات الدول الكبرى تجاه المنطقة مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا،
بجانب الصين وتركيا ويرجع ذلك لعدد من العوامل التي تتمثل أبرزها كما يلي:
1-
من الناحية التجارية؛ تعد المنطقة مركز تجاري (وهو ما يفسر اهتمام بكين)، وهو
ما ينعكس على تعزيز مكانة قناة السويس ودورها كمعبر دولي تجاري بين الشرق والغرب.
لذا فقد بدأت بيكين في زيادة عدد الصادرات إلى الأسواق في الشرق الأوسط وأوروبا
نتيجة قصر المسافة. فيما تسعى الدول الأوروبية في فتح أسواق جديدة في المنطقة
والاستفادة من ثروات المنطقة بما يدعم مكانتهم الدولية من خلال الاستثمارات والتعاون
الاقتصادي ذي الصلة و / أو من خلال وجود عسكري/ بحري لتأمين الطرق البحرية التجارية.
2-
من الناحية الأمنية؛ تمثل المنطقة عازلة ضد التهديدات النامية على محيطها. وبشكل
أكثر تحديدًا، إلى جانب نشاط الجماعات الإرهابية؛ حيث يتميز القوس الممتد من أفغانستان
إلى أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بعدم الاستقرار، والاتجار بجميع أنواعه، والجريمة
المنظمة عبر الوطنية، والفقر واللامساواة، والأصولية الدينية، والأنظمة الفاسدة والمستبدة،
والدول الفاشلة وخطر انتشار أسلحة الدمار الشامل هو مجرد عدد قليل من سماتها.
3-
مصدر لتنويع الطاقة للاتحاد الأوروبي؛ يتابع الاتحاد الأوروبي تطوير خطط إضافة لحماية أمن الطاقة
الأوروبية، وتقليل الاعتماد على الغاز الروسي، وهذا يستتبع البحث عن موردين جدد وطرق
جديدة. تقدم منطقة شرق البحر المتوسط كليهما، طالما تم اتخاذ الخيارات
الصحيحة بناءً على المعايير المالية والتقنية والجيوسياسية. علاوة على ذلك، فإن الاكتشافات
الحالية وقدرات التصدير المستقاة (والتي من المتوقع أن تزداد في السنوات القادمة)،
تشير إلى أن جميع الأطراف المعنية يمكن أن تكون راضية. (4)
4-
من الناحية العسكرية؛ تمثل المنطقة مجالًا حيويًا لمراقبة الأحداث العسكرية وغيرها
في الشرق الأوسط. وإذا دعت الحاجة، فيمكن استخدامها كمنطقة انطلاق للعمليات (في ليبيا،
وسوريا على سبيل المثال). (5)
"الغاز"
في ديناميات الجيو-استراتيجية
مع تحول توازنات
القوة في المنطقة لصالح بعض القوى الدولية، بما يتماشى مع تغيير الفائدة الجيواستراتيجية
لكل ممثل، وتنامي اكتشافات الغاز في حوض بلاد الشام والفرص المرتبطة باستغلاله. قد
ساهم ذلك في تشكيل توازن إقليمي جديد للقوة في الشرق البحر الأبيض المتوسط.
تجسد ذلك
في تراجع العلاقات السياسية بين تركيا وإسرائيل منذ إسرائيل الحملة العسكرية
"عملية الرصاص المصبوب" في قطاع غزة في عام 2008 وبعدها إبان حادث مرمرة
ي عام 2010، وكذلك بين تركيا ومصر منذ عام 2013 الأمر الذي انعكس على نمط التكتلات
في المنطقة.
كما ساهم
التعاون المصري اليوناني القبرصي في خلق شركات جيواستراتيجية جديدة في المنطقة،
تقوم على تبادل المصالح بين الجابين بما يدعم العلاقات بينهم على كافة الأصعدة. لديها لعبت
دورا هاما في تحويل التحالفات في المنطقة. بالإضافة إلى التعاون
في القضايا المتعلقة بالدفاع والأمن.
وعليه
تتخوف أنقرة من هذه التكتلات الإقليمية التي من الممكن أثر عليها بشكل عميق في
محيطها الجغرافي، وتؤدي إلى تطويقها، لذا يجادل الكثير من الباحثين أن أنقرة ستسعى
إلى تعزيز علاقتها بشكل معلن مع إسرائيل وروسيا، كما ستعيد تمركزها في سوريا وخاصة
في المناطق المحاذية لمنطقة المتوسط لتفرض نفسها كفاعل في المنطقة، لديه طموحات
توسعية في مجال الطاقة ترغب في تحقيقها.
بجانب
التعاون مع الاتحاد الأوروبي (EU) الذي لديه مصالح مشتركة في المنطقة مع
تركيا تتبلور حول مصادر الطاقة في شرق المتوسط التي من
الممكن أن تعزز إمدادات الغاز إلى مناطق المرهونة بالغاز الروسي في جنوب شرق ووسط أوروبا
في المقابل، من المتوقع بروز الدور الروسي في المنطقة بقوة وهو ما سيواجه ردع من الولايات المتحدة، لحماية توازنات القوة في المنطقة لصالحها ولصالح حلفاءها (إسرائيل)، على الرغم من أن الولايات المتحدة هي في الأساس مستقلة في موارد الغاز الطبيعي، فقد أعربت عن اهتمامها بالمنطقة. (6)
الهوامش
1.
İsmail Numan Telci, “Why the Eastern
Mediterranean is of Strategic Importance for Turkey”, The New Turkey
13/5/2019. https://thenewturkey.org/why-the-eastern-mediterranean-is-of-strategic-importance-for-turkey
2.
Ofir Winter, Gallia Lindenstrauss, "Beyond Energy: The Significance of the Eastern
Mediterranean Gas Forum",
The Institute for National Security Studies, INSS Insight No. 1133,
February 3, 2019. https://www.inss.org.il/publication/beyond-energy-significance-eastern-mediterranean-gas-forum/
3.
İsmail Numan Telci, Ibid.
4.
Konstantinos Filis, “The Strategic Value
of the Eastern Mediterranean”, stratfor, 21/5/2017. https://worldview.stratfor.com/article/strategic-value-eastern-mediterranean
5.
Konstantinos Filis, Ibid.
6. Sohbet Karbuz, Geostrategic Importance of East Mediterranean Gas Resources, In: André B. Dorsman, Volkan Ş. Ediger , Mehmet Baha Karan, Energy Economy, Finance and Geostrategy (Springer International Publishing AG, ISBN 978-3-319-76867-0, January 2018). Pp. 250: 253.